الأمومة... إشباعٌ وإبداع

الأمومة... إشباعٌ وإبداع


بقلم: الأستاذة إباء محمد الدريعي


إذا أردتِ أن تكوني مبدعة... كوني أمّاً.
وإذا أردتِ أن تكوني أماً.. كوني مبدعة.
إنها ليست مقولةً لأحد الفلاسفة أو أحد علماء التربية النفسية؛ بل مقولة أمٍّ عاشت تجربة رائدة مع أبنائها، استمتعت بها في كل المراحل، وجاهدت في جميع الميادين، وأبدعت في إنشاء أسرة متماسكة في هذا الزمن، وأشبعت حاجاتها العاطفية في تقديم كل الحنان والأمومة لعائلتها.
لعلّ هذه التجربة لا تعبّر كثيراً عن واقع المرأة اليوم، لكنها تجربةٌ تستحق أن تُدْرس وتتعلّم منها النساء بشكل عام والأمهات بشكل خاص لكي يتمتّعن بأمومتهن.. ليس فقط لأجلهنّ بل لأجل ولادةِ جيلٍ جديد.
فكيف يمكن أن نجعل من الأمومة متعة؟ وهل بالإمكان أن نتخلص باعتبارنا أمّهات من العادات السيئة والمفاهيم المغلوطة التي سيطرت على التربية داخل البيوت فترةً كبيرة من الزمن؟
لا شكَّ أن هذه التساؤلات تحتاج إلى كثير من الجهود على المستوى الاجتماعي والثقافي والتربوي في المجتمع.
ولكن، حيث إنّ الأسرة تُعتبر المحرِّك الأول لاتِّجاهاتِ شخصية الفرد، لا بدّ من وقفة عندها، لنصحّح المفاهيم.
لذا فلا بدَّ من تنشئة أُسْرية متوازنة، ولا بدّ من وجود أمٍّ تدير الدّفة دوماً نحو الإيجاب، وتتعامل مع أبنائها بتوازن. وهناك بلا شك أنماطٌ كثيرة للتربية يتّبعها الآباء والأمهات، وسنقف عند بعضها:
1. التسلط والقمع: حيث نرى أمهات يفرضن القواعد والقوانين بطريقة الاستبداد دون تشاور أو حوار أو نقاش، يُلزمن أطفالهن بتنفيذ القرارات بإرادة صارمة ولا يُعِرن لأقوالهم وآرائهم أهمية، وربما يستهزئن ويحقّرن كلَّ خطوة أو ميلٍ أو مبادرةٍ شخصية.
ولا بدّ من معرفة الفارق بين السلطة واالتسلط، فالسلطة هي صِمَام الأمان للموازنة بين الصواب والخطأ، وهي القوة الخَفِية التي تعلِّم الأبناء تحمُّل المسؤولية والقيام بالمهام بأساليب تتراوح بين اللّين والشدة حسب ما يقتضي الحال.
وحَرِيٌّ أن تعلم الأم أن أسلوب القمع والتسلُّط يمنحها على المدى القصير الشعور بالقوة والضبط ولكنه يؤدي على المدى البعيد إلى عدم نضج الطفل وضَعف شخصيته وعدم قدرته على اتخاذ القرارات بشكل إفرادي حتى بعد أن يصبح الولد أباً أو تصبح البنت أمّاً.
2. القسوة: يؤكد بعض علماء التربية أنّ الإكراه في التربية والقسوة واستخدام العنف يكون نتيجة التسرُّع وعدم الاحترام الكافي للطبيعة الإنسانية، ويترتب على ذلك طفلٌ متمرِّد مسلوب الإرادة، يُقدِم على عمله متردِّداً، يتوقع ترصّد الآخرين له حيث إنه اعتاد الشك والانتقاد للوسط المحيط به.
وطبيعي في مثل هذه البيئة ألاّ تفكر الأم في التواصل مع أبنائها أو الإجابة بموضوعية عن تساؤلاتهم، ولن يكون لدى الأبناء تفكير سوي؛ إذ أن تأثير القسوة يصل إلى عمق الشخصية ويصبح التفكير مرتبطاً بهاجس واحد هو وجود خطر دائم من الآخرين عليهم مواجهته والدفاع عن أنفسهم.
3. الحماية الزائدة: لعلَّ فطرة الأم وخوفها على أبنائها يؤديان إلى التصرف بطريقة خاطئة وهي لا تدري.
فكما أن التسلط والقمع والقسوة هي طرقٌ سلبية في التربية يجب عدم ممارستها، كذلك الأمر في الحماية الزائدة والرعاية التفصيلية بحيث تحرص الأم بطريقة مفرِطة على حماية ولدها وهي لا تدري أنها تحرمه من التدرُّب على حمل الأعباء الصغيرة حيث يترسخ في ذهن الطفل أن هناك مَن يقوم بحلِّ مشاكله. فينشأ اتكالياً لا يُعتمد عليه في المواقف الاجتماعية، ولا يمكنه الانخراط في جماعة أو مع فريق عمل.
إن حماية الأم الزائدة لطفلها تُضعف لديه ملَكة التفكير، فلا يعود قادراً على حَلِّ مشاكله، وتتّّسم شخصيته فيما بعد بالخوف، فضلاً عن استعداده للاستجابة للفساد ورفاق السوء، كما يفقد القدرة على التحكم في انفعالاته، ويصبح عُرضة للأمراض النفسية والجسدية.
4. الإهمال واللامبالاة: ويبرز هذا النمط داخل الأسرة عند عدم التوافق الأُسْري الناتج عن العلاقات الزوجية المحطمة أو عند انشغال كل من الأب والأم بعمله الخاص لتأمين متطلبات الحياة. وأخطر ما في الأمر هو الاعتماد في هذه الحالة على خادمة لرعاية حاجات الأبناء، وهذا خطأٌ فادح تقع فيه الأم. فالرعاية وتقديم العطف والحنان وإشباع حاجات الأبناء النفسية هي حقٌّ واجبٌ على الأم لا ينبغي التفريط فيه أو تضييعه أو تسليمه لأيٍّ كان.
ومِثْلُ هذا الإهمال يؤدي إلى فقدان الأبناء مكانتهم داخل الأسرة كما يحرمهم من نشوة الفوز والنجاح. فالفشل والنجاح في هذه البيئة نتيجتهما واحدة، مما يولِّد الشعور بعدم الأهمية وفقدان الأمان والتشتتَ ويدفعهمُ الاضطراب إلى التلاعب واستغلال المواقف لصالحهم وحماية أنفسهم. فيصبح الواحد منهم عدوانياً قَلِقاً يُترجم ذلك في مدرسته على شكل استخفاف وإهمال وعنف طوال الوقت.
5. الحزم والاتزان في التربية: لا أحد ينكر أنّ عملية التربية  مسؤولية مشتركة بين الأب والأم، ولا أحد ينكر أيضاً أنّ الأم هي التي تقضي معظم وقتها مع أبنائها، بينما يقتصر جلوس الأب على فترات قصيرة محدودة وبأوقات متباعدة.
لذا فإنه من المهم أن تحظى الأم بالتعلم والدِّراية اللازمَيْن لتربية أبنائها بحيث يمكنها أن تصل إلى إيجاد توازن وترسم حدوداً واضحة دون ضغط أو تحكُّم؛ وهذا هو التوازن في التربية الصحيحة.
إنَّ الأم المتوازنة في رعاية أبنائها تعبّر عن عظيم حبها لهم وتقدِّر آراءهم وتتقرب منهم وتفخر بتصرفاتهم وتمنحهم مساحة من الحرية لتنظيم سلوكهم، ولا شك أنها ستُذكي روح التنافس والإبداع عندهم. ذلك أن السلوك الإبداعي يتأثر بالحالة النفسية والوجدانية، فعن طريق تأمين الأمن النفسي وتوفير جوّ يسوده المرح والبهجة ستتفتّح طاقات الأبناء الفكرية وتتحوَّل بعد ذلك إلى مهارات وقُدُرات تنقل لهم الخبرات، فلا تحتاج الأم بعد ذلك إلى العِظة والإرشاد المباشر إلا عند الضرورة.
وعلى العموم كلما مالت الأم في تعاملها مع أبنائها إلى الصداقة والتفاهم والسلاسة الممزوجة بالمحبة والعطف أثمر ذلك اتِّزاناً في السلوك الاجتماعي وتفجَّر بعد ذلك إبداعاً تتمتع به الأم وتهدي للمجتمع أيضاً طاقة بشرية متوازنة ينعم بها الجميع على المدى الطويل


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين