الأم الفلسطينية في صفوف المعركة

لقد ركب الله الحياة على قانون التدافع، فجعل في الخير والشر قوة تجاذب وتدافع ذاتية الدفع، فلا يكاد يمر على الناس زمان لا يتدافع فيه النقيضان، ولا يحاول الشر فيه أن يميل على الخير، هكذا ركب الله هذه الحياة؛ (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) (البقرة: 251).

 

في كل مراحل الصراع، كان الفضل بعد الله عز وجل لشباب ذوي سواعد قوية، غذيت بلبن صالح، ونمت في رعاية حانية، ورضعت مع اللبن القيم والأخلاق والعقيدة، فكان هذا النشء الصالح القوي المؤمن الشجاع هو الجدار الذي تتحطم عنده آمال الطغاة وأحلامهم.

 

لا شك، إذن، أنك عرفت دور المرأة في هذا الصراع، إنها المصدر الأول لهذه المادة الخام التي تشكلت في مظهر صف متلاحم متراص، إن صفا فيه ألف شاب، وراءه صف فيه ألف امرأة، وإذا كانت المعركة قد دامت ساعات أو أياماً، فإن معركة صناعة هذا الجيش دامت لأكثر من عشرين سنة، تحملت فيها المرأة من الآلام والأعباء أضعاف ما يتحمله هذا الشاب الواقف في صفوف المعركة.

 

هذا هو الشيء الذي يغيب عن المتسائلين اليوم: أين النساء؟ ولماذا لا نراهن في الصفوف الأولى يحملن البنادق ويدافعن عن البلاد؟

 

لقد صنعن بالمغازل ما يصنع الرجال بالبنادق، وحققن بتحريك المهد يمنة ويسرة ما يحققه المقاتل في كرّه وفره، لقد خضن معركة الصبر والتحمل والإعداد، ونجحن فيها، وما الجهاد إلا صبر وتحمل وإعداد، فلا يكون هذا إلا بهذا، ولا يتحقق هذا النصر إلا من خلال ذاك النصر، ولا يحتفل الجيش بالإنجاز، إلا إذا سبقه احتفال الأمهات بالتربية والإنضاج.

 

إن هذا الجندي الواقف بثبات، الذي يرتعب العالم منه، ما هو إلا تلك القطعة الصغيرة من اللحم، التي تتحرك في قماش أبيض، تبكي وتصرخ ولا تعرف إلا امتصاص الحليب، فمن الذي أحال هذا الكائن اللطيف الوديع إلى أسد يزمجر بين الصفوف، وإلى قلب ثابت كالجبال، وخلق نبيل كأخلاق الأنبياء؟

 

هنيئاً للمرأة، تتعب عشرين عاماً، حتى يكتمل الشاب في ريعانه، وتنبت في وجهه شعيرات الجلال، ويتلألأ وجهه بإشارات الجمال، ثم ترسله من حضنها إلى حضن الموت وهي تردد: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي) (آل عمران: 35)، فتكون في جهادها أعظم المأجورين، لقد أجرت على تربيتها، وأجرت على تجهيز ابنها للغزو، وأجرت على جهاده، وأجرت على استشهاده، وقد قال : «من جهز غازياً فقد غزا».

 

إن الهزيمة الحقيقية تبدأ قبل المعركة بعشرين عاماً، تبدأ الهزيمة حين تنشغل الأمهات عن دورهن، فيدرن بين المكاتب والحافلات والمصانع والمتاجر، متلاهيات أو ملهّيات عن أدوارهن العظيمة، فيهزل الأبناء في بنيتهم وعقيدتهم وأخلاقهم، ويتحول الجيل إلى جيل تائه لا يعرف صديقه من عدوه، بل لربما تاه حتى ارتمى في أحضان الأعداء، واستحضر معي لو أن موسى عليه السلام لم يتلق الرعاية الأخلاقية من أمه التي صنعته على عين الله في قصر فرعون! كيف كان سيعرف من هو عدوه ممن هو من شيعته؟ (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) (القصص: 15)، لقد كان الفرعوني أقرب إليه في هويته، لولا أن الله حرم عليه المراضع.

 

إن الحرب في غزة اليوم قد حُسمت نتيجتها قبل عشرين عاماً، حسمتها المرأة الغزاوية التي أنجبت أعلى معدل إنجاب في العالم، وزرعت في أبنائها معاني العزة والثبات وهم أطفال يلعبون بالحجارة، لذلك لست خائفاً على غزة، أنا خائف على غيرها من بلاد المسلمين.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين