الأسرة المسلمة ودور الأم في تربية الأجيال ـ 1 ـ

الشيخ: مجد أحمد مكي

هذه خطبة من خطبي القديمة التي كنت أجتهد في إعدادها وكتابتها ثم ألقيها من حافظتي، وهذه الخطبة التي أقدمها اليوم لإخواني الكرام، ألقيتها في جامع السلام بحلب الشهباء الجمعة 24/ربيع الثاني/1399 الموافق 23/آذار/1979م.
وقد قام الأخ الكريم طارق عبد الحميد قباوة بصفها، وقمت بمراجعتها وتصحيحها، وأسأل الله أن ينفع بها، وهذه الخطبة طويلة وكانت تستغرق في إلقائها ما يقارب الساعة، وأنا أنصح بتقصير الخطبة، وجعل هذه الخطبة في ثلاث حلقات، وقد قسمتها إلى ثلاث حلقات، واستحسنت نشرها في ركن الشباب المسلم، والله ولي التوفيق، ومنه العون والفضل.
-1-
تكوين الأسرة المسلمة :
حثَّ الإسلام على تكوين الأسرة، ودعا إلى أن يعيش الناسُ في ظلالها ؛ لأنها هي الصورة الطبيعية للحياة المستقيمة التي تلبّي رغائب الإنسان، وتفي بحاجاته، وهي الوضعُ الفطري الذي ارتضاه الله لحياة الناس منذ فجر الخليقة:[وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً] {الرعد:38}.
وقد جاء الأمر بتكوين الأسرة في الكتاب والسنَّة.
 قال الله سبحانه: [وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ] {النور:32}. وهوَّن الأمر على من قُدر عليهم في الرزق وكفل لهم التوسعة والغنى: [إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ] {النور:32}.
وبيَّن القرآن أن الأنبياء عليهم السلام قد ارتبطوا بالأسرة، وطلبوا الولد، فهذا سيّدناإبراهيم عليه السلام يدعو ربه:[رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ] {إبراهيم:40}.
وهذا سيدنا زكريا عليه السلام يقول: [هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ] {آل عمران:38}.
وعباد الرحمن، يتوجهون إلى ربهم بالدعاء الضارع أن يهيئ لهم ذريَّةً تسير على نهجهم، وأن يكون لهم أزواجٌ من نوعهم، فتقر عيونهم، وتطمئن بهم قلوبهم:[وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا] {الفرقان:74}.
أصل الحياة البشرية :
إن الأسرة أصل الحياة البشرية، وهي من خصائص الفطرة الإنسانية، وهي قاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعاً وللمخلوقات كافّة:[وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] {الذاريات:49}.
[سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ] {يس:36}.
 إنَّ بداية الوجود الإنساني كان من أسرة تكونت من رجل ـ هو آدم عليه السلام ـ خلقه الله وسوَّاه بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم خلق منه زوجَهُ ـ وهي حواء عليها السلام ـ ثم كان منهما بنون وحَفَدةً وذريّةً كثرت وانتشرت في بقاع الأرض وآفاقها: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1}.
الأسرة نعمة من نعم الله :
والأسرة نعمة من نعم الله، وآيةٌ من آياته هيأها للعباد واختارها لهم:[وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {الرُّوم:21} .
ويقول سبحانه وتعالى:[وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ] {النحل:72}.
وفي الأسرة يجد الزوج لذةَ الراحة بعد التعب، ويتذوَّق طعمَ الأنس بعد الوحشة، وينعم بالهدوء والسكينة، ويتفيأ في ظلال الحب والمودة.
جو الأسرة الطيب الطاهر :
وفي جوِّ الأسرة الطيب الطاهر يولد الأطفال وينشؤون، وفي ظلها الوارف ينمون ويترعرعون، وفي مدرستها تنمو عواطفهم، وتتوسع مداركهم، وتتربى أخلاقهم، وفي أحضانها ومن أثدائها يرضعون لبان العقيدة والإيمان، ومن خليتها يرشفون رحيق السنة والقرآن، ومن نبعها الصافي ينهلون تاريخ الصحابة ورجالاتِ الإسلام...
والأسرة هي الأرض الخِصبة التي تنبت المعاني الإنسانية والمثل العليا من الحب والإخاء، والتضحية والفداء والتكريم والإيثار، والتعاون والتآزر، والتواصي والتناصح، تنبت في كيان الأسرة.
بذل الوالدين للأولاد :
انظر إلى الوالدين مثلاً: كم يتحمَّلون من متاعب ومصاعب، وكم يحرمان من متع ولذات، وكم يجودان من عطف ورحمة، وكم يفيضان من حب وشفقة.. حتى إنك لتجد ولدهما أحب إليهما من النفس والروح والقلب...
وبالمقابل فإنَّ الولد متى ترعرع ونما، وبلغ رشده وأشدّه، سيقابل الإحسان، والفضل بالعرفان مع خفض الجناح لهما، واستمرار الدعاء والتضرع إلى الله بالمغفرة والرحمة والرضى لهما، قال تعالى:[وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ] {الأحقاف:15}.
بر الوالدين:
روى البخاري(5971) ومسلم(2548) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله من أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال:أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك).
 وروى البخاري(5970) ومسلم (85)عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: الصلاةُ على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: برُّ الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
صلة الرحم :
وروى البخاري(4832)، ومسلم (2554)، عن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قامت الرحم ـ يعني القرابة ـ فقال: مَهْ. فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلكِ وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك).
وروى البخاري(5986) ومسلم(2557) عن أنس بن مالك قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من أحبَّ أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره ـ يزاد له في عمره ـ فليَصل رحمه).
 وكل هذه الآيات والأحاديث تبيِّن مكانة الأسرة وأهميتها في الحياة، فهي النبع الفيَّاض لسيل البشرية الجاري، وهي الحديقة الخصبة لإنبات الإيمان والتقوى والإحسان، وهي المدرسة النموذجيَّة للتربية والتوجيه والتعليم، وهي البوتقة التي تذوب فيها الفرديَّة والأنانية، وهي الظل الوارف للسكينة والراحة والمودة، وهي المثل الأعلى للتضحية والفداء والإكرام والإيثار، وهي الحصن الآمن من الأذى والشر والعدوان.
 التخطيط لهدم الأسرة :
ومن هنا يعدُّ التخطيط لهدم الأسرة هو مسخ للفطرة وإخفاء للحقيقة، إذ أن الأسرة رغبة نابعة من الفطرة، ولا يمكن للناس أن يسعدوا إن عاشوا بفطرةٍ شائهة، وحقائق مَبدلة،ومهما سعى ساعون إلى زعزعة هذه الفطرة في الإنسان فعبثاً وباطلاً يحاولون، ولن يقدر أحد من البشر ولا من أصحاب الدعوات المنحرفة أن يغيّروا فطرة الإنسان مهما سعوا لذلك وأجلبوا:[فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {الرُّوم:30}.
 التفرُّغ لوظيفة الأمومة:
ولكي يهيئ الإسلام للبيت أن يقوم بوظيفته، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها.. أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمُقتضيات العمل، المقيَّدة بمواعيده... لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطرَه، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها.
فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تنشئها امرأة، وأرج البيت لن يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لن يشيع إلا أن تتولاه أم.
إنَّ التفرغ لوظيفة الأمومة هو الأساس والأصل الذي يجب أن تبذل المرأةُ لأجله ما في وسعها فهي تهز المهد بيمينها وتحرك العالم بشمالها لما تنجبه من فحول الرجال وكرائم النساء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين