الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسي عالِمًا ومفكرًا وقائدًا (4)

موقفه من الاجتهاد

كان موقف النُّورْسي من حركة الاجتهاد ردَّ فعلٍ واقعي على حركة التغريب التي أرادت أن تصبغ المجتمع الإسلامي بصبغة الحياة الأوربية جملةً وتفصيلًا، فرأى أنه لا معنى للدعوة إلى الاجتهاد في جو كهذا لم يبق لضوابط الإسلام فيه أية قيمة، فأي نوع من الاجتهاد سيجري الآن سيكون في فلكِ الحياة الغربية، ومن المنطقي أن كل فلسفة لها أسسها وقواعدها، ومعالجة أية قضية تتفرع منها لا يمكن أن تتم إلا في إطارها؛ فرأى النُّورْسي أن بعض العلماء الذين لا يتحلَّون بأي شرط من شروط الاجتهاد يسوغون كل التطورات الإلحادية التي جرت في تركيا باسم الاجتهاد، فهو يؤمن أن باب الاجتهاد مفتوح لكنه يعتقد أن هناك موانع تحول دون الدخول فيه الآن:

أولها: فتح باب الاجتهاد في قطر الإسلام المنيف أو فتح الثغرات التي هي وسيلة لتسلل المخربين؛ خيانةٌ في حق الإسلام.

ثانيها: إن الاشتغال بتقوية أصول الإيمان وما هو قطعي الثبوت من النصوص التي مُنِيت بالتشكيك أفضل من الانشغال بأمور نظرية جزئية؛ لأن العقائد الإسلامية وأصولها التشريعية غدت في خطر كبير فما فائدة الحديث في الفروع؟

ثالثها: تحكُّمُ الفلسفة المادية ومظاهر الحياة الغربية في حياة المسلمين اليوم أنستهم رضَا الله سبحانه وتعالى؛ لذلك فإن أي حديث عن الاجتهاد في مثل هذا الجو لا يكون مبنيًّا إلا على أسس بعيدة عن الورع والتقوى.

رابعها: إن حركة الاجتهاد في العصر ليست ناشئة عن رغبة داخلية أو حاجة اجتماعية منسجمة مع التطور الطبيعي، وإنما متأثرة بمشكلات الحضارة الغربية التي تضغط على مجتمعنا؛ لذلك فهي لا تكون إلا وسيلة لتخريب المجتمع الإسلامي.

خامسها: إن الاجتهاد لا بد أن يجري في إطار الشريعة مهما تغيرت الحياة، ولكن تطور الحياة في عصرنا تطور مقلِّد يسير بمعزل عن ضوابط الشريعة؛ ومن هنا فإن الاجتهاد لن يكون في إطار ضوابط الشريعة بل في إطار غير منضبط بضوابط الشرع، لذلك تكون هذه الاجتهادات وفق قوانين أرضية وليست سماوية (1).

النورسي وتجديد علم الكلام

إن ظروف مجتمع النُّورْسي القاسية التي فرضت الإلحاد والزندقة بقوة الحديد والنار على المسلمين دفعته إلى التركيزِ على اتجاه آخر وصرفِ حياته كلها في سبيل توضيحه وتفهيمه، وهو تجديد علم الكلام تجديدًا واضح المعالم قوي الأركان، فأوجد علمَ كلام قرآنيًّا جديدًا استطاع به نقل علم التوحيد من نظريات فكرية مجردة يفهمها الخاصة إيمانًا عقليًّا مجردًا إلى سلوك في الحياة؛ ينفعل به العقل وتثور العاطفة ويتحول إلى ممارسة يومية، تحدد خط السير المستقيم للإنسان المسلم، وتحول بينه وبين الوقوع في الحرام. 

إن علم الكلام استطاع في فترات الجدال العقلي بين الخاصة أن ينقذ الإيمان العقلي لكنه لم يستطع أن يصوغ حياة المسلم صياغة ربانية تحقق المعنى الحقيقي لعبودية الإنسان لرب العالمين، أي إنه لتأثره الواضح بالمنهج الفلسفي الجاف لم يستطع أن يتحول إلى مدرسة للتربية الاجتماعية؛ لذلك فإن مجرد إعلان الإيمان بالله لم ينقذ سلوك المسلمين في العصور الأخيرة من كارثة البعد والشرود التي أدت إلى انحدارهم وسقوطهم وفقدانهم حقيقة التوحيد من حياتهم، وقد استطاع النُّورْسي أن يحدد المرض الخطير في جسم الأمة، ثم عالجه معالجة قرآنية خالصة، فحول عقيدة التوحيد إلى حياة مفعمة بمعاني الإخلاص والاستقامة والتضحية والسلوك(2).

كان أسلوب النُّورْسي في الحديث عن أصول العقائد الإسلامية فريدًا في بابه؛ فهو يعتمد على الأسلوب التفصيلي الذي يدخل قارئه إلى جذور القضايا بعكس علماء الكلام السابقين الذين كانوا يخاطبون الفلاسفة وتلامذة العلم العقلي التجريدي، فكانوا يعتمدون على الإيجاز الشديد والمقدمات العقلية والمصطلحات العلمية المعروفة لا يتجاوزونها، بينما كان النُّورْسي يخاطب أمة كاملة بخواصها وعوامها وقعت في براثن خدعة حضارية مادية شاملة، فتكت بعقول أبنائها وقلوبهم وسلوكهم، ودخلت في تفاصيل حياتهم بطرائق مغرية (3).

النورسي والفلسفة

اطلع النُّورْسي على مدارس الفلسفة المتنوعة منذ عصر اليونان إلى زمانه، لكنه رفضها ورفض مناهجها المخالفة للإسلام إلا إذا استجابت للدين وانقادت له فحينئذ تنتعش الإنسانية بالسعادة وتعيش حياة اجتماعية سليمة، والحق أن كثرة المدارس الفلسفية وتنوع آراء الرجال فيها دليل على عدم عصمة الفلسفة، فهي اجتهادات العقول البشرية خارج الوحي، وسببَّ هذا انحرافًا في فهم ماهية (أنا) في الإنسان، فقابلوا بالكفر دلائل الوحدانية كلها، فالفلسفة الملحدة إنما هي سفسطة لا حقيقة لها لأنها تجاهلت نظام الكون وأسراره، ولا تجيب على أسئلة العقول وتتجاهلها(4)؛ وبذلك حصل الطغيان في (أنا) الإنسان عندما تحول الوهم إلى الحقيقة في جانب الخير، فأنكر ربوبية الخالق، وبدل أن يدرك بعلمه الجزئي علم الله المطلق لم يعترف بوجوده أصلًا، وهكذا نسي (أنا) حكمةَ خالقه معتقدًا بنفسه أنه المالك الحقيقي ولا مالك غيره(5).

ويدخل النُّورْسي في مقارنة واقعية بين نتائج حكمة القرآن وحكمة الفلسفة وما يعطيه كل منهما من تربية للمجتمع الإنساني فيقول: إن حكمة الفلسفة ترى (القوة) نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية، وتهدف إلى (المنفعة) في كل شيء، وتتخذ الصراع دستورًا للحياة، وتلتزم (بالعنصرية) والقومية السلبية رابطة للجماعات؛ أما ثمراتها فهي إشباع رغبات الأهواء والميول النفسية التي من شأنها تأجيج جموح النفس وإثارة الهوى، ومن المعلوم أن شأن القوة هو (الاعتداء)، وشأن المنفعة هو (التزاحم)، وشأن (الصراع) هو (النزاع والجدال)، وشأن (العنصرية) هو (الاعتداء) إذ تكبر بابتلاع غيره وتتوسع على حساب العناصر الأخرى؛ ومن هنا نرى لماذا سلبت السعادة من البشر.

أما حكمة القرآن الكريم فهي تقبل (الحق) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية بدلًا من (القوة)، وتجعل رضا الله - سبحانه - ونيل الفضائل هو الغاية بدلًا من (المنفعة)، وتتخذ دستور (التعاون) أساسًا في الحياة بدلًا من دستور (الصراع)، وتلتزم برابطة الدين والوطن لربط فئات الجماعات بدلًا من العنصرية والقومية السلبية، وتجعل غاياتها الحد من تجاوز النفس الأمارة ودفع الروح إلى معالي الأمور لسوق الإنسان نحو الكمال والمثل الإنسانية، وشأن الحق هو (الاتفاق)، وشأن الفضيلة هو (التساند)، وشأن دستور (التعاون) هو إغاثة الكل للآخر، وشأن الدين هو الأخوة والتكاتف، وشأن إلجام النفس وكبح جماحها وإطلاق الروح وحثها نحو الكمال هو (سعادة الدارين)(6).

وليس موقف النُّورْسي من الفلسفة عدائيًّا، وإنما هو يميز بين الفلسفة الخادمة والفلسفة الكافرة الجاحدة التي ترفض مبادئ الدين الحق (الوحي الإلهي).

والأستاذ النُّورْسي لا يرفض الفلسفة المادية فقط وإنما يرفض ما يسمى بالفلسفة الإلهية القديمة التي تحولت إلى أبواب من الشرك ممثلة بروادها اليونانيين وتلامذتهم من المسلمين كالفارابي وابن سينا، وإذا كان الإشراقيون الذين هم أرقى الفلاسفة والحكماء فهمًا يتفوهون بالسخف من الكلام فكيف يكون -يا ترى- كلام من هم دونهم في الفلسفة والحكمة من ماديين وطبيعيين (7)؛ لكل ذلك يعتقد النُّورْسي أن الفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا لن ينالوا إلا أدنى درجات الإيمان لأنهم اتخذوا (الفلسفة اليونانية) أستاذًا لهم (8).

الحلقة الثالثة هنا

المصدر: مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

)1) النورسي متكلم العصر الحديث، ص239.

)2) المرجع السابق، ص105.

(3) المرجع السابق، ص78.

(4) الكلمات، ص639.

(5) المرجع السابق، ص640.

(6) المرجع السابق، ص146.

(7) الكلمات، ص644.

(8) النورسي متكلم العصر الحديث، ص188 ـ 195.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين