الأسرة أما تزال تستحق اسمها؟

من المنطق أن نعيد النظر في صياغة أسماء الأشياء من آنٍ إلى آخر على ضوء ما يستجدّ من تطوّرٍ في طبيعتها، واختلافٍ في طريقة عملها، وتبدّلٍ في وظائفها.

وعلينا أن نعيد النظر في مفهوماتنا لتلك المسمّيات، للتحقّق من أنّ هذه المفهومات لم تنحرف بنا عن المعنى الأصليّ، وأنّها ما زالت تتطابق مع الوظيفة التي وُجدت من أجلها تلك المسمّيات.  

حين تُرجمتْ كلمة (كومبيوتر)، مثلاً، في اللغة العربيّة أواسط القرن العشرين إلى كلمة (حاسوب)، كانت أهمّ وظيفةٍ لهذا الجهاز الجديد هي التعامل مع الأرقام والحسابات وما يتعلّق بها. ولكنّ هذه الأرقام والحسابات أصبحت آخر وظيفة يمكن أن يفكّر بها من يقتني هذا الجهاز اليوم، بعد أن أصبح يبرمج لنا حياتنا كلّها، وينظّم أفكارنا، ويوثّق كتاباتنا، ويصلنا بالعالم، وبوثائق العالم، وكتّابه، ومكتباته، وموسوعاته، ومعارفه، قديمها وحديثها. فهل بات علينا إذن أن نبحث له عن اسمٍ جديدٍ يتناسب مع وظيفته الجديدة، نحو (مُبرمِج) أو (منظِّم) أو (بساط الريح) أو (المرآة السحريّة) مثلاً؟ 

وعلى ضوء هذه الحقيقة؛ فهل بات من الحكمة لأهل كلّ لغةٍ أن يعيدوا النظر اليوم في اشتقاق كلمة (أسرة) في لغتهم، للتأكّد من أنّها ما تزال تشير إلى المعنى نفسه الذي وُجدت للتعبير عنه في البداية؟ 

في اللغة العربيّة؛ نجد أنّ الكلمة قد اشتُقّت من (الأَسْر) وهو (التماسُك) أو (البناء القويّ) أو (الدرع الحصينة). ويتحدّث تعالى في القرآن الكريم عن قوّة الأجسام الآدميّة التي خَلَقها، وعن تَماسكِها، وإحكامها، وترابط أعضائها، فيقول "وشَدَدْنا أَسْرَهُم" ‎‎[الإنسان: 28] أي قوّينا خَلْقَهم وأحكمنا بنيانهم.

فجديرٌ بنا اليوم، حين نستخدم هذا المصطلح، أن نمحّص معناه من جديد، لنتأكّد من أنّه ما يزال يحمل المعنى الأصليّ الذي وُجد له، وهو البِنية المتماسكة والمتلاحمة والقويّة.

حين يتحدّث الخالق عن النفس الإنسانيّة الراضية بحياتها، المَرْضيّة مِن ربّها، يُضفي عليها صفة (المطمئنّة) "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ" [الفجر: 27]. وحين يتحدّث عن بيت الزوجيّة يعرّفه بكلماتٍ مشتقّةٍ من "السُّكنى". فالغاية من هذا "المَسكَن" الزوجيّ هي "السَّكَن" أو "السَّكينة"، حيث تجد النفسُ الطمأنينة، والهدوء، والدفء، وراحة البال، والتعاطف، والتحابب، والتعاون بين الأطراف:

-     وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا.. [الروم: 21] 

-     وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل: 80] 

-     أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم [الطلاق: 6] 

فإذا انتفت معاني "السكينة" من هذا المَسكن، وافتقدتها حياةُ "الأسرة" التي يُفترض أن "تَسكُن" فيه، لم يعد المسكَن جديراً باسمه، ولم تعد الأسرة، مِن ثمّ، جديرةً باسمها، ولا بدّ من البحث عن اسمين آخرَين لهذين المُسمَّيَين الجديدين

فهل الأسرة اليوم، في مكانٍ ما من العالم، وبمواصفاتها الجديدة، ما تزال مؤهّلةً لذلك المعنى الاصطلاحيّ العريق الذي وُضع لها؟ وهل ثابرت على الاحتفاظ من صفات الحبّ، والترابط، والتعاطف، والتواصل، والمشاركة، والثقة المتبادلة، والاستقرار، والإيمان الراسخ بالآمال الواحدة، والمصير المشترك، ما يؤهّلها لحمل هذا المسمّى؟  

التقيت مرّةً عاملاً للبناء من النصف الجنوبيّ لكرتنا الأرضيّة كان يعيش في حيّنا بمدينة أوكسفورد، وكان يقدّم لي في كلّ مرّةٍ التَقَيتُه فيها زوجةً مختلفةً، فدفعني ذلك يوماً إلى أن أسأله: كم مرّةً تزوّجت؟ فقال: تزوّجت من الأوروبّيات خمساً..  حتّى الآن! وقلت:  

-     لمَ "الأوروبّيات"؟ ولمَ هذه الكثرة؟ ولماذا "حتّى الآن"؟! 

-     من أجل أن أُذِلَّ الأوروبّيّين كما أذلّونا! 

-     وهل وُجِدَ الزواج للإذلال؟ أم هل وُجِد الطلاق لهذه الغاية أيضاً؟ وكيف كنت تتزوّج وتطلّق بمثل هذه السرعة؟ هل المسألة بمثل هذه السهولة؟ هل كنتَ تقيمُ الزواج في الكنيسة، وبرعاية الكاهن، وبحضور المدعوين والمدعوات؟ 

-     طبعاً لا. يكفي أن أحدّد الفتاة التي أريد، وأن أقول لها الكلمة السحريّة: هل تتزوّجينني؟ ثمّ أُخرج من جيبي خاتماً بسيطاً وأضعه في أصبعها، وانتهى الأمر! 

أترون إلى أيّ مدى هبطت قيمة المرأة، وقيمة الزواج، وقيمة الأسرة، ببركة جهود المنادين بحرّيتها، والمدافعين عن حقوقها، والداعين إلى مساواتها مساواةً عمياء مع الرجل، والقائلين بضرورة تحرّرها من "المفهومات البالية"، ومن الدِّين، ومن الكنيسة، ومن الله؟ 

كان موقع المرأة في القلوب، وفي الأنظار، بل حتّى في الحسابات الماليّة، إلى وقتٍ قريب، شرقاً وغرباً، هو الأعلى. كانت تشعر، على الأغلب، كأنّها قمّةٌ، أو كأنّها ملِكةٌ في قصرها الحصين وهي ترى الرجال يتزاحمون على بابها للفوز بخِطبتها. وكانت هي التي تضع الشروط، وتحدّد المطالب، وتفتح، أو تغلق، الأبواب في وجوههم، قبل أن تقول لمن تختاره منهم: نعم.  

والعلاقة بين الشرق والغرب هي من غير شكٍّ علاقةٌ "استطراقيّة". فما يجري في الغرب، النصف التكنولوجيّ والحضاريّ الجديد والمشعّ من الكرة الأرضيّة، لا بدّ أن ينعكس سريعاً على النصف الشرقيّ، النصف المتعثّر، والمهترئ، والمظلم، أو هكذا أريدَ له أن يكون. إنّه مبدأ الأواني المستطرقة الذي تنعكس فيه تغيّرات مستوى سطح السوائل في جهةٍ من الإناء؛ على مستوياته في الجهات الأخرى. 

وقد لعبت السينما الغربيّة، والروايات، والأدوات الثقافيّة، ووسائل الإعلام والتواصل الحديثة، السحريّة والسريعة والرخيصة، ومعها أضواء المسارح والنوادي الليليّة، والتكنولوجيا الحديثة وضجيجها المرتفع، دوراً كبيراً في زرع الأوهام في نفوس الأجيال المتأخّرة من الشباب والفتيات في المشرق، تلك التي تصوّر لهم وجود رجلٍ مثاليّ، وامرأةٍ مثالية، وحياةٍ مثاليّة. فكان كلٌّ منهم، حين يفكّر في الزواج، يبحث دون طائلٍ عن "الفارس" أو "الملاك" المثاليّ الضائع الذي زيّفته في أدمغتهم تلك الثقافة التكنولوجيّة الوافدة التي لا علاقة لها بالواقع الأرضيّ، ثمّ، ولخيبتهم الشديدة، لن يجدوا ذلك النموذج الموهوم في أيّ مكانٍ على وجه الأرض

هذه الثقافة الوافدة، بكلّ ما فيها من أضواء مبهرة، وألوانٍ ساحرة، وتخطيطٍ ذكيٍّ ومُحْكمٍ ومدروس، استلبت المرأةَ شخصيّتَها، وجرّدتها من أسلحتها الأنثويّة الفتّاكة، وطامَنَت مِن كبريائها، فباتت عزلاء مَهينةً أمام الرجل. إنّه لم يعد يخشى بأسها، أو يغترّ بعلوّ مكانتها وقداسة عرشها، وأصبحت، على ضعفها في الأصل كامرأة، هي التي تلاحقه لاهثةً يائسة، وقد كان، أبداً، هو الذي يلاحقها، ويحاول الاقتراب منها، والفوز برضاها. 

وكان للمناهج التعليميّة المحلّية المستحدثة في بلدان المشرق، ولِدَعائمها الثقافيّة والإعلاميّة المنتشرة في كلّ مكان، دورها المكمّل بعد ذلك، وربّما الأشدّ تأثيراً، لتلك الثقافة الوافدة، في إقناع مَن لم يقتنع بعد، من شباب الأجيال الحديثة وشابّاتها، بالبحث عن ذلك الذي، أو تلك التي، لم، ولن يوجَدا أبداً على ظهر البسيطة.  

إنّها الوصفة السحريّة لتعطيل قطار الزواج، بدءاً من الغرب، وزحفاً نحو الشرق. وهكذا غدا تأخُّر الفتاة والفتى بالزواج، أو ربّما إلغاؤه تماماً من رؤوسهم ومخطّطات حياتهم، أحد أهمّ الأسباب، إن لم يكن أهمّها على الإطلاق، لازدهار العلاقات المحرّمة في المجتمعات الغربيّة، ومِن بَعدِها الشرقيّة طبعاً، ازدهاراً طغت به هذه العلاقات طغياناً خطيراً على العلاقات الزوجيّة الشرعيّة، كما سنفصّل القول في ذلك، وبالأرقام. وهذا يفسّر لنا إلى حدٍّ كبيرٍ تلك العلاقة الجدليّة، المتنامية أبداً، بين تراجع حالات الزواج، وطغيان الحالات المحرّمة، فكلٌّ منهما يصبّ زيته على نيران الآخر. 

لقد بدأ موقف المرأة يضعف أمام الرجل، وبدأت مكانتها تهتزّ، وطفقت قيمة أسهمها تنخفض في بورصة الزواج، منذ أن راحت تفرّط بحصانتها المَلَكيّة، وتتنازل عن عرشها وقدسيّتها، وتستهين بعفّتها، وتتخلّى عن كبريائها، وتستهتر بأنوثتها، وقد كانت كلّها هي رأسمالها الحقيقيّ في سوق الزواج، بحيث أصبح الرجل يجد نفسه "متفضّلاً" على المرأة، إذا "تواضَع" وطلب يدها.

إنّها مضطرةٌ الآن إلى أن تتنازل عن كبريائها أمام من يتقدّم إليها، وألّا تبالغ في قائمة شروطها المعتادة، بل ربّما كان عليها أن تغضّ النظر عن مهرها أيضاً، هذا إن لم تكن هي التي ستضطرّ الآن إلى دفع المهر للرجل، بصرف النظر عن الأسماء المخادعة التي ستطلَق على هذا النوع من المهور، وهذا ما يجري الآن حقاً في الغرب، فضلاً عن عديدٍ من دول الشرق أيضاً

ولو استعرضنا المقاييس الأرضيّة لأسباب عدم الزواج، تلك التي أبداها كلا الرجال والنساء في استبيانات هذا البحث، وعرضناها على مقاييس السماء كما يفصّلها لنا النصّ الدينيّ في الشرائع الثلاث، لتوضّحت لنا الصورة أكثر، وعرفنا أين يكمن الخطأ، وأين يجب أن نتحرّك، وأين يجب أن نتوقّف، لكي تستقرّ حياتنا من جديد، وتهدأ الزلازل، ونستعيد الأسرة، وتعود حركة الأرض إلى دورانها الطبيعيّ. 

المصدر: صفحات من كتاب (المرأة الحائرة بين السماء والأرض) – قيد النشر -

[من الصفحات: 665-668]


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين