الأستاذ زهير الحموي رجل فقدناه

د. محمد بن لطفي الصباغ

في يوم السبت الواقع في 20 صفر من عام 1433هـ (الموافق لـ14 كانون الثاني من عام 2012م) تُوفِّي الأخُ الحبيبُ الداعية الأستاذُ زهيرٌ الحمويُّ عن عُمرٍ يُقارِبُ الثمانين عامًا، قَضاها في طاعة الله وتَقْواه والنُّصح للمسلمين.
 وُلِدَ الأستاذُ زهيرٌ في دمشق وتلقَّى عُلومَه فيها، وعَمِلَ في مجال التعليم، وكان من أبرَزِ مَشايخه الإمام الأستاذ عبدالرحمن الباني - رحمهما الله.
 كان زهيرٌ الحموي داعيةً إلى الله بسُلوكه وقَوْلِه وخُلقه ومُعامَلته، كان قويَّ الشخصيَّة شديدَ الجاذبيَّة، يحبُّه كلُّ مَن عرفه، ويحترمه كلُّ مَن تعاوَن معه.
 
كان مثالَ النزاهة والتعفُّف والبُعدِ عن الحرام.
 
إنَّه طرازٌ من الدُّعاة فريد.. كان يُحقِّق كلَّ ما يريدُ من الدعوة بِمَزاياه هذه التي ذكَرْنا، ويُؤثِرُ عدمَ الظُّهور، ويُقدِّمُ مَن كان يتَعاوَنُ معه على نفسِه، وهذه عَلامةٌ من عَلامات الإخلاص في العمل.
 
كان - رحمه الله - يُوظِّفُ معلوماته الدِّينيَّة في دعوته، ويضَعُها في مَواضِعِها، ويُحسِنُ عَرْضَها بتَواضُعٍ كبيرٍ، لا يلمَحُ السامعُ منه ما يدلُّ على الأستاذيَّة ولا الأنانيَّة؛ فيتقبَّلها السامعون تقبُّلاً حسنًا، ويفيدون منها.
 
كان يدفَعُ مَن يعيشُ معه إلى فِعل الخير، والقِيام بالواجِب، والبُعد عن المحرَّمات، كان يأتي بمعاني الآيات والأحاديث ويربطُها بالواقع، ويوردُ ما يَعرِفُ من الشَّواهد التاريخيَّة والواقعيَّة ما يُؤيِّد المعنى الذي يريدُ أنْ يُقرِّره، ثم يأتي بالنُّصوص التي تُؤيِّد قوله ويشرحُها باللُّغة السَّهلة والأسلوب الذي يفهَمُه السامعون ويقتَنِعون به.
 
كانت الصِّفة الغالبة عليه هي التواضُع والبُعد عن الأنانيَّة، مع الاحتِفاظ بكَرامته والعِزَّة بالإسلام.
 
وقد أُتِيحَ لي أنْ أسعَدَ بِمُعاشَرته والعيش معه في السَّفر والإقامة، والسَّفر يُسفِرُ عن أخلاق الرجال، ويكشفُ حَقيقتهم؛ ولذلك فإنَّ أميرَ المؤمنين سيِّدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال عندما شَهِدَ رجلٌ أمامه بحق رجلٍ: أسافَرتَ معه؟ قال: لا، قال: أعامَلتَه بالدِّرهم والدِّينار؟ قال: لا، قال: اذهَبْ فأنت لا تعرفُه، فتبيَّن لي معدنُ الأستاذ زهير، فكان ذهبًا خالصًا.
 
يقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الناسُ معادن كمعادن الذَّهب والفضَّة؛ خيارُهم في الجاهليَّة خيارُهم في الإسلام إذا فَقُهوا))؛ رواه مسلمٌ[1].
 
كنتُ معه مُرابِطًا في الجبهة السُّوريَّة مُدَّةَ سنةٍ على الحدود، نرَى فيها اليهودَ الذين اغتَصَبُوا أرضَنا وأخرَجُوا منها أهلها، وأعانهم على هذه الجريمة النَّكراء أمريكا ودول الغرب والشرق الأوروبي.
 
وكانت منطقةُ الحدود في تلك الحقبة في تَماسٍّ دائم واحتِكاكٍ مستمرٍّ مع العدوِّ، فكان لا يمضي أسبوعٌ دُون أنْ تكون هُناك مُناوَشات بين الجيش السوري واليهود، وكان الجيش يردُّهم على أعقابهم، ومعلومٌ أنَّنا كُنَّا في مرتفع الجولان، وكان اليهودُ حولَ بحيرة الحولة وفي سهلها في الأسفل.
 
هذه المُرتَفعات التي سلَّمَها حافظٌ الأسد لليهود دُونَ أنْ يُطلِقَ رصاصةً واحدةً، فكان زهيرٌ - رحمه الله - أوَّلَ مَن ينزلُ إلى ساحة المعركة بلباس الميدان.. يفعلُ ذلك كلَّما سمع أنَّ احتِكاكًا حصَل مع اليهود.
 
أشهد أنَّه كان في غاية الشَّجاعة، وأنَّه كان قدوةً لمن معه في الجند، وقد رأيتُ حُبَّ الجنود له ومُسارعتهم في تنفيذ أمرِه، لقد كانوا يحبُّونه أشدَّ الحبِّ ويقتدون به في الإقدام، كما رأيتُ احترام رُؤَسائه له، وقد أثَّر في جُنوده ورُؤَسائه تأثيرًا إسلاميًّا بَيِّنًا يختلفُ من إنسانٍ إلى آخَر، وكان حريصًا على أنْ يُصلِّي بالجنود، ويدعوهم إلى مَكارم الأخلاق وكان كريمًا معهم، يُساعدهم بالمال، ويمنحُ الإجازةَ لِمَن يطلبها منهم لظَرْفٍ ضَروري من الظُّروف.
 
وكانت ثقافتُه العسكريَّة واسعةً، جعلت رُؤَساءه يعهَدُون إليه بالأمور المهمَّة، وهذه الصِّفة هي التي رشَّحته إلى أنْ يعهَدَ إليه بتدريس مادَّة "الفتوة" عندما أنهى جُنديَّته وعاد إلى سلك التعليم.
 
لقد كان يقومُ بواجِبِه على أتَمِّ وجهٍ؛ فقد كان زميلاً في مجال العمل التعليمي، فكُنَّا معًا في مدرسة التجاريَّة الثانويَّة، كان مُدرِّبًا للفتوة فيها.
 
وكان يقومُ بواجبه على أتَمِّ وجهٍ، كان يحضرُ إلى مَقَرِّ عمله قبلَ الدَّوام، ويبقى إلى ما بعد انتهاء العمل، وكان يُساعده بعض الزُّمَلاء فكانوا معه كاليد الواحدة، وأمَّا الطلاب فقد كانوا مُتَعلِّقين به أشدَّ التَّعلُّق، وبقيَتْ علاقتُه بهم بعدَ تخرُّجهم قويَّةً مستمرَّة، وكان تأثيرُه عليهم في مجال الدعوة والتِزام سبيل الإسلام في الحياة تأثيرًا عظيمًا، كان يُعِدُّ الطلبة في مادَّة الفتوة ليكونوا في مقبل الأيَّام مجاهدين في سبيل الله؛ يُحرِّرون الأرض، ويردُّون الأذى عن فلسطين وعن بلدهم، ويستردُّون القُدس وفلسطين كلها.
 
إنَّه الداعية الذي يُؤثِرُ العمل الجادَّ في بناء النُّفوس على التَّقوى وعلى فِعل الخير، وقد بَلَغَ كثيرًا ممَّا كان يسعى إليه - رحمه الله.
 
كان كريمًا يَقرِي الضيفَ، ويعينُ المحتاجَ، ويغيثُ الملهوفَ، وكان قويَّ الشخصيَّة يُواجِهُ الناس بالحقِّ، ويدعوهم إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسَنة، وكان ذا روحٍ مَرِحَةٍ، دائم البسمة، وارفَ الانشِراح، لا يعرفُ التشدُّد المنفِّر، كان يُسوِّي بينَه وبين مَن يُجالِسُ، ولا يُشعره بمكانته ولا عِلمه، كان يأكُل مع تلامذته وجُنده، ويسهرُ معهم ويحلُّ مَشاكلهم، ويُحقِّق ما يستطيعُ من مَطالبهم.
 
كان من أَوْفَى مَن عرفتُ من الأصدقاء.. لقد كتَب الله عليَّ أنْ أعيش غريبًا عن بلدي لا أستطيعُ دُخولها فما كان يَنْساني.. بل كان دائمَ الاتِّصال بي، حتى أنَّه اتَّصل بي قبلَ وَفاته بيومين.
 
وكان صَبُورًا راضيًا بقَضاء الله وقَدره، مَرِضَ المرضَ الصَّعب فصبَر وصابَر حتى لقي وجهَ ربِّه.
 
رحمه الله رحمةً واسعةً، وغفَر لنا وله، وأسكَنَه الجنَّة، وعَزائي لأهله وأولاده وأصدقائه.
 
والحمد لله ربِّ العالمين.
 
[1] "صحيح مسلم" 2638.