الأمم بقيمها وموازينها، وكذلك الأفراد

الأمم الحية الحيوية لا بد لها قيمها ومُثُلُها التي تعتز بها وتفتخر وتتمسك بها، وتعلي من شأنها وتدافع عنها.

وكذلك لا بد له موازينها ؛ والأصل أن هذه الموازين مستمدة من تلك القيم والمثل ومنسجمة معها؛.تزن الأمم وتقوم بها نفسها أو غيرها على مستوى الأفراد والجماعات والدول والأمم.

وكل ذلك أي المثل والقيم والموازين أيضاً لا بد أنه مستمد من ثقافة تلك الأمة ومرجعيتها.

فإذا تقرر ذلك فإن الأمم الحية تنظر إلى أفرادٍ فيها عبروا عن هذه المثل والقيم والموازين؛ فتجعل منهم رموزاً ونماذج تحتذى، ولا بد أن هذه النماذج إذن تمثل أعلى تمثيل تلكم القيم وتفوز بتلكم الموازيين.

قد يكون ضرب الأمثلة مفيداً:

إذا كانت أمة ما تقدّر الحرية ، ومن موازينها إعلاء شأن من يدافع عن الحرّية ويضحي لأجلها فإنها تحرص على هذه القيمة من جهة وتعلي شأن من كان أبناء هذه الأمة قد صرف وقته وجهده لأجل هذه القيمة (أي الحرّية) وتعتبره مثالاً يحتذى.

من  الأمم من يقدّر البطولة ويجعلها قيمة عليا وتزن الأفراد بها ومن تحقق بها جعلته مثالاً يحتذى.

وثمة أمم أمم تعلي من قيمة الصدق والأمانة والعدل وتجعله ميزاناً.

وربما أمة جعلة من الإبداع العلمي قيمة وميزاناً.

ربما وجدنا أمة تعلي من شأن الرياضة والفن.

 وقد تجد أمم تعلي من شأن الترف والبذخ وبهارج الدنيا ? فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ? [هود: 116]

بل قد تنحدر بعض الأمم فتجعل من الرقص والمجون والخلاعة قيمة وميزاناً وتجعل ممن كان ماجناً وخليعاً نموذجاً يحتذى، وهذا يدل على قيمة تلك الأمة وحقيقتها كما قيل:

 إذا كانَ ربُّ البَيتِ بالدُفِّ مولعاً        فَشيمَةُ أَهلِ البَيتِ كُلِهِمِ الرَقصُ

لذلك نتوجه إلى شبابنا وفتياتنا أولاً ترى ما هي القيم والموازين التي يعتزون بها، ومن هم أولئك القدوات الذين يتخذونهم مثالاً يحتذى.

القرآن والقيم والموازين :

 لفت القرآن النظر إلى أمم كانت قيمها منحرفة وموازينها مختلة ومن ذلك:

قصة طالوت: ? وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? [البقرة: 247]

فاليهود إذن جعلوا الموازين المادة وحسب، بينما أراد الله أن يكون العلم والقوة والكفأءة هو الميزان الصحيح. واليوم هناك من تختل عنده هذه الموازين.

وهذا فرعون ماذا كانت موازينه قال: ? وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ،أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ، فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ،فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ، فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ،فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ? [الزخرف:51 - 56]

 جعل نفسه عزيزاً عالياً بما كان تحت سلطته وجعل من موسى النبي الكريم أنه مهين ، موازينه دنيوية ساقطة.

عند بعضٍ ممن يدعى الإنتساب للإسلام فيرفع شأن أهل الدنيا لدنياهم ثم إذا رأى رجلاً صالحاً متواضعاً طيباً ربما استخف به ونظر إلى نظرة استخفاف واستحقار فأين موازين الإيمان؟!.

قصة قارون ? فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، قال الذيت أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً.... ? [القصص: 79]

فجعل أهل المادة الدنيا وبهارجها ميزاناً، ولفت القرآن النظ إلى أن الميزان الحقيقي هو الإيمان والقبول عند الله.

وها هم يهود قال الله في حقهم ? وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ، وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ? [الزخرف:57 - 58]

 كيف أعلى ميزانهم الفاسد شأن الكفر والشرك.

وأيضاً حتى في بناء المساجد ماهي الموازين ? أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ? [التوبة: 109]

وأيضاً  ? أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ? [التوبة: 19] والملاحظ كيف أن من أخل بهذه الموازين في الحالتين كان ظالماً

6_ وفي القضاية الإجتماعية أيضاً ? وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ? [البقرة: 221]

ولذلك في الحديث أيضاً عَنْ سَهْلٍ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» صحيح البخاري

.

ولذلك حُذِرنا من انقلاب الموازين:

 فكان الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ» ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». سنن ابن ماجة / صحيح

عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ ... وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ... " أبو داوود / صحيح

حُذِرنا أن نُخدَع بالموازين الفارغة ? فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ? [التوبة: 55]

? وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ? [التوبة: 85]

 

        واقعنا اليوم

 للأسف انحدرت الموازين عند البعض فأصبح الرقص والخلاعة والمجون ميزاناً وأصبح الترف والبذخ والدنيا ميزاناً، وأصبح الكذب في السياسة ميزاناً، وأصبح الخداع في التعامل المالي ميزاناً، وأصبح الانشغال بالمظاهر التافهة ميزاناً، وأصبح بعض الشباب والفتيات يتخذون نماذج ممن لا صلة لهم بالإيمان واليوم الآخر، إذن نحن أمام خطر عظيم في انقلاب الموازين.

عندما يصبح القاتل المجرم في نظر أدعياء الدين رسولاً ونبياً!!!!

وعندما تصبح من امتهنت القص أماً مثالية!!!!.

وعنما يبرئ المجرم ، ويدان البريء!!!!

لذلك قال الشاعر يوماً:

إذا  عير  الطائي  بالبخل    مادر      وعير  قساً  بالفهاهة   باقـــــــــــــل

وقال السهى للشمس أنت ضئيلة      وقال الدجا للصبح لونك حائل

وطاولت  الأرض   السماء سفاهة    وفاخرت الشهب الحصا والجنادل

فيا  موت  زر  إن  الحيـاة  دميمة    ويا نفس جدي إن دهرك   هـازل

فيا عجبا كم يدّعي الفضلَ ناقصٌ ويا أسفى كم يُظهِر النقــصَ فاضلُ

نحن لا نقول ياموت زر، بل ياهمة الإيمان انهضي للعمل والتضحية

كيف نعود إلى موازين الإيمان وقيمه؟؟

كيف نتخذ القدوات التي تحتذى من  أهل الإيمان والشهادة والتضحية والبطولة والعلم والأخلاق؟؟

رسالة إلى شبابنا وأبنائنا وفتياتنا: قل لي من قدوتك أقل لك من أنت.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين