دخلتُ مجموعةَ (دعاة إلى الخير) فرع نزب، فوجدت فضيلة الشيخ "محمد السعيدي" طلب من تلاميذه أن يكتب كلٌّ منهم خاطرة توضح فضلَ الأم وأثرَها في تربية أبنائها.
رأيت نفسي أعود إلى حلب قبل واحد وخمسين عاماً، 1969 للميلاد حين كنت طالباً في السنة الثالثة في كلية اللغات بحلب، فرع اللغة العربية، وقد كلفتني تربية حلب أن أدرس في إعدادية الحسن بن الهيثم في /محلة العرقوب/ اللغة العربية للصف السابع، وقد طلبت إلى تلاميذي أن يكتبوا موضوعاً يعبرون فيه عن حبهم لأمهاتهم يصوّرون أحاسيسهم وعواطفهم تجاههنَّ.
وفي الأسبوع التالي استمعت بعض ما كتبوه، وكنت أناقشهم فيما كتبوا ليصوبوا أخطاءهم بأنفسهم.
تلميذي بشار - أراه والكرسيَّ الذي يجلس عليه سواءً، فلا حسَّ ولا نبس -، بيدَ أنه اليوم رفع إصبعه وتقدم مني حتى كادت إصبعه تلامس عيني يرجوني أن يقرأ موضوعه.
قلتُ لِمَ لا يدلي بدلوه وهو تلميذ كتب موضوعه كما فعل غيره من التلاميذ، تعالَ يا بني حدثني عن حبك لوالدتك وتقديرِك لها.
تقدم رافعاً رأسه على غير عادته واثقاً بنفسه، وفتح دفتره وقال:
أمي، أيتها العزيزة إلى قلبي، كم أحبك واقدر عطاءك، وأرجو الله أن يحفظك، إن الوحدة والحرية والاشتراكية أمل الأمة في بناء جيل وطني واعٍ.....
تعجبتُ من تحوله إلى فضائل الشعارات الثلاث التي كانت تضغط على أعصاب الأمة في ذاك الزمن واسترساله في روعة هذه الشعارات وعظمتها، وأن حزب البعث حزبٌ رائد حوّل الأمة البائسة إلى منعطف الرخاء والحياة الرغيدة.
لم أقاطعه وكأنني خلتُ إبرةَ المذياع اصابها خلل فانتقلتْ إلى إذاعة أخرى تسمعنا غير ما كنا نسمع، ولا بد أن يَصلُح الخللُ ذاتياً، لكن تلميذي استمر دقائق قليلة وكأنه رئيس الجمهورية (الأتاسي) في ذلك الوقت أو رئيس وزرائه(يوسف زعيِّن) يخلطان كعادتهما /عبّاساً بدباسٍ/، فلما أنهى كلماته العصماء التفت إليَّ واثقاً أنني سأعطيه على موضوعه الدرجة التامّة أو ما يدانيها.
التفتُّ إلى التلاميذ أسألهم رأيَهم فيما سمعوا، فكان أحدهم يقترح الدرجة الثامنة عشرة من عشرين وغيره يقترح الدرجة السادسة عشرة..وهكذا، وما رفعوا درجاتهم إلا لأن أستاذهم ظلَّ ساكتاً يسمع، ولا يصوِّب أو يعبَس، وكان هادئاً فظنوا أنني راضٍ بما كان يهرف.
قلت لهم: لو أن والد أحدكم أعطى ابنه ليرتين وطلب إليه أن يشتري كيلاً من لحم الجمل- وهذا سعره تلك الأيام- فعاد الولد وقد اشترى تفاحاً وبرتقالاً وقليلاً من الحلاوة، ما ترون الأبَ فاعلاً؟ كان جوابهم بين غضب الأب وضربِه ولدَه وسبه وشتمه.
هنا قلت لهم: كان موضوعنا هذا اليوم عن الأم وفضلهاُ لا عن الشعارات: الوحدة والحرية والاشتراكية. فكم ينال من عشرين؟ غيّرَ التلاميذُ قناعاتهم، وأعربوا أن زميلهم خرج عن الموضوع واستحق الصفر. وهذا ما فعلتُ، فأنا أحب الشورى في مثل هذه الحالات!! وغيرِها طبعاً.
أما هذا التلميذ النجيب، فقد رأى عمله حبط، ولم يدر السبب سوى أن الاستاذ يكره الوحدة والحرية والاشتراكية، وجلس في مقعده كعصفور بلَّلَته زخاتُ المطر، إن أحسنّا الظنَّ، أو خرج من حفرة...وقع فيها.
وقبل انصرافي يأتي طالب من الصف التاسع – مسؤول الشبيبة - يسألني عما جرى في الصف، فقد شكاني إليه تابعُه اللبيب.
أخبرته بما كان، ولا بد من إخباره والتفاعل معه، فمدير المدرسة الحزبي الكبير يدعمه ويؤيده، وأنا طالب في الجامعة، أعتمد على عملي هذا في تأمين ضروريات الدراسة الجامعية.
قلت له متغابياً لماذا تهتم بهذا التلميذ؟ قال انضم إلى فرع الشبيبة منذ فترة، ما كنت أرضى أن ينضم إليها فمستواه في كل المواد ضعيف.
قلت له سأذكر لك أسماء عشرةٍ من أشد التلاميذ كسلاً في الشعبتين اللتين أدرِّسُهما، من كل شعبة خمسة. فلما ذكرتهم أخبرني أن تسعة منهم ينتسبون للشبيبة، فنصحته أن يستقطب العاشر!!
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول