الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسي عالِمًا ومفكرًا وقائدًا (2)

المدارس اليوسفية

المدرسة اليوسفية الأولى

بعد نقل الأستاذ النُّورْسي إلى مدينة إسبارطة عام 1934م اعتُقِل مع مئة وعشرين من طلابه، وسيقوا جميعًا إلى سجن (أسكي شهير) بتهمة تشكيل جمعية سريَّة تعادي نظام الحكم وتسعى لتغييره، وُضِع الأستاذ في حبسٍ انفراديٍّ مع مضايقات كثيرة تهدف للتأثير على روحه المعنوية، لكن رغم ذلك كان الأستاذ مستمرًّا في تأليف رسائل النور، ولم يسفر التحقيق معه ومع طلابه عن شيء من الإدانة إلا أنَّ المحكمة حكمت عليه بالسجن أحد عشر شهرًا بسبب رسالة الحجاب، وبعد أن قضى الحكم في سجن أسكي شهير نُفي إلى مدينة قسطموني عام 1936م، فقضى في مخفر الشرطة ثلاثة أشهر، ثم نُقل إلى بيت صغير أمام مخفر الشرطة حتى يكون تحت المراقبة الدائمة، قضى الأستاذ في هذا المنفى سبع سنين استمر خلالها في تأليف رسائله ومراسلة طلابه بشتى الوسائل، فكانت رسائله تنقل سرًّا ثم تستنسخ باليد ثم توزع على النواحي والقرى والمدن، بهذه الطريقة استنسخت ست مئة ألف نسخة، وانتشرت في أنحاء تركيا كلها.

كانت الحركة النُّورْسيَّة في توسع دائم ونشاط مستمر، ففشلت كل التدابير الحكومية في بناء سد يُعيق هذه الحركة أو يُوقف تقدمها، لكنها استمرت في إلصاق التهم بها، ففي 31 آب 1943م داهمت الشرطة بيته بحثًا عن أدلة تدمغه، لكنهم لم يعثروا على شيءٍ، ومع ذلك نُقل الأستاذ مع مائة وعشرين من طلابه إلى أنقرة (1)، وكانت التهمة الموجهة إليهم تأليف جمعية سرية وتحريض الشعب على الحكومة العلمانية ومحاولة قلب نظام الحكم وتسمية مصطفى كمال بالدجال والسفياني (2).

المدرسة اليوسفية الثانية

نقل الأستاذ من أنقرة إلى مدينة (دنيزلي) ووضع في سجن، وشكلت الحكومة لجنة تدقيق لرسائل النور لينظروا: هل فيها موضوعات سياسية أو أية أفكار أخرى ضد الحكومة، فاعترض النُّورْسي على تكوين هذه اللجنة لأنه رآها تكونت من أشخاص جهلاء غير مؤهَّلين للحكم على رسائله، فشكلت الحكومة لجنة أخرى، وكانت النتيجة أنهم لم يعثروا فيها على شيء فيه إدانة للنُّورسي، وبقي النُّورْسي موقوفًا في سجن دنيزلي في زنزانة انفرادية، وكان طلابه مسجونين في السجن نفسه، فعقدت محكمة العقوبات الكبرى عدة جلسات للمحاكمة ألقَى فيها الأستاذ دفاعًا رائعا نورد جزءًا منه، قال الأستاذ:

(نعم نحن عبارة عن جمعية تحوي في كل عصر أربع مئة مليون من الأعضاء المنتسبين إليها، وهم يتسابقون دائما إلى تحقيق أهم شعارها ألا وهو {إنما المؤمنون إخوة}، فنحن من أفراد هذه الجمعية العظيمة...، بأي وجه تريدون إيقاف حركة رسائل النور التي هي عبارة عن خدمة حقائق القرآن، من يستطيع أن يقف في وجه حقيقة ترتبط بعرش الله تعالى؟(3) إنني لا أتوجه في بياني هذا إلى أعضاء هذه المحكمة فقط بل إلى تلك الجماعة المتآمرة في (إسبارطة) أيضًا، أيحق لمارق مثل (د دوزي) أن يفتري على القرآن وحقائقه في وقاحة وإصرار، ويُعد ذلك أمرًا مقدسًا لأنه حرية للرأي والفكر، أهذه حرية الرأي والفكر؟

أما عن الجمهورية العلمانية فنحن نعلم أنها تلك التي لا تتعرض للدين في خير أو شر، ولكنكم تفسحون الطريق أمام كل جريمة وفاحشة خلقية وكذب على الله باسم الحرية الوجدانية والفكرية، إن دعواكم ليست إلا استغلالًا ووسيلةً لإعدام الدين باسم المحافظة على الأمن، فاسمعوا يا من بعتم دينكم بدنياكم وهويتم في الكفر المطلق، إنني أقول لكم: افعلوا كل ما يمكنكم فعله، فغاية ما نتمناه أن نجعل رؤوسنا فداء لأصغر حقيقة من حقائق الإسلام، إن السجن الخارجي على هذه الحال أسوأ مئة مرة من ذلك السجن الداخلي في ظل هذا الاستبداد، لا يمكن أن يقال: إن هناك حرية؛ حرية العلم أو حرية الضمير أو حرية التعبير أو حرية الدين، على طلاب الحرية أن يموتوا أو يبقوا في السجون؟! إن الزنادقة والمنافقين غرروا بكم وانحرفوا بالدولة عن وظيفتها الأساسية، إنهم اتخذوا من الاستبداد جمهورية ومن الردة نظامًا ومن الجهل والسفه مدنيةً ومن الظلم قانونًا؛ وبذلك خانوا وطنهم وضربوه ضربة ما كان لأجنبي أن يضربه مثلها) (4).

ورغم صدور قرار المحكمة في 15/6/1944م ببراءة الأستاذ النُّورْسي إلا أنه لم يطلق سراحه، وجاءت التعليمات بنفيه إلى قضاء أميرداغ، فنُقل ووضع في إقامة جبرية، ووضع على الباب حارس على الشيخ، فكتب الشيخ رسالة إلى رئيس قوى الأمن قائلًا له: (لماذا تعاملونني معاملة غير قانونية وأنا شخص أعاني من الغربة والمرض والشيخوخة؟ إن على هؤلاء الذين يقولون إنهم لا يريدون ظلمي ويحكمون ببراءتي أن يردوا إليَّ قبل كل شيء حريتي، إنني أتمكن أن أعيش بدون طعام لكن لا يمكن أن أعيش بدون حريتي (5). إذا استطاعوا أن يسكتوني أمام الناس فلن يستطيعوا إسكات رسائل النور التي تصل إلى شغاف القلوب، إن كل نسخة تقوم مقامي، ولن تسكتها أية قوة على الأرض) (6).

المدرسة اليوسفية الثالثة

هل كان مرور اثنتين وعشرين سنة على حياة النفي والإقامة الجبرية والمراقبة والترصد لشيخ بلغ الخامسة والسبعين يكفي جلَّادِيه القساة؟ كلا، ففي 3 كانون الثاني سنة 1948م داهمت الشرطة بيت الشيخ وبيوت خمسة عشر من طلابه، وسيقوا جميعًا إلى سجن مدينة أفيون، واعتُقل أربعة وخمسون طالبًا من طلاب النور أيضًا، والتهم الموجهة إليهم هي التهم السابقة نفسها، وهي الاتهام بتشكيل جمعية سياسية أو السعي ضد نظام الحكم، استمرت جلسات المحكمة مدة طويلة وصدر القرار أخيرًا في 6 كانون الأول 1948م بالحكم على الشيخ بالسجن عشرين شهرًا، وبالحكم مددًا مختلفة على عدد من طلابه، وعومل الشيخ في هذا السجن معاملة قاسية؛ وضعوه في غرفة كبيرة في الشتاء القارس، وتركوه بدون مدفأة، وبعد انقضاء مدة الحبس اضطرت المحكمة إلى إخلاء سبيله(7).

واستبشر المسلمون سنة 1950م بمجيء الحزب الديمقراطي إلى الحكم لا لأن هذا الحزب كان إسلاميًّا بل لسببين:

الأول: أنه أزاح من الحكم أشرس عدو للإسلام.

الثاني: أنه أعطى بعض الحرية للنشاط الإسلامي وأعاد الأذان الشرعي، لذلك أرسل الأستاذ برقية لرئيس الجمهورية الجديد جلال بيار تمنَّى فيها أن يوفقه الله لخدمة الإسلام، ورد عليه الرئيس ببرقية شكر.

الحلقة الأولى هنا

 

المصدر: مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

(1) المرجع السابق، ص 57، 246.

(2) المرجع السابق، ص62.

(3) المرجع السابق ص67.

(4) عاصم الحسيني: سيرة إمام مجدد، ص56.

(5) نجم الدين شاهين أر، ص331.

(6) بديع الزمان سعيد النورسي ص69.

(7) المصدر السابق ص71

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين