الأمن ثلث الغنى

 

 

عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) الترمذي.

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يومه، فكأنما حيزت له الدنيا). ابن حبان.

هذا الحديث جعل المذكورات مجتمعة توازي حيازة الدنيا وما فيها.. ويلاحظ أن الأمن في السرب يمثل ثلث هذا الغنى.. فقوله صلى الله عليه وسلم: (آمِنًا في سِربِه) قال: في النِّهاية: «بكسر السين: أي في نفسه. قال: ويروى بالفتح، وهو المسلك والطَّريق». 

وفي مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: «(فِي سِرْبِهِ): الْمَشْهُورُ كَسْرُ السِّينِ أَيْ: فِي نَفْسِهِ، وَقِيلَ: السِّرْبُ الْجَمَاعَةُ، فَالْمَعْنَى فِي أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَقِيلَ بِفَتْحِ السِّينِ أَي: فِي مَسْلَكِهِ وَطَرِيقِهِ، وَقِيلَ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: فِي بَيْتِهِ كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ... ».

إذن هذه العبارة: (في سربه) رويت على ثلاثة أوجه:

(سِرْبه) – بكسر السين وسكون الراء -: النفس والأهل والعيال.

(سَرْبِهِ) – بفتح السين وسكون الراء -: الجادة والطريق.

(سَرَبِهِ) - بفتح السين وفتح الراء: البيت. وعادة تطلق في اللغة على البيت الذي تحفره الوحش تحت الأرض، لذلك قال الإمام ملا علي القاري: « فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُبَالَغَةَ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ وَلَوْ فِي بَيْتٍ تَحْتَ الْأَرْضِ ضَيِّقٍ كَجُحْرِ الْوَحْشِ، أَوِ التَّشْبِيهَ بِهِ فِي خَفَائِهِ وَعَدَمِ ضِيَائِهِ».

فثلث الغنى أن يشعر الرجل بالأمن والأمان، ولن يشعر به إلا إذا كان في نفسه آمنا، وفي أهله وولده آمنا، وفي بيته وبلده ووطنه آمنا.

 

أما الأمن النفسي 

فعمدته الركون إلى الله تعالى بصدق الإيمان به وجميل التوكل عليه، كما قال تعالى في سورة الأنعام حكاية عن سيدنا إبراهيم عليه السلام في مناظرة قومه: ?وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ?.

وأما الأمن في الأهل والولد:

فلن يشعر المرء به إلا إذا أحس أنهم لا يهدَّدون بعيشهم، ولا يضيَّقُ عليهم في حريتهم، ولا يُستَهدَفون بسبب آرائهم واختياراتهم .. 

وهذا أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول للخوارج: (لكم علينا ثلاثا: أن لا نمنعكم مساجدنا، وألا نمنعكم حقكم في الفيء، وألا نقاتلكم حتى تكونوا أنتم من بدأ القتال)، وهم مجموعة عسكرية فارقت جماعة الناس وأقامت لها كيانا خاصا، ومع ذلك لم يجد في ذلك سببا لمقاتلتها لأنها حرة فيما تتبناه، ولكنه حذرها أنها إذا فرطت في حياة الآمنين واستباحت دماءهم، فحينها وجب قتالها. 

فما بالكم بأناس عندهم رأي خاص يخالف رأي الحاكم، لا هم أقاموا كيانا عسكريا، ولا اعتدوا على الآخرين، بل جل ما فعلوه أنهم لهم وجهة نظر مغايرة لوجهة نظر الحاكم، فيؤخذون هم، وأبناؤهم، وأزواجهم، وآباؤهم، وأمهاتهم.. فيقضون قتلا تحت التعذيب في السجون، ويمكثون فيها الدهور والسنون، ومن خرج منهم خرج معطوبا زمِنا لا يقدر على فعل شيء .. أبمثل هذا يقام الأمن؟ 

لا ، وإنما الذي يقيم الأمن في الأهل والولد أن يشعر الإنسان بأن الفرص متاحة لأولاده وأهله كما لغيرهم سواء، لا يميزهم عن غيرهم في الفرص إلا الهمم والإرادات ..وليس القرابات والزعامات، والأموال والمحسوبيات..

وأنهم لا يحاسَبون على اختيارات أبنائهم وأزواجهم وآبائهم، فلا يُستخدَمون وسيلة ضغط في حمأة الصراع الفكري والسياسي وحتى العسكري القائم.. 

ويشعر مع ذلك أنه إذا أصاب أحدا من أهله مكروهٌ فإنه لا يُطرد عن أبواب المشافي لعدم وجود المال ، أو تغير المزاج والحال ، أو المظهر الخارجي الدال على هيئة معينة أو مذهب معين .. 

باختصار: لن يشعر بالأمن في الأهل والولد إلا إذا كان الحاكم عادلا ، وبواجباته تجاه الناس عاملا.. من هنا نفهم ذلك البعد الإنساني والأمني في كلمة الفارسي الذي قال لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حكمت فعدلت فأمنت فنمت).. 

وأما الأمن الوطني:

فإن المرء لن يشعر بالأمن في بيته ووطنه إذا كان هناك خطر أمني يتهدده، ولأجل ذلك اتخذت الجيوش لتحمي أعراض وأرواح العباد، ولتحافظ على الممتلكات، ولتمنع التهديدات الخارجية، ولتمنع أصحاب المشاريع الشخصية من التلاعب بمصير الشعوب وأمنها وقرارها .. 

ولكن هذه الجيوش ينبغي أن يكون همها هو ما أنشئت لأجله لا أن تستغل لتحصيل منافع سلطوية فتتحول إلى آلة تدمير بدل أن تكون آلة حماية ، وتصبح مصدر خوف ورعب بدل أن تكون مصدر أمن وأمان ..

لذلك فإن الشعور بالأمن عنوانه العدل في كل الجوانب، وبالأخص العدل من الحاكم، لأنه هو الأقدر بما تحت يده من مقدرات أن يعطي كل ذي حق حقه. 

فتحت يده القضاء، فينبغي أن يكون القضاء مكانا لتحصيل الحقوق لا لتضييعها، فلا يعقل أن يكون القضاء وسيلة للانتقام من الآخرين، أو لمعاقبة المخالفين بغير حق.. لأن العدل إذا فقد في هذه المؤسسة فإن الفوضى ستعم وسيتحول الناس إلى أن يحصلوا حقوقهم بأيديهم .. وحينها ينعدم الأمن في الوطن ..

وتحت يد الحاكم خزينة الدولة فينبغي أن ينفق منها بعدل ومساواة بين جميع أبناء الوطن، فلا تشعر فئة من الناس أنها مهملة أو منسية أو أنها خارج حسابات الإنماء المتوازن واهتمامات الدولة. فعندنا مثلا منطقتا التبانة والقبة، أظن أنهما المنطقتان الوحيدتان في لبنان اللتان لم تصلهما سياسة الإنماء المتوازن التي أكد عليها اتفاق الطائف..

وتحت يده الأجهزة الأمنية التي ينبغي أن تجهد في تحصيل الأمن الاستباقي: وهو كشف المجرم قبل القيام بجريمته، لا أن تكون سيفا مُسْلَطا على أصحاب الآراء والأفكار المخالفة لتوجهات الحاكم، ولا أن تكون جزءً من مشاريع إقليمية ودولية على حساب أمن الوطن والمواطن..

لذلك فإن الحاكم تقع عليه مسئولية كبرى ، لأنه هو الضامن الأساس للأمن في البلد ، فعليه أن يكون عادلا، صادقا، أمينا، حريصا على حياة الناس وممتلكاتهم، فإنه إن لم يكن كذلك ضاع الأمن، وضاعت هيبة الدولة، وتناهشتها أنياب الذئاب الطامحة إلى مشاريعها الضيقة والمذهبية والطائفية على حساب دماء الناس، وأمنهم..

ورضي الله تعالى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يوم قال في الحاكم الذي يصلح لقيادة الناس، قال: (لا يقيم أمر الناس إلا رجل حَصيفُ العقدة، بعيد الغَوْرِ، لا يطلع الناس منه على عورة)، وقال: (الناس بخير ما استقامت لهم أئمتهم، فإذا رتع الإمام رتعوا).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين