الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسي عالِمًا ومفكرًا وقائدًا (5)

موقف النُّورْسي من الحضارة الغربية

كان النُّورْسي مفكرًا إسلاميًّا يؤمن بتطور الحياة وتجددها، لكنه يرفض الأسس الثقافية الناتجة عن الفلسفات المادية في الحضارة الغربية، وقد حدد النُّورْسي خمسة أسس مادية تقوم عليها الحضارة الغربية:

أولها: هذه الحضارة تؤمن بالقوة ولا تؤمن بالحق، والقوة بدون الحق تؤدي إلى الاعتداء والتجاوز على الأمم الأخرى ومخالفة الموازين العادلة والمعاهدات الصادقة والتصرفات المستقيمة.

ثانيها: إيمانها بالمنفعة (البراغماتية) التي تستوجب الرذائل في الأخلاق والقضاء على الفضيلة؛ لأن الأخلاق تكون تابعة لمصلحة المنفعة التي شأنها التخاصم الذي ينتهي إلى الجناية بحق الأفراد والجماعات والأمم.

ثالثها: دستورها في الحياة التصادم بدل التعاون لأنها قائمة على الصراع الحيواني في المدافعة والمنافسة.

رابعها: لم تؤمن بغير رابطة القومية والعصبية التي تنمو على حساب غيرها وتبتلع الآخرين، وهذا يؤدي إلى العنصرية التي تؤدي إلى التصادم، فينشأ منه الدمار والهلاك.

خامسها: أنها تحتوي على مغريات رهيبة جذابة كتشجيع الأهواء والنزوات وإشباع الشهوات والرغبات، وشأن الأهواء والنوازع دائما مسخ الإنسان وتغيير فطرته وحياته؛ ولذلك فهي بدورها تمسخ إنسانية الإنسان وتحولها إلى مجرد الحيوانية (1).

ويتحدث النُّورْسي في هذا المجال عن أثر الإباحية الغربية في النساء، فقد أطلقتهن من أعشاشهن وامتهنت كرامتهن وجعلتهن متاعًا مبذولًا، واستباحت بهوى الشباب الطائش أعراض النساء والعذارى الفاتنات ودفعتهنَّ إلى الاختلاط الماجن البذيء(2)، ويؤكد أن المسلمين لم يقبلوا هذه الحضارة باختيارهم وإرادتهم بل فرضت عليهم مبادئها ونتائجها فرضًا؛ لأن الحضارة التي عاشوا فيها وانطلقوا منها إلى بناء الحياة تختلف في أصولها ونتائجها عن هذه الحضارة، فنقطة استنادها الحق بدل القوة، ومن شأن الحق دائما العدالة والتوازن، ومن هنا ينشأ السلام ويزول الشقاء، وهدفها الفضيلة بدل المنفعة، وشأن الفضيلة المحبة والتقارب، ومن هنا تنشأ السعادة وتزول العداوة، ودستورها في الحياة التعاون بدل الخصام والقتال، وشأن هذا الدستور الاتحاد والتساند اللذان تحيا بهما الجماعات، وخدمتها للمجتمع بالهدى بدل الأهواء والتنازع، وشأن الهدى الارتقاء بالإنسان ورفاهه وتنوير روحه، ورابطتها بين المجموعات البشرية رابطة الدين والانتساب الوطني وأخوة الإيمان، وشأن هذه الرابطة أخوة خالصة وطرد العنصرية والقومية السلبية(3)، ويحذر النُّورْسي المسلمين أن يكونوا كتلك الأقوام التي ضحت بكل مقدساتها في سبيل الغرب للأسباب الآتية:

1 ـ إن دين المسلمين هو دين التوحيد الحق الذي يتساوى في ظله الناس جميعا، انبعث من نظام حضاري متكامل يستند إلى الإيمان والعلم والعقل ومعالجة حياة الفقر والتأخر الاجتماعي.

2 ـ إن الإسلام لم يكن في يوم من الأيام بيد ظالمين يسحقون شعوبهم كما حصل في أوربة.

3 ـ من الخطأ قياس الإسلام على النصرانية، فأهل الغرب لم يتقدموا إلا عندما تركوا التعصب الديني، أما المسلمون فلم يتأخروا إلا عندما تركوا التمسك بحقائق الإسلام. 

4 ـ من الخطأ الاعتقاد أن ساسة الغرب قد تركوا التعصب الديني تجاه المسلمين حتى يفكر الساسة المسلمون في تقليدهم في ذلك.

5 ـ إن الفلسفة والدين لا بد أن يكونا في خدمة الدين الحق الإسلام حتى تكون الحياة متوازنة.

6 ـ إن وضع اللغة والوطن والعنصر بمواجهة الإسلام خطر عظيم على الأمَّة لأنه يمزق وحدتها، أما إذا اتحدت تلك العناصر فستنتهي إلى صنع أمة قوية.

7 ـ إن الإسلام عبر التاريخ هو الذي صاغ القيم العليا للأمة، وبها استطاع أن يثبتَ قرونًا من الزمان أمام الطامعين الاستعماريين (4).

ويتوقع النُّورْسي أن البشرية في هذه الحضارة بعد أن أصابتها الانحرافات السلوكية والعقدية والحروب المدمرة ستبحث عن حقائق القرآن الكريم لإنقاذها من أمراضها الفتاكة ومحنتها الحضارية المدمرة(5)، أما موقف النُّورْسي من الجوانب العلمية في الحضارة الغربية فهو موقف المسلم الذي فرض عليه الإسلام أن يتحرك لاكتشاف قوانين الحياة والاستفادة منها لإقامة الحضارة وبناء التقدم؛ لذلك دعا المسلمين للأخذ بأسباب الحضارة الصناعية لأنها من ضرورات إقامة الحياة القوية، ويؤكد النُّورْسي أن تجديد المجتمعات الإسلامية يحتاج إلى تبني التقنية الحديثة مع المحافظة على الأصالة والقيم الذاتية، فينبغي اتخاذ اليابان مثلًا في أخذهم الحضارة الغربية مع احتفاظهم بمقوماتهم القومية(6).

إن منهج العلاقة بالغرب وأسس حضارته في سياق هيمنته عند النُّورْسي الاستثناءُ بدلَ التعميم في الحكم على الآخرين، والاستفادة منهم وضرورة التمييز بين دائرة الاعتقاد ودائرة المعاملات في التعامل مع تلك الحضارة، فخذ ما صفا ودع ما كدر، وتتنوع أساليب خطابه في سياق التدافع الحضاري وتحريك المشترك الإنساني العام في الحوار مع عقلاء الحضارة الغربية؛ لذلك لم يكن يقصد في خطابه لحضارة الغرب إظهار الغلبة والانتصار للذات، وإنما كان يسعى إلى الدفاع عن قضية الإنسان المعاصر وإنقاذه من فتنة الطغيان المادي الذي فرضته الحضارة الغربية حتى أضحت خطرا يهدد البشرية، يقول سعيد النُّورْسي : 

(فهذه المدنية الخبيثة التي لم نر منها غير الضرر هي المرفوضة في نظر الشريعة، وقد طغت سيئاتها على حسناتها، فقد دفعت هذه المدنية الحاضرة ثمانين بالمئة من البشرية إلى أحضان الشقاء، وأخرجت عشرة بالمئة منها إلى سعادة مموهة زائفة، وظلت العشرة الباقية بين هؤلاء وأولئك) (7).

والإنسان في فكر النُّورْسي هو المحور الأساس لتحديد رؤية شاملة نحو حضارة معينة، فكل حضارة احترمت حقوق الإنسان وحافظت على أبعاده الروحية والمادية هي حضارة إيجابية نافعة، وكل حضارة استعبدت الإنسان وقضت على إنسانيته هي حضارة ضارة، فقد اعتمد السعادة البشرية معيارًا لتحديد معالم الحضارة الإيجابية، وهو ما جعله يقسم المدنية الحديثة إلى ضارة ونافعة.

رسائل النور

عدد أجزاء رسائل النور يتجاوز (130) رسالة باللغة التركية جمعت في مجلدات من الحجم المتوسط، وهي الكلمات والمكتوبات واللمعات والشعاعات والملاحق أعني ملحق بارلا وقسطموني وأميرداغ، وجوهر هذه الرسائل كلها هو الإيمان وخصائصه ووسائله، وفي بعضها حديث عن قضايا الأستاذ النُّورْسي وبعض تلاميذه أمام المحاكم فضلا عن المواضيع الدقيقة التي تمس التوحيد والآخرة وسائر أركان الإيمان.

والملاحق مجموعة رسائل توجيهية في أساليب الخدمة للقرآن الكريم وفي أمور متفرقة من المسائل التي تواجه الفرد المسلم في دعوته، كان الأستاذ يوجهها خفية إلى تلاميذه من السجون، وهناك رسائل خاصة في مسائل كلامية دقيقة أو لتثبيت الجماعة المؤمنة لم يكن -رحمه الله- يرغب في أن تنشر في أوساط ليست مؤهلة لقراءتها، ثم إن كثرة المراقبة والتفتيش والمحاكم أخرجت هذه الرسائل وكشفتها؛ لذا ضمنت بعضها في الملاحق، وطبع بعضها بشكل مستقل في مجلد واحد مثل (ختم التصديق الغيبي)، وهو عبارة عن موضوعات ورسائل لتثبيت أهل الإيمان أمام تحديات الكفر والضلالة استخرجها من الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة، وهناك رسائل أخرى مستقلة في كتب صغيرة منها (المدخل إلى النور) و (مفتاح لعالم النور)، وهي آخر رسالة كتبها الأستاذ، ورسالة (محاكمات) و (سنوحات) و (مناظرات).

وثمة رسائل ليست سوى بضع صفحات بينما هناك كتاب كامل يعد رسالة واحدة، وكان الأستاذ يشير إلى تلاميذه بوضع هذه الرسالة في اللمعات مثلًا ووضع الأخرى في الشعاعات؛ وهكذا، وكان يأخذ رأي طلابه في ذلك، أما الرسائل باللغة العربية فقد سبقت الرسائل المكتوبة باللغة التركية؛ فقد انقطع التأليف باللغة العربية بانتهاء الدولة العثمانية إلا أن الأستاذ ضم مؤلفات سعيد القديم إلى رسائل النور أيضا، ثم عدَّها نوى وشتلات لرسائل النور، ومن المعلوم أن جميع هذه الرسائل باللغتين التركية والعربية كانت بالحروف العربية حتى 1955 يوم أذِن الأستاذ بنشر التركية منها بالحروف اللاتينية حتى لا يحرم طلاب المدارس الحديثة من رسائل النور(8). قال الأستاذ إحسان قاسم الصالحي: (ورغم أن الأستاذ من أصل كردي إلا أنَّه لم يكتب في الرسائل فقرة كاملة باللغة الكردية لأن اللغة التركية يومئذ كانت لغة الدولة ورعاياها ولغة الحضارة العثمانية)(9).

هل استطاع النُّورْسي أن يحقق في طلابه الهوية الإسلامية؟

لم يمر على المسلمين زمن كانوا بحاجة شديدة إلى تحديد هويتهم الإيمانية والاجتماعية والحضارية كحاجتهم إليه في القرن العشرين، فقد تكدست عوامل التأخر، وتكالبت عليهم جموع الأعداء ليبثوا فيهم أفكارهم المادية وفلسفاتهم الجاحدة وقيمهم النسبية وأنماط حياتهم الاجتماعية لإدماجهم في نسيج الحضارة المادية المعاصرة، وذلك من خلال الانقلابات الإلحادية التي استعملت العنف والقوة في فرض ثقافة مستوردة للقضاء على الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا وحضارة تحت مظلة الاحتلال الغربي والشرقي لمعظم بلاد المسلمين، فقد تحول التغريب الملحد بمرور الزمن إلى ثقافة مقدسة ملأت حياة المسلمين الفارغة، وأبعدتها عن إدراك السنن الإلهية لقيام المجتمعات وسقوطها أو لعوامل النصر والهزيمة في حياة الشعوب والأمم، لكن بقدر ما كانت معركة الفرض الدموي للتغريب مروعة ومأساوية في مركز الأمَّة الإسلامية وموطن خلافتها الأخيرة كانت الاستجابةُ ثورةً عقديةً فكرية إسلاميَّة فخمة عميقة، لكنها في الوقت نفسه كانت هادئة حكيمة سليمة، واستطاع النُّورْسي العالم الرباني الصلب أن يقود ركب إنقاذ الإيمان بوعي واقتدار وفكر نير وإيمان راسخ لتجديد هوية الأمَّة في الإيمان والإسلام والأصالة والانتماء والاعتزاز والمنعة.

وأدرك النُّورْسي عندما واجه أمراض أمته أنَّ الشخصية الإسلامية قد فرغت من جذورها، فلو كانت الأمَّة سالمة من الأمراض لما سقطت أمام المخطط الإلحادي، فبدأ الإمام النُّورْسي بناء الإيمان الخالص بإيقاف المسلم أمام خالقه تمهيدًا لإعادته إلى الانطلاقة الأولى عندما حركه القرآن متدرجًا من عالم الحس إلى عالم العقل ثم الارتقاء إلى مستوى الوحي الإلهي الحق.

وأدرك الملحدون أن الهجوم الكاسح على قلعة العقيدة من شأنه أن يسلب المسلمين قاعدتهم التي ينطلقون منها إلى بناء الحياة في ظل الإسلام، فإذا انحرفت العقيدة وسلب منهم إيمانهم فسيذوبون في مبادئ الغرب وقيمه النسبية والأخلاقية، فسحب النُّورْسي البساط من تحت أقدام العلمانيين، وتوجه إلى قلعة الإسلام، فكان هذا المنهج مباركا لأنه حدد هوية المسلم بما يأتي:

1 ـ حوَّل عقيدة المسلم من التجريد العقلي إلى التربية الإيمانية.

2 ـ استطاع أن ينقذ هوية الإنسان المسلم من الذوبان في التلمذة على أسس الفلسفات الغربية الجاحدة ومنهجها في العلم المفضي إلى الإلحاد، ويوجهها للتلمذة على القرآن الكريم، فحررها من ضغط الغرائز والخضوع للهوى المضل وانحراف العقل، وأنقذها من التيه والخرافة التي حطمت شخصية الأمَّة الإسلامية في العصور الأخيرة.

3ـ أدار رسائله كلها في دائرة كبيرة، منها حياة القدوة العظمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستعادة هوية المسلم في العصر الحديث تتطلب الانضمام النهائي إلى موكب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته الكرام وصحابته، فينبغي بناء جزئيات السلوك بناءً ربانيًّا محكمًا، وهكذا عادت هوية المسلم أخلاقيًّا إلى مكانها الطبيعي؛ عبادةً لله في المساجد، وصدقًا في المعاملة في عالم التجارة، وخلاصًا من البخل والتبذير، وتوجهًا إلى اقتصاد القناعة والبذل في سبيل الله، وفي الدعوة والإخلاص لأداء مهمات الخلافة الإنسانية في جزئيات الحياة الكثيرة، والعمل في إطار أخوة إسلاميَّة حقيقية وفي بناء الأسرة بناءً إسلاميًّا لجيل يعتز بانتمائه الإسلامي إلى أمته ويتوجه نحو إنقاذ الآخرين من الركوع المهين أمام الطاغوت الإلحادي، يقول النُّورْسي : 

(أيها المسلم أنت موضع تجليات أسماء الله الحسنى لأنك تلميذ القرآن، فكيف تذوب في حضارة لا دينية؟ أتريد أن تخرج من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر المطلق والشرك المظلم وتتنكر لخلافتك العظمى في الوجود التي صنعت منك إنسانًا كونيًّا صديقًا للكائنات جميعًا؟).

إن هوية الإنسان المسلم في رسائل النور هويةٌ كونيةٌ قرآنيةٌ إنسانيةٌ موحدة ربانية عابدة؛ فهي هوية متميزة شاهدة على الناس جميعًا، وإذا كان ذلك كذلك فإن أي هوية أخرى نتقمَّصُها -نحن المسلمين- ستَكتب علينا صكَّ الذلِّ والعبودية لغير الله، فإن فعلنا ذلك خسرنا أنفسنا وآخرتنا، ودفنَّا كياننا في ظلمات النسيان المطلق.

وبعدُ فهل استطاع النُّورْسي أن يحقِّق عمليًّا مثل هذه الهوية في عالم الإنسان المسلم؟ أقول: استطاع النُّورْسي أن يربي طلاب النور على هذه الهوية الربانية، فنحن نجدهم في أرض الواقع قد تجلت على وجوههم عبادةٌ خالصة فأدبٌ قرآني، وتحكُّم بالمال ونظافة في البدن واللسان، وحبٌّ للمسلمين جميعًا ووفاء منقطع النظير لأستاذهم النُّورْسي ، وإنكار للذات وتواضع شفاف، وتقدُّم في العلم والعرفان وإتقان للعمل، وحركة دائمة لا تتوقف ولا تفتر في خدمة الإيمان ونشر حقائق القرآن، وحكمة في التصرف ووعي بالحياة وهدوء في الشخصية بعيد عن الصخب والجدال والادعاء والتعالي والثرثرة؛ فجديرٌ بالصحوة الإسلامية الحاضرة أن تستفيد من دراسة شخصية الإمام النُّورْسي ومنهجه الإسلامي القويم لتتخلص من الشروخ التي أحدثتها ظروف المواجهة في السياسة والثورة والعنف(10).

الحلقة الرابعة هنا

المصدر: مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

)1) الكلمات، ص855.

(2) المرجع السابق، ص164 ـ 874.

(3) الكلمات، ص855.

(4) المكتوبات، ص416.

(5) الكلمات، ص172.

(6) صقيل الإسلام "المحكمة العسكرية"، النورسي متكلم العصر الحديث ص197 ـ 201.

(7) صقيل الإسلام، ج8 ص357، اللمعات، ج3 ص162.

(8) بديع الزمان سعيد النورسي، ص132 ـ 133

(9) المصدر السابق، ص135.

(10) من معالم التجديد عند النورسي، ص85 ـ 95.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين