الأسرة المنسجمة زورق السلام الاجتماعي

ذ. أحمد ديدي

للأسرة المنسجمة مع أفرادها وإسلامها دور أساسي في إرساء السلام الاجتماعي، إذ هي زورق النجاة بالمشاركة الكاملة، لعبور ما تمر به الإنسانية من تعثر وإفلاس حضاري، بعيدا عن القيم الضابطة، وارتطاما مع الاختلالات بممارسات الخائفين من مفاجآت المتغيرات الاجتماعية الناجمة، والانشغال بالمشروع العولمي الضخم من المهتمين بشؤون المستقبل وصناع الحياة الاجتماعية، والاستراتيجيات العليا، وما يتحقق بالفعل على أرض الواقع، والشكوك والظنون التي تساور الأذهان، فضلا عن ازدياد انعدام الإحساس بالأمان، إلا أن الأسر الجادة هي تلك التي تؤلف الأرضية الصلبة التي ترتكز عليها أفرادها بالتخطيط الواعي المحكم الدقيق، جاعلة الصورة المثلى للمستقبل هي خبرة الماضي والحاضر التي استراحت إلى نتائجها، وإنه لن يتحقق تقدم إلا من خلال التفكير الإبداعي الذي يحدد ملامح المستقبل ولا يكبله بالأوهام الضيقة.
      وللعلم فالمستقبل يحتاج إلى الانفتاح والريادة والمخاطرة والتجريب والتحليق في آفاق التغيير الواسعة، وإرساء صيغ ملائمة لمجتمع إنساني متماسك، تنصهر الجماعات الإنسانية كافة، يشترك فيه كل صناع تاريخ الإنسانية؛ لأن القوامة الأنانية يقول فيها الفاتح العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله: "القوامة حلوة الرضاع مرة الفطام".
      والجماعة فيها فوائد كثيرة، ومن أهمها مظهر المساواة والتدرب على الطاعة، والاتجاه نحو غاية سامية، هي الفوز برضا الله عز وجل الذي يقول: "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُومِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" [النور، 94- 50].
      وصفوة القول أن الأسرة المسلمة مرشحة في هذا العصر لصياغة العقل البشري لمعالجة الواقع الإنساني، وتصحيح مساره، وتعديل آفاقه، والارتقاء ببني آدم ومجتمعاتهم ونشر الأمن والأمان في عرض الأرض وطولها، وحماية الإنسان من غضب الله وعقابه؛ لأنه انفصل عن بيئته الإنسانية، وأصبح كأنه كائن بلا جذور، آلة آدمية تطير وتهبط، مات لديه التكافل الاجتماعي والشعور الإنساني، وكل إيقاع يجمعه ويصله بإيقاعات الحياة، وتعرفه بنفسه وبغيره في لهوه ومرحه الصاخب، انسحقت معاني الأخوة في أجيال افتقدت الولاء والانتماء في مرحلة انبهاره بحضارة مادية زائفة، والتماهي مع النموذج المفلس عوجا والتواء، بما يمج ويعاب، قال تعالى: "أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الاَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" [ص، 27].
      هنالك عوامل تاريخية شتى طمرت وعي بعض الأسر، وغيبتها عن دورها في إتحاف المجتمع وإمداده بأشخاص تمسك بأيديها معايير القيم، وشغلت نفسها بالعبث البائس، وللحقيقة فالأسرة المنسجمة هي التي ستصنع على عينيها موازين رجال ونساء، تكون لهم آفاقهم الممتدة في الزمان والمكان، لا ترضى لنفسها القعود والتراجع خلف الصفوف، وإنما ليرى الناس نبض عروقها وعوامل الانبعاث الحضاري، والعزيمة الدافقة، والانصراف إلى المفيد من الأعمال التي تشرح الصدور، وتنزل على نفوس الآخرين السكينة.
      والأسرة هي الأرض التي من خيراتها تتغذى البراعم الصاعدة، فهي الحياة للأبناء والأحفاد الذين سيحملون صفحات السماحة الإسلامية، بالتزاور والتضايف لقيام مجتمع عالمي لا عزلة فيه ولا حواجز، في أكناف رحيمة وود يسع البشرية كلها، وبحلم لا يضيق بنشر ثقافة التسامح والتقارب، وتدعيم المشترك بين جميع الناس، ورضي الله عن الإمام علي كرم الله وجهه وهو يقول: "خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ".
      ومن المعلوم شرعا وعقلا أن الله لا يفرض شيئا إلا وفيه مصلحة العباد، ولا يحرم آخر إلا وفيه مفاسد وهو سبحانه حكيم في أمره حكيم في نهيه، ولا يشرع شيئا عبثا قال تعالى: "وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالاَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" [النساء، 1].
      وإن دعائم الأسر شيدها القرآن الكريم والسنة الشريفة منذ ألف وأربعمائة عام ويزيد، وإن الظروف الصعبة التي تتعرض لها الأسر المسلمة تستدعي منا جميعا إنقاذها من كل ما يتهددها من أخطار، وافتعال مؤامرات لا يعلم إلا الله وحده مداها فعلينا كمسلمين أن نكون في أشد الانتباه واليقظة عما يراد بهذه الأسر حتى نتمكن من إلجام العابثين والعابثات بقيمنا وثوابتنا، حفاظا على الطهر والنظافة والانسجام والوئام.
      والإسلام في أصوله وركائزه الثابتة، ونصوصه لا تقبل تأويلا ولا صرفا وجدلا ولا مراء، وميثاق الأسرة ومقاصد الإسلام منه وحرصه على الترابط الشرعي على امتداد الزمان والمكان، وعصمة الزواج من الأهواء والتمييع حتى تشاهد الإنسانية الحائرة في أبناء وبنات المسلمين تلك الشامة المضيئة بها يحتذى في ركب الحياة الشريفة، ومواكبة التقدم والتطور بمعيار العفة والعفاف.
      وعلى الرغم من كل التحديات ينبغي أن تركز الأسر، وهي تتحمل مسؤولية تصحيح المفاهيم الخاطئة والأفكار المغلوطة التي تتسرب إلى أفرادها من الشارع، فلا ينبغي أن تبقى في معزل عن محيطها للخروج من دائرة التشاؤم إلى آفاق مستقبل، يطبعه العمل، والتغلب على كل السلبيات، أما البكاء على اللبن المسكوب سيرجع بالأمة إلى الوراء، والأسر الحية هي التي تخرج من دائرة سماع القول والامتثال إلى الفعل والتنفيذ، ماضية في أداء رسالتها توقظ النائمين وتنبه الغافلين وتنذر المستهترين وتبشر المؤمنين، وتنادي وتطرح وتوجه في دراية، وتواجه وتدفع بأبنائها وبناتها إلى الأمام وتدافع والأولاد طبعا يصغون ويستجيبون ولهذا يقول الشاعر:
          فالسعي في الخيـر منهاج العلا أبدا         ومـن تكــاسل فالمولــــى يحــاسبه
          فانشد مقامــا مع الأفــذاذ فـي فلك         واقصد إلى المجد في أفـق يصـاحبه
          فالمـــاء فيهـــا فرات طــاب مشــربه         واظفر بكـأس المعالي واستقـل بها
      ولولا بقية من إيمان بالله عز وجل، والاعتصام بالقرآن والسنة عند الأسر الراشدة المتعاونة فيما بينها على ما فيه الخير، لما رأينا هذا التعايش في سلام وأمان، والاستجابة لداعي الحق الذي يطلبه الإسلام؛ لأن الدين عند هذه الأسر هو ناموس الكون، وميثاقه الأخلاقي لتنظيم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
      والله من وراء القصد وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر : الرابطة المحمدية للعلماء .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين