الأعياد وَوجْهَتُها في الإسلام

أسباب الأعياد:

مُسْتَمعيَّ الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تحتفل الأمم بأعيادها لإحياء أمجادها، ولكلِّ أمة عيد أو أعياد. 

والعيد يوم دوريّ من أيام الذكريات يتكرر كل عام، ويعود على الأمة من جديد ليجدِّد لها الذكرى التي تَسُّرها وتُبهجها، وليُحييَ في قلوبها القوة والأمل، وينفخَ فيها النشوة والجذل.

ولكلِّ أمة ذكريات تتصل بوقائع ماضيها واندفاعاتها التاريخية، من نهضة علمية، أو معركة حربية، أو وحدة سياسية جامعة، أو سبب ديني رُوحيّ، أو مناسبة أخرى من أيِّ نوع كانت. 

حتى إنَّ الأمم الوثنية قد تتخذ من بعض الوقائع الفلكية أسباباً ومناسبات تربطها بعقيدتها وتجعل منها أعياداً كالنيروز والمهرجان لدى الفرس من القديم.

مزايا الأعياد وثمراتها:

فالأعياد بوجه عام يجب أن تكون ذات ارتباط بأمجاد الأمة، و بالحوادث التي لها صلة بتلك الأمجاد، لأنها فرح وبهجة ونشوة ولذة، وقوة معنوية، وبعث للذكريات المفيدة، وشحذ للعزائم، وتوجيه للناشئين، وتكوين للمعاني القوميَّة في نفوسهم.

وهي في الوقت نفسه راحة من العمل الرتيب المستمر المجهد، وهي فرصة للأصدقاء أن يتزاوروا ويهنئ بعضهم بعضاً تجديداً لمواثيق الصداقة بينهم.

والأعياد فرصة أيضاً للأقرباء أن يجتمعوا ويتواصلوا، وفرصة أيضاً لكثير من العناصر الذين تجمعهم أعمالٌ ذاتُ مناهج وبرامج أن يجتمعوا ويتداولوا ويتفرغوا من أعبائهم اليومية للبحث فيما يهمهم.

كل هذا من مزايا الأعياد وثمراتها.

ومن مزاياها أيضاً أنها تكون وسيلة ومناسبة زمنيَّة لتَحَلُّل المحزونين من أحزانهم، فيكون العيد وداعاً لذكريات المصاب والأحزاب، تعود بعده حياةُ المحزونين إلى طبيعتها.

قلَّة الأعياد وكثرتها:

لكن الأعياد وإن كثرت فوائدها لا ينبغي أن تكون كثيرة، لأن الأعياد إذا كَثُرت أصبحت عاداتٍ لا أعياداً، وفَقدت رَوْعتها وبهجتها، فبدلاً من أن تنتظرها الأمة بفارغ الصبر، وتتهيأ لاستقبالها تصبحُ مُمِلَّة ومُعَطِّلة للأعمال، فلا تكاد الأمة تودّع عيداً حتى تستقبل عيداً آخر، فتصبحُ الأعياد إذا كثرت نظير الكلام الكثير الممل الذي يقال فيه: إنه يُنسي آخرُه أوَّله، وينسي بعضه بعضاً.

الربط بين حوادث الماضي وبناء المستقبل:

ومن النواحي المهمة التي يجب أن تلحظ في أسباب الأعياد وتكوينها: أن الأعياد وإن كانت دائماً تقوم على أساس من الماضي وحوادثه المتصلة بأمجاد الأمة وتقاليدها و عقائدها، يجب أن لا يُنظر فيها إلى الماضي إلا بقدر ما له علاقة واتصال بتكوين المستقبل، لأنَّ الأعياد كما ذكرنا من خصائصها وأهدافها الاجتماعية أنها بَعْثٌ وتوجيه للآمال وللقوى المعنوية فهي إحياء لذكريات الماضي وأحواله ووقائعه التي تريد الأمة استمرارها في المستقبل.

فإذا رَقِيَتْ الأمة في علمها ومداركها وتبيَّن لها أنَّ شيئاً من أعيادها المبنيَّةِ على ذكرياتٍ كانت تُعَدُّ من الأمجاد القومية خطأٌ أو جهالةٌ أو ضلالة، وجب إلغاء تلك الأعياد، واستبدال غيرها بها، ممَّا له نفع وتوجيه في بناء المستقبل، لأن المساوئ يجب دفنها والمحاسنَ الصالحة البناء عليها هي التي يجب الحرص على إعلانها وإعلاء شأنها.

هذه نظرة عامة للأعياد ونشأتها في الأمم، وغاياتها الدينيَّة والقوميَّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

عيدا المسلمين: الفطر والأضحى:

 فإذا نظرنا إلى الأعياد التي جاء بها الإسلام للمسلمين بصورة خاصة، وجدنا أنَّ الإسلام قد جاءنا بعيدين اثنين في مراحل السنة، ووجدنا أمامنا حديثاً نبوياً حكيماً مُوجَزاً من أروع الأحاديث التَّوجيهَّية في الأعياد ومبانيها وواجباتها وأهدافها.

روى البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدمت المدينة ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، وإنَّ الله تعالى قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يومَ الفطر، ويومَ النحر: أما يوم الفطر فصلاة وصدقة، وأما يومُ الأضحى فصلاة ونُسُك)  .

وقد ذكر شُرَّاح الحديث  أنَّ ذَيْنَكُم اليومين اللذين كانا لأهل المدينة في الجاهلية هما يوما النيروز والمهرجان اقتباساً من الفرس.

إرشادات الحديث النبوي:

فهذا الحديث النبوي يشير لنا ويرشدنا إلى أمور واعتبارات عديدة:

1 ـ فهو يفيدنا أولاً أن الأعياد في الجاهلية كانت للهو واللعب، بينما يجب أن يكون للأعياد ثمرات أسمى من اللهو واللعب.

2 ـ وهو يفيدنا ثانياً أنَّ لاختيار أيام الأعياد علاقةً وثيقةً وارتباطاً بالقيم المعنوية والمُثُل العليا في الأمة. فلا يصحُّ أن تقلد أمّةٌ أمّةً أخرى في أعيادها، لأن العيد تمجيد وتخليد لذكريات الوقائع والمناسباتِ المجيدة في الأمة.

3 ـ وهو يفيدنا ثالثاً أنَّ المناسَبَتَيْن اللتين اختارهما الإسلام لنا عيداً هما خيرٌ وأفضل من تلك المناسبات الأجنبيّة الوثنيّة التي ليس لها صلة بأسس الإسلام المجيدة، تلك الأسس التي نقلت العربَ وسائرَ من التحق بهم بالإسلام من الظلمات إلى النور، ومن الجهالة إلى العلم، ومن الوثنية إلى العقيدة النقية القائمة على الأسس العقلية، ومن المفاسد والرذائل إلى المحامد والفضائل، ومن الفوضى إلى النظام الكامل، ومن الأنانية والأَثَرة إلى التضحية والإيثار، ومن عبادة الأهواء إلى عبادة الله وإلى ابتغاء رضاه، بالعمل الصالح، ومراقبة النفس، وصيرورة الشخص عضواً عاملا  نافعاً في المجتمع.

 فهذه المعاني في الإسلام، التي نهضت بالعرب، وسائر المسلمين الأوائل المتّصفين بها، وارتفعت بهم من الحضيض إلى النُّدى هي التي يجب أن تُختار من مناسباتها المجيدة أعياد للمسلمين المؤمنين.

وَجْه اختيار العيدين:

ولذا ألغى الإسلام اليومين اللذين كان عرب المدينة يتَّخذونهما عيدين للهو واللعب، مُقْتبسَين من مناسبات وثنَّية أجنبيَّة، وعوَّض المسلمين منهما عيدين يتصلان بأركان الإسلام وهدايته، وهما عيد الفطر، وعيد الأضحى.

وهذا يشير إلى وجه هذا الاختيار وأفضليته:

أ ـ  فيوم الفطر يُعقب قيامَ المسلمين بعبادة مُشْتَركة جَماعيَّة وهي الصيام الذي هو من أركان الإسلام، ومن أهم النظم الصحية والروحية والاجتماعية.

ب ـ ويوم الأضحى هو اليوم الذي يأتي بعد أعظم مُجتمع سنويّ للمسلمين لمناجاة الله تعالى و معاهدته على التوبة من المعاصي، والتطهر من الآثام فهو يلي أعظم  مؤتمر ديني عام عرفته الشرائع، ألا وهو وقفة عرفات ركنُ الحج، الذي يؤمُّه المسلمين من كل فج.

أعمال البر والخير في العيدين:

4 ـ ثم يفيدنا هذا الحديث النبوي أخيراً أنَّ الأعياد يجب أن تمتاز بشيء من الثمرات الصالحة والأعمال الخيِّرة لا أن تكون لهواً ولعباً ومجترحاً للآثام ومسرحاً للشهوات، ولذلك جعل الله تعالى في هذين العيدين ميزة من أعمال البر والخير.

ففي يوم الفطر صلاة جماعية، يجتمع فيها جميع المسلمين، ثم صدقة يؤديها أغنياؤهم إلى فقرائهم وهي صدقة الفطر التي تجْبر قلوب كثيرٍ من المساكين.

وفي يوم الأضحى صلاة جماعية كذلك، وتضحية من الأضاحي للتوسيع على العيال، والتوزيع على الفقراء والمحتاجين، وقد شُرعت فيهما ونُدبت زيارةُ الموتى للذكرى والعظة كما شُرعت صلة الأرحام وزيارة الأصدقاء.

وبذلك تنطوي الأعياد الإسلامية على الأعمال الجدّية، والثمرات المُجْدية، و التوجيهِ الصالح، وتنميةِ مَلَكَات الخير والفضيلة، إلى جانب ما فيها من راحةٍ وإجْمامٍ ومتعةٍ بريئة.

إصلاح العادات المتبعة في زيارة الأصدقاء:

هذا، وبمناسبة تزاور الأصدقاء في العيد ألفت أنظار المستمعين إلى أن التقاليد والعادات المتَّبعة بين الناس في أن كل من زار صديقاً في عيد فعلى المزور أن يردَّ الزيارة في ذلك العيد نفسه، هذه التقاليد قد أدت إلى مشكلة ومشقة، جعلت الكثير من الناس يتهربون من الزيارات في العيد، ويعتذرون عنها في الصحف، ويرسلون بطاقات بريدية وهم مقيمون في البلد نفسه، وبذلك انقلبت المعايدة بين الأصدقاء من صلة روحية إلى مراسم شكلية صورية.

وأفضل من ذلك فيما أرى أن يتبع الناس نظاماً تحصل به ثمرة الاجتماع، وتُجتنب فيه مشقة رد الزيارات بقدر الإمكان.

وذلك بالتعاون على الأمور التالية:

أولاً: إذا التقى صديقان في العيد في بيت صديق ثالث ففي ذلك كفاية تُغْني عن زيارة أحدهما للآخر.

ثانياً: إذا زار صديق صديقاً في عيدٍ فليس من الواجب رد الزيارة في العيد نفسه، بل يكون المزور في ساحة من أن يردَّ الزيارة بعد العيد، إلى ما قبل العيد التالي أو في العيد التالي. وبذلك ترتفع الكلفة وتتمكّن الألفة ويزول الحرج.

الفرحة بأداء الواجبات الكبرى:

معنى ربط العيدين الوحيدين في الإسلام بأعظم طاعتين امتداد ومشقة ونفقة وحرمان من الشهوات، إحداهما: توعية سنوية وهي الصيام، والثانية الكبرى: مرة في العمر وهي الحج.

ما يوحي به هذا الربط بأن البهجة الحقيقية التي تستحق أن تُعتبر عيداً في نظر الإسلام هي الفرحة بأداء الواجبات الكبرى في طاعة الله تعالى لا بالمناسبات الأخرى مهما كانت من دواعي الفخر، إذ قد تكون المناسبات الكثيرة المعتادة من التاريخ لا تتصل بغرض إنسانيّ نبيل، فما من مناسبة في حياة الإنسان تستحق الابتهاج أنبل من طاعة الله في أداء الواجبات الكبرى والتغلب فيها على شهوات النفس، والظفر بتربية الإرادة وقوة العزيمة على أداء الواجب فيما يرضى الله ورسوله.

وقبل أن أفارقكم -أيها المستمعون الكرام- أدعو الله تعالى أن يجعل عيدكم مثمراً أطيب الثمرات، ويوقظ في الأمة ذكريات أمجادها، وبطولات أجدادها، ويُهيبَ بالعرب والمسلمين أجمعين إلى صيانة عزِّهم من مؤامرات الأعداء الذين يتآمرون عليهم، فلا عيد إذا لم تكن الأمة في قوة ومنَعة،  ومأمنٍ من الأطماع الاستعمارية الجشعة.

أعاده الله تعالى عليكم وعلى سائر العرب والمسلمين بالعزِّ والبركات، ولقَّانا اليومَ الذي يعود فيه المعتدون والمتآمرون على فلسطين العزيزة مدحورين يائسين بما تُعدّون لهم من عدة، وعزائم مشتدة، ونفوس أبية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

---------------

  أذيعت من إذاعة دمشق في 10 ذي الحجة 1373الموافق10/8/1954

ثم في 1 شوال1375 الموافق 11/5/1956.

    أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/341، رقم 3710)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين