الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسي عالِمًا ومفكرًا وقائدًا (3)

ملامح من منهج الأستاذ النُّورْسي 

الشيخ النُّورْسي والتجديد

تمثل رسائل النور التراث النُّورْسي العلمي والفكري والتربوي، فالمطَّلع عليها يصل إلى قناعة أنه بهذه الرسائل جدد العَرْض الإسلامي وفق مقتضيات العصر، واستطاع أن يقود السفينة بعقل ومنطق وحكمة، فكان أسلوبه في أصول العقائد مخاطبة الأمَّة بخواصها وعوامها ورجالها ونسائها، وكان يؤمن أن فهم القرآن والاطلاع على حقائقه في عالم الأنفس والآفاق يرسم الموازنة الكاملة في فكر العالم المسلم؛ لذلك كان يأخذ بيد المسلم ليقرأ بنفسه حقائق التوحيد على لوحة الوجود(1)، ولم يكن أسلوبه ترفًا فكريًّا كما أنه لم يأت من فراغ ولا من ثقافة باردة بل نبع من مواجهته لتطورات الفكر في عصره، وكان قد اطلع على كتب علم الكلام والفلسفة وغيرها لكنه لم يقتنع بأنها وسيلة مجدية في إنقاذ الإيمان، فاتبع طريق القرآن وحده للوصول إلى الله لأنه أقرب الطرق إلى الفطرة الإنسانية وتحريك العقول الباحثة عن الحق والقلوب العامرة بالتوثب الدائم، وأكثر الطرق انطباقًا على آيات الأنفس والآفاق، فهل كان النُّورْسي مجددًا فريدًا في عصره؟

نعم لقد كان النُّورْسي مجدِّدًا في مسلكه وطرحه وفكره؛ فقد كان مفكرًا بحق، عاش آلام أمته وتحمل في سبيلها كثيرًا من العنت والمشاق، وكان مشعلًا لها في دياجير الظلام التي خيمت عليها(2)، فمضى النُّورْسي في صراع حضاري مرير محاولًا صياغة الناس صياغة ربانية في إطار إنقاذ الإيمان والدعوة إلى النظام الإسلامي، فهدفه تجديد حياة المسلمين في إطار الزمن الحاضر والصراع الحضاري الحاضر في حدود الدائرة القرآنية ومنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- والقيم الرفيعة التي صاحبت الجيل الأول، فكسر الحدود المصطنعة التي وضعت بين علوم الدين وعلوم الدنيا في القرون الأخيرة لفصل الدين عن العلم؛ لذلك دعا إلى تأسيس جامعة تجمع بين العلمين، لأنه أدرك بعمق أن تلك المناهج الفكرية التراثية لن تستطيع الوقوف أمام الإغراءات الفكرية لمناهج الحضارة المادية، فترك منهج علم الكلام القديم ولجأ إلى منهج الكتاب المسطور والكتاب المنظور والقرآن الناطق المطبَّق لتتفق حقائق العلم مع حقائق الوحي، فحول النُّورْسي إعجاز القرآن إلى معركة مُنتجة يتحدى فيها كفر الكافرين ونفاق المنافقين وردة المرتدين الذين ضللتهم فلسفات الغرب، فأردتهم إلى الحضيض وأفسدت كيانهم وحيرت عقولهم(3).

منهج البناء عند النُّورْسي 

يقول النُّورْسي: هناك أصول أربعة للعروج إلى عرش الكمالات وهو معرفة الله عز وجل:

أولها: منهج الصوفية المؤسس على تزكية النفس والسلوك.

ثانيها: منهج علم الكلام.

ثالثها: مسلك الفلاسفة.

رابعها وأَوْلاها: طريق القرآن الكريم الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق إلى الله وأشمله لبني الإنسان، وهو يُدلِّل على أن الإيمان لا يحصل بالعلم وحده (4)، فوضع النُّورْسي منهجا شاملًا مستفادًا من القرآن والسنة والسيرة، وقد اطلع على كتب علم الكلام والفلسفة، غير أنه لم يقتنع بها في دعوته لإنقاذ الإيمان وإنما اتبع طريق القرآن وحده للوصول إلى الله.

استطاع النُّورْسي بإيمانه وعزة نفسه وصلابة شخصيته الدخول في معركة مع الحكام ومواجهتهم، لكنه كان مقتنعًا بأن هذا الأسلوب ليس من مصلحة الأمة، وكان يدرك تماما أن الأمَّة في صراعها الداخلي لم تكن بحاجة إلى الشهداء، بل هي بأمس الحاجة إلى العلماء العارفين والدعاة العاملين والحكماء المفكرين لإنقاذ الإيمان والوقوف أمام الردة الحضارية والزحف الجاهلي متمثلًا بالحقد الصليبي والتآمر اليهودي وخيانة المنافقين (5).

كان يؤمن بالنظام في حركة التغيير الاجتماعي ويرفض الفوضى، ويعتقد بالتدرج والانتقال من المقدمات الصحيحة إلى النتائج الصحيحة، وفي ضوء ذلك يدعو الإنسان إلى تغيير اجتماعي منظم من القاعدة إلى القمة لا العكس، ولإيمان النُّورْسي بالتغيير في إطار الوعي الاجتماعي والدعوة السلمية والتخطيط الهادئ فإنه لا يبيح الثورة المسلحة داخل المجتمع الإسلامي؛ لأن ذلك لا يخدم من وجهة نظره إلا العدو الخارجي المتربص بالمجتمع الإسلامي، غير أنه لا ينكر أن استخدام الهراوة قد يُحتاج إليه في المراحل الأخيرة من بناء المجتمع الإسلامي الجديد لأن من لا يقيده النصح والإرشاد يقيده الهلع والإبعاد؛ فهو يعتقد أن التغيير الشامل في الحياة الإسلامية لا بد أن يبدأ من البنى التحتية المعنوية والمادية لا من وصفات مؤقتة؛ وذلك لملء الثغرات الخطيرة في البنيان الفوقي، وهناك ناحية أخرى يتسم بها منهجه وهو عدم الدخول في الصدامات الداخلية مع التيارات الإسلامية الأخرى لتوجيه الجهود الدعوية كلها إلى الجاهلية المعاصرة(6)؛ لذا لم يدع إلى الثأر للنفس رغم الظلم الذي مُنِيَ به هو وطلابه، وما كان يدعو للثأر للإسلام بالقوة والغضب بل بالحكمة والرحمة والموعظة الحسنة لتبليغ الدعوة وإنقاذ الإيمان، ومن المعلوم أن إنقاذ الإيمان عنده يعني إنقاذ الإسلام -من حيث هو كل لا يتجزأ- من مخططات العلمانيين وبالانطلاق من حسن الظن بالمسلمين وتجنب تكفير أي أحد منهم(7).

ويرى أن الجهاد في العالم الإسلامي هو جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلمة والعلم والنصيحة لإعادة الأمَّة إلى حظيرة الإسلام حسب قانون التدرج، ويؤمن بأن المجتمع الذي يفقد أسس الإيمان وحرارة الانتماء لا فائدة من الحديث معه عن تفاصيل الشريعة، فالقاعدة الإيمانية إذا تكونت صار تطبيق شرع الله خطوة طبيعية نحو الوصول إلى المجتمع بحكم نظام الإسلام، ويرى الابتداء بالإيمان للانتقال إلى التربية فالشريعة، لكن ليس معنى ذلك أنه طبق هذه الخطوات منفصلة دون ترابط جامع(8)، ولا شك أن النُّورْسي وصل إلى هذا الرأي بعد أن استقرأ جميع الثورات الاجتماعية في العالم في القرنين التاسع عشر والعشرين، يقول: إن الجهاد في أي مجتمع مسلم إنما هو جهاد معنوي يوصَل إليه عن طريق تنوير الأقطار وإصلاح القلوب والأرواح، وبذلك يكون جهادا إيجابيا بناء(9)، وقد طبق هذا عمليا أثناء ثورة الشيخ سعيد بيران، وامتنع عن المشاركة فنجح أسلوبه بينما فشل أسلوب الآخرين، وبنى مدرسة ثقافية إسلاميَّة روحية انتهت إلى إحداث وعي إسلامي قوي، وبه جاهدَ الكفر والإلحاد وهوَى بمعاول التوحيد الحق على مراكز الثقافة الفكرية والاجتماعية التي تفرعت عن المدارس المادية، فظهرت نتائجه عام 1950م بفوز عدنان مندريس في الانتخابات وتأييد طلاب النور له، وبعد نجاحه قام بتغييرات كثيرة في الدولة والمجتمع، وتبع هذا ظهور الصحوة الإسلامية في تركيا وبدء عودة المجتمع في كثير من مظاهر حياة أفراده إلى عقيدته وحضارته الإسلامية.

النورسي والسياسة

هل ترك النُّورْسي السياسة وانسحب من الحياة عندما قال: أعوذ بالله من الشيطان والسياسة، ولم يهتم بشؤون المسلمين، ولم يواجه الحكام بكلمة الحق والدفاع عن الدين خصوصًا أنه قسم حياته إلى سعيد القديم وسعيد الجديد وسعيد الثالث؟

الحقيقة؛ أنه لم يخالط الحكام ولم يدخل في أتون السياسة الميكافيلية التي تجسد التزلف والنفاق والمصالح الذاتية، ولم يكن طالبًا للمال والجاه والمنصب، بل لعن كل هذه المظاهر لعنَهُ لإبليس واستعاذ بالله منها، لكنه مع ذلك دخل السياسة الحقيقية من أوسع أبوابها، ولم يترك الأمَّة تعاني القهر وحدها في الميدان، ولم يتوانَ عن قَدْح سلاحه في وجه الزندقة والعلمنة، فواجه الضالين بالإيمان وواجه القانون الغربي بشريعة الإسلام والمخطط العلماني بالمخطط الإسلامي، فضحى لإنقاذ الجيل من التغريب بكل شيء راحةً ومالًا ومنصبًا وسجنًا وتشريدًا وإقامةً جبرية في المنفى، وهكذا ارتقى إلى الأفضل والأحسن والأصلح لقضايا الأمة.

كان سعيد القديم يخالط الناس في المجتمع ويسمع ثرثرتهم ويتحمل تفاهاتهم، فانسحب سعيد الجديد ليتفرغ لنفسه أولا، وكان سعيد القديم معتزًّا بمظاهر الدنيا ليثبت أنه علامة الزمان ومثقف العصر، فكان يظهر أمام المجتمع مجادلًا عنيدًا، فعاد سعيد الجديد إلى نفسه ليرى أن كل ذلك طريق الغرور وسبيل إلى بلبلة الفكر وضياع الشخصية وابتعاد عن منهج القرآن الكريم، وتحول إلى باحث عن الحقيقة قائد للمسيرة الطاهرة لإنقاذ الأمَّة من الكفر والنفاق والفصام، وكان سعيد القديم مفكرًا، لا حول له ولا قوة، لا يحسب له المتآمرون على الدين والوطن حسابًا، أما سعيد الجديد فخاض غمار السياسة سابرًا لمخاطرها قائدًا حركيًّا خطيرًا، يقود الركب وينقذ الإيمان ويهيئ صفوف الدعاة ليوم المواجهة، أَوَ بعد هذا كله يقال: إن سعيد الجديد ترك السياسة؟

وعندما تطوِّف في رسائل النور ترى أنه ينتقد الحكام بأنهم يدفعون الأمَّة إلى هاوية المدنية الدنيئة، فاللمعة الثانية والعشرون كلها سياسة، وأجوبة عن أسئلة سياسية، يبين فيها استهانة الدولة ورجالها بالحق وظلمَهم للدعاة وكذبهم على الناس، ويصفهم بأنهم طغاة متجبرون متكبرون بلغوا الفرعونية...(10)، ويصف الطاغية في زمانه بالمبتدع الملحد المفسد الضال، ويصف الذين يأتمرون بأمره بالمنافقين ويقول: إن زمان الإمساك بالهراوة لم يأت بعد لأنه مشغول بإنقاذ الإيمان وإحداث الوعي أوَّلًا، ويدعو طوائف الأمَّة إلى الائتلاف فيقول لهم: إن لم تزيلوا هذا النزاع فإن الزندقة الحاكمة الآن حكمًا قويًّا ستستغل أحدكم ضد الآخر وتستعمله أداة لإفنائه(11)، وصرح بأن القومية التي تتبناها الدولة سم قاتل ومرض أوروبي خبيث، ألقته أوربا للمسلمين ليسهل عليها ابتلاعهم قطعا متناثرة، وهاجم الفكر القومي العلماني مهاجمة شديدة، وبيَّن جذوره الأوربية، وهاجم علماء السوء الذين يصدرون فتاوى لتسويغ أعمال الدول في تغيير الشعائر الإسلامية، وينتقد رجال الدولة فيقول: (أخاطب أولئك الرؤساء المتفرغين في القيادة الذين يلعبون بمقدرات الأمَّة حسب أهوائهم، وأنتقد بشدة تدريس الفلسفة المادية الإلحادية للشباب)(12)، ويبين أنهم يرتكبون هذه الأفعال تحت ستار الإفرنج والتمدن بمدنية فرعونية، تلك المدنية التي تزيل حجاب الحياء وتُشبع نزوات أغنياء سفهاء، وتكون وسيلة لشهرة طغاة ظلمة، وتزيد بأس البائسين وألمهم، ويقول: (أيها الملحدون المتفرنجون الذين يسعون لصرف إخواني الحقيقيين عني بدعايتهم أي نفع تسدونه لهذه الأمة؟ إنكم تطفئون نور أهل التقوى والصلاح) (13).

هكذا كان النُّورْسي في تلك الفترة، فإذا لم تكن هذه سياسة وعملًا بشؤون الدنيا والسياسة فيا ترى كيف تكون السياسة؟ إن ترك السياسة عند النُّورْسي يعني عدم الاتصال بالحكام وعدم ذكر أسمائهم، والابتعاد عن الصدام معهم صدامًا حركيًّا مباشرًا، والامتناع عن الكتابة في صحفهم والنأي عن التهريج بكلمات جوفاء لا تفيد القضية، هكذا كان مخططه الإسلامي بدايةً صحيحة معاكسة مقاومة للمخطط العلماني (14).

بعد سقوط الخلافة وظهور الأعداء علنًا وبيدهم القوة الغاشمة بدأ النُّورْسي يدخل السياسة من باب آخر، يعتمد على التخطيط والمواجهة الذكية وتحويل المعركة من أسلوب إعلامي فاضح إلى مخطط فكري عميق لصياغة الأمَّة المنكوبة من جديد، وكان للنورسي من قوة الإيمان والشجاعة ما يستطيع به المواجهة ويضحي بنفسه شهيدًا، لكن كان يعلم جيدًا أن هذا ليس من مصلحة الأمة، وكان موقنًا أن الأمَّة لم تكن يومئذ بحاجة إلى شهداء، بل إنها بأمس الحاجة إلى العلماء والدعاة المفكرين كي ينقذوها من السقوط الإيماني والردة الحضارية والهمجية الجاهلية(15).

وعندما بدأ نصب التماثيل في الميادين قال النُّورْسي: (النصب الذي يجب على المسلمين إقامته هو المستشفيات والمدارس وملاجئ الأيتام والأقسام الداخلية للطلبة ودور العبادة وشق الطرق)(16)، وظل النُّورْسي في عهده القديم وفي عهده الجديد هو هو، لم يتغير لكنه أدخل التغيير في خططه وأسلوبه السياسي في كتابة رسائله، فنشر الوعي الصحيح في ظل قاعدة التدرج والأخذ بنظام الأولويات دون حاجة إلى استعمال العنف، ولو لم يكن النُّورْسي شخصية سياسية مؤثرةً لَمَا قضى جل حياته في السجون والمحاكمات والمنفى والإقامة الجبرية، ولَمَا مُنِعت رسائله من النشر بينما لم يفعلوا ذلك بغيره من العلماء؟ فما فعلوا ذلك بالنورسي وحده إلا لأنهم كانوا يعلمون أنه بصدد مشروع نهضوي حضاري شامل؛ لذلك عدوه سياسيًّا خطيرًا (17)، وأشار النُّورْسي إلى أن سبب تخلف الدولة العثمانية فئات ثلاث تتحمل قسطا كبيرًا من مسؤولية تأخرها:

الأولى: فئة العلماء.

الثانية: فئة المتعلمين المثقفين الذين لم يفهموا حقيقة الغرب.

الثالثة: فئة أصحاب الزَّوايا، وبيَّن أن كل فئة من هذه منغلقة على نفسها وتتهم الآخرين بالكفر أو الجهالة.

الحلقة الثانية هنا

المصدر: مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

(1) الكلمات ص173.

(2) اللمعات ص167.

(3) الكلمات ص422.

(4) المثنوي العربي، ص 428، المكتوبات، ص425.

(5) من معالم التجديد عند النورسي، ص10.

(6) الشعاعات، ص424.

(7) الشعاعات، ص424.

(8) اللمعات، ص 160، المكتوبات ص 362.

(9) الملاحق، ملحق أميرداغ ص72.

(10) الشعاعات، ص421.

(11) اللمعات، ص38.

(12) المكتوبات، 79 ـ 415 ـ 510 ـ 544 ـ 553.

(13) المكتوبات، 548.

(14) المكتوبات، ص 76.

(15) المكتوبات، ص 58.

(16) المرجع السابق، ص27.

(17) مرجع سابق، محسن عبد الحميد، ص59، المكتوبات، ص59، النورسي متكلم لعصر الحديث، ص239.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين