الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسي عالِمًا ومفكرًا وقائدًا (1)

التحديات التي واجهت أمتنا منذ القرن الرابع العشر الهجري كبيرة وعميقة، فقد أدت إلى إسقاطِ الخلافةِ وعاصمتِها السياسيةِ إسطنبول وعاصمتِها العلميةِ القاهرةِ، ولم تكن الاستجابة في البداية بمستوى تلك التحديات، فعادت نتيجة الصراع على أمتنا بالخسارة؛ لأن قوى الغزو العالمي والثقافي والفكري والسياسي تمكنت من الأمَّة حتى كادت تستسلم عقيدةً وشريعةً وسلوكًا لولا امتلاكها قواعد انطلاقٍ قوية في الأعماق تجدد أصالتها وتحتفظ دائمًا ببذور اليقظة والمقاومة، فأمتنا قد تضعف لكنها لا تستسلم ولا تموت لأنها أمة القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

إنَّ الانطلاق من القرآن الكريم والسنة النبوية رسم لأمتنا أسس الحركة والتغيير التي دفعت الأمَّة إلى المقاومة حتى تخلصت من الاحتلال العسكري، وهي الآن في طريقها إلى التحرر من الغزو الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي بعد أن جددت لها المفاهيمَ صحوةٌ إسلاميَّة عصريَّة مباركة، وفي خضم المآسي الدامية والصراع الحضاري بين الأمم ينبعث رجال عظماء وعلماء ربَّانيون ومفكرون فطاحل، يُصنَع كل منهم على عين العناية الإلهيَّة ليمسكوا بناصية أمتهم ويحولوا بينها وبين السقوط الحضاري؛ من هؤلاء العلماء الربانيين والمفكرين العظماء والمجاهدين بالسيف والقلم بديع الزمان سعيد النُّورْسي ، فهو من تحمَّل مسؤولية النهوض بالأمَّة وتجديد الحياة بالإيمان الراكد في القلوب والتصدي لتيار جارف كاد يسلخ الأمَّة من عقيدتها ودينها وأخلاقها وقيمها وتاريخها، وقد أيقن النُّورْسي منذ البداية أنَّ الغرب مقدم على هجوم كبير على الأمَّة تحت راية الحداثة والتنوير والحرية والديمقراطية؛ فكان لا بد من تجديد الإيمان في القلوب ورفع مستوى الوعي في العقول والاستقامة في السلوك لمواجهة هذه الهجمة الشرسة في مرحلة التأخر والتشرذم والخواء الإيماني التي تمر بها الأمة.

لقد أدرك بديع الزمان أن الإسلام في خطر إيمانًا وعقيدةً وشريعةً وأخلاقًا وقيمًا وحضارةً، فقرر المواجهة، ولكن كيف؟

المطلع على رسائل النور -وهي تراث النُّورْسي في الدعوة والفكر والتجديد- يصل إلى قناعة أنه كان برسائله مجددًا للعَرْض الإسلامي وفق مقتضيات العصر، وأنه استطاع أن يقود الرَّكْبَ بحكمة وعقل ومنطق، فتجنَّب خلافات العلماء والطرق الصوفية، وكانت معركته موجهة إلى الخارج وسماسرة الداخل، فالناس عنده فئتان متقابلتان خندقُ الإسلام وخندقُ أعدائه، فقد أيقن أنه لا يمكن المواجهة بجبهة متفرقة، وهو إنما ظهر في هذا المنعطف الخطير من حياة الأمَّة ليحمل همومها ويقف في الميدان عالِمًا ومفكرًا وقائدًا ومجاهدًا يقوم بأعباء رسالة نذَر لها نفسه وحياته، فرسائل النور بحر لا ساحل له جمعت ثلاثة تفاسير؛ تفسير الكتاب المسطور، والكتاب المنظور في الكون وآيات الأنفس والآفاق، والقرآن الناطق الذي تجلى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا بد لرسائل النُّورْسي وتراثه العلمي والفكري والسلوكي من دراسات متنوعة حول تجديدها الإسلامي وأسلوبها التربوي وعمقها الفكري، فأتى هذا البحث على جوانب عدة من حياة الشيخ النُّورْسي، شملت نشأته وتعلُّمه وأسفاره ومدارسه وسجنه ومنهجه في مجموعة من قضايا الدين والحياة والعلم، وتحدَّثتْ عن أثر ذلك في طلابه وتلامذته.

مولده ونشأته

ولد النُّورْسي في قرية {نُورْس} في ولاية بتليس شرق تركيا سنة 1293ه/1877م، لغته الأم الكردية، وأجاد التركية لغة الخلافة العثمانية، توجه في بداية حياته إلى الكتاتيب في منطقته، وكان متميزًا بين أقرانه صاحب ذكاء خارق قوي الحافظة، وتنقَّل بين عدة مدارس في المنطقة لأنها لم تكن تلبي رغباته، وكان يناقش العلماء وهو طالب، فسموه {سعيد المشهور}، حفظ كتاب {جمع الجوامع} في أصول الفقه لابن السبكي خلال أسبوع، وألفية مالك وكتاب "{الجاحي}(1) في مدة قليلة، وفي مدينة بتليس حفظ {القاموس المحيط} للفيروز آبادي حتى باب السين، وحفظ كتبًا أخرى عن ظهر قلب، ولذكائه الخارق ذاعت شهرته فأطلق عليه لقب {بديع الزمان}، ولم يكتف بالعلوم الدينية والعربية بل طالَع الكتب العلمية كالفلك والجيولوجيا والرياضيات والفلسفة الحديثة والتاريخ والجغرافيا حتى أفحمَ أساتذتها المتخصصين(2).

محطات في حياة الأستاذ النُّورْسي 

زيارة إسطنبول

وصل إلى إسطنبول سنة 1907م، وسكن في منطقة الفاتح، وعلق على باب غرفته لوحة كتب عليها: (هنا يجاب عن كل سؤال، وتحل كل مشكلة دون أن يسأل هو أحدا من الناس)، كان هذا إعلانًا غريبًا وادعاءً مثيرًا زاد شهرته ورغب كثيرون بلقائه، وتوالى عليه ثناء العلماء الذين زاروه، قال العلامة حسن أفندي: (لم أشاهد مثله أبدًا، إنه من نوادر الخلق).

في إسطنبول قدَّم النُّورْسي عريضةً إلى السلطان يطلب فيها فتح مدارس للعلوم الحديثة مع العلوم الدينية في شرق تركيا حيث يخيم الجهل والفقر على السكان، وانتقد حاشية السلطان ونظام الأمن والاستخبارات في قصر يلدز؛ فأثار حاشية السلطان، فأحالوه إلى المستشفى لفحص قواه العقلية، وأصدرت لجنة الأطباء قرارًا بوضعه في مستشفى "طوب باش للمجاذيب"، وعندما فحصه أحد الأطباء كتب في تقريره ما يلي: (لو كانت هناك ذرة واحدة من الجنون عند بديع الزمان فمعنى ذلك أنه لا يوجد على وجه الأرض كلها عاقل واحد) (3).

في سلانيك

سافر إلى سلانيك وعرَف كبار شخصيات الاتحاد والترقي، ولكونه شخصًا يدعو إلى الحرية والشورى الإسلامية رحَّبَ به قادة الاتحاد والترقي، لكنهم لم يستطيعوا التأثير عليه ولا جعْلَه تابعًا لهم، فبقي مستقل الفكر والشخصية، وهناك طلب اليهودي المشهور عمانوئيل قرصو (4) رئيس المحفل الماسوني وعضو مجلس النواب العثماني مقابلته طمعًا في التأثير عليه، فقابلَه، لكن ما لبث أن خرج اليهودي من عنده قائلًا: (لقد كاد هذا الرجل العجيب يزجني بحديثه في الإسلام) (5).

في أول محكمة عرفية

في الجو المتوتر المشحون ضد جمعية الاتحاد والترقي وقعت حادثة 31 آذار 1325ه الموافق 13 نيسان 1909م في ساحة السلطان أحمد: نشب عصيان بين أفراد الطابور العسكري الذي أرسله الاتحاديون من مدينة سلانيك إلى إسطنبول لحماية المشروطية، فثار الجنود وأعلنوا العصيان وطالبوا بتطبيق الشريعة، وانتهت الحادثة بوصول جيش الحركة إلى إسطنبول في 23 نيسان 1909م، فسيطرت وعزل السلطان عبد الحميد في 27 نيسان 1909م، وأُعلِنت الأحكام العرفية، وشُكِّلت محكمة عسكرية لمحاكمة المسؤولين عن العصيان، وكان الشيخ النُّورْسي ممَّن قدموا إلى أعواد المشانق في تلك المحكمة العسكرية، وبدأ القاضي العسكري خورشيد باشا بمحاكمة النُّورْسي في المحكمة أمام منظر خمسة عشر معدمًا في الساحة كان النُّورْسي يشاهدهم من النافذة، فقال له: وأنت أيضًا تدعو إلى تطبيق الشريعة؟ إن من يطالب بها يعدم هكذا مشيرا بيده إلى المعدمين في الساحة، فقام النُّورْسي وألقى على سمع المحكمة كلامًا رائعًا نقتطف منه ما يأتي:

(إنني طالب شريعة؛ لذا أرى كل شيء بميزان الشريعة، فالإسلام وحده هو ملتي، خطابي ليس موجَّهًا إليكم وحدكم وإنما أوجهه إلى بني الإنسان كلهم في هذا العصر، فلقد انبعثت الحقائق من قبر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة {يوم تبلى السرائر}، فمن كان أجنبيا غير محرم فلا ينظر إليها، إنني متهيئ بكل شوق للذهاب إلى الآخرة ومستعد للرحيل إليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق، لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد إلا أنها الآن تحارب الحياة بأكملها، فإذا كانت الحياة على هذا الشكل فليعش الجنون وليعش الموت ولتعش جهنم مثوى للظالمين، لقد كنت آمل أن يُهيَّأ لي موضع لأبيِّن فيه أفكاري، وها قد أصبحت هذه المحكمة العرفية خير مكان لأبثّ فيها أفكاري وأقول لكم: لو كان لي ألف روح لكنت مستعدًّا لأن أضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة؛ إذ الشريعة سبب السعادة، وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة)(6).

النورسي مجاهدًا وأسيرًا

كان الأستاذ سعيد النُّورْسي معارضًا لدخول الدولة العثمانية في الحرب، لكن عندما اندلعت أسرع إلى جبهة القتال وشارك في فنون الجهاد، وشكل من طلابه ومن المتطوِّعين فرقًا للجهاد والدفاع عن البلاد ضد الغزو الروسي والعصابات الأرمنية، كانت روسيا تحاول الاندفاع نحو الأناضول، وفي 16 شباط 1916م دخلت الجيوش الروسية مدينة أرض روم، وكان الأستاذ النُّورْسي مع طلابه يقاتلون الجيش الغازي بكل بسالة، وعندما دخل الجيش الروسي بتليس كان هو وطلابه يدافعون عن المدينة في قتالٍ شديدٍ في شوارع المدينة إلا أن القوة الروسية كانت متفوقة على القوة الصغيرة المدافعة عن المدينة، وخلال المعركة جرح النُّورْسي جرحًا بليغًا، وأسره الروس، وأرسل إلى أحد معسكرات الأسر في "قوصترمة" شرق روسيا(7)، وفي أحد الأيام عُرِض على محكمة عسكرية لأنه لم يقم احترامًا للضابط نيفولافيج في زيارته للأسرى، فأصدرت المحكمة قرار الإعدام بموجب إهانته القيصر والجيش الروسي، فطلب من أحد الضباط أن يسمح له بخمسة عشر دقيقة فقط ليتوضأ ويصلي، وفي هذه الأثناء حضر الضابط نيفولافيج وقال له: أرجو منك المعذرة؛ كنت أظن أنك لم تقم لي بقصد الإهانة، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم؛ لذا ألغيت قرار الحكم بحقكم(8) ثم هربَ من الأسر مارًّا بوارسو وفيينا حتى وصل إلى إسطنبول(9).

في دار الحكمة الإسلامية

بعد وصوله إلى إسطنبول من الأسر عُيِّن عضوًا في دار الحكمة الإسلامية، وكان من أعضائها الشاعر المعروف محمد عاكف، والعالم إسماعيل حقي، والمفسر حمدي يازر، وشيخ الإسلام مصطفى صبري وغيرهم، لكن الشيخ لم يشارك في اجتماعات دار الحكمة لحاجته إلى الراحة بعد ما قاساه من عناء أيام الأسر، وعندما تكرر غيابه أرسل طلبًا يرجو فيه إعفاءه من هذه العضوية، وفي هذه الفترة كانت الحكومة قد خصصت له مرتبًا، لكنه لم يأخذ منه سوى ما يقيم به أَوَده وطبع بباقيه بعض الرسائل لتوزَّع مجانًا على المسلمين، وقال لابن أخيه عبد الرحمن: يا ابن أخي، الحكومة أعطتنا مرتبًا كبيرًا، وليس لي الآن أن آخذ منه إلا كفاف النفس، وما زاد فعليك أن ترده إلى بيت المال.

هكذا يكون العالم قدوة للناس بالعمل لا بالمظهر والقول فقط، فقد قضى عمره كله هكذا نصفه شبعان ونصفه جائع؛ إذ كان يتناول في اليوم طبقًا صغيرًا من الحَساء مع كسرات من الخبز، وكان شعاره الذي طبقه على نفسه أن لا يأخذ شيئا من أحد بدون مقابل (10).

في قلب المحنة

توالت المصائب على الدولة العثمانية، وتدخلت جيوش الاحتلال في تركيا، وعقدت معاهدة سيفر، فأحس النُّورْسي بهذه الطعنات وكأنها موجهة إلى قلبه، يقول: (لقد كنت أحس بأن هذه الضربات التي وجهت إلى العالم الإسلامي كأنها وجهت إلى أعماق قلبي)(11)، واحتلت قوات الاحتلال البريطاني إسطنبول في 16 آذار 1920، فألف بديع الزمان كتابه {الخطوات الست}، وأخذ ينشره سرًّا بمساعدة طلابه وأصدقائه، هاجم فيه الإنجليز بلهجة قوية رادعة، ودحض الشبهات التي أثيرت آنذاك ببراهين قاطعة مفنِّدًا حججهم، ولفَت أنظار المسلمين إلى أطماعهم، وحارب اليأس الذي تسلط على كثير من النفوس ورفع العزائم(12).

وفي سلسلة المؤامرات على الإسلام وجه الإنجليز عن طريق كنيسة "إنجليجان" ستة أسئلة إلى المشيخة الإسلامية لتجيب عنها بست مئة كلمة، فوجهت المشيخة هذه الأسئلة إلى بديع الزمان، وكان جوابه: (إن هذه الأسئلة لا يجاب عنها بست مئة كلمة ولا بست كلمات ولا بكلمة واحدة بل ببصقة واحدة على الوجه الصفيق الإنجليزي اللعين) (13). وبدأت حركة المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي في الأناضول، فأصدر شيخ الإسلام عبد الله أفندي تحت ضغط المحتلين الإنجليز فتوى ضد حركة المقاومة والقائمين عليها، ولكن سرعان ما قام ستة وسبعون مفتيًا ومعهم ستة وثلاثون عالِمًا وأحد عشر نائبًا بإصدار فتاوى مضادَّة، فأيَّدوا الحركة وشجعوا على قتال المحتلين، وكان بديع الزمان أحد هؤلاء العلماء، يقول: (إن فتوى تصدر عن مشيخة وإدارة تحت ضغط الإنجليز لا بد أن تكون غير سليمة، ولا يجوز الانصياع لها ذلك؛ لأن الذين قاموا بمقاومة المحتلين لا يمكن اعتبارهم عصاة، لذا يجب سحب هذه الفتوى)(14).

في هذه الفترة دعا مصطفى كمال الأستاذ النُّورْسي إلى أنقرة، فسافر إليها سنة 1922م، واستقبل في المحطة استقبالًا حافلًا، لكنه صدم عندما وجد معظم النواب لا يؤدون الصلاة، فقرر أن يكتب هذا البيان إلى النواب يعظهم ويذكرهم بالإسلام مستهلًّا بقوله: (يا أيها المبعوثون... إنكم مبعوثون ليومٍ عظيمٍ. ولم يرض مصطفى كمال عن هذا البيان، فاستدعى النُّورْسي وحدثت بينهما مشادَّة، وكان مما قاله مصطفى كمال: لاريب أننا بحاجة إلى أستاذ قدير مثلك، لقد دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك، لكن أول عمل قمت به هو الحديث عن الصلاة، فبثثت الفرقة بين المبعوثين، فأجابه النُّورْسي مشيرًا إليه بأصبعه {باشا باشا، إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة، إن الذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود) (15).

فكر مصطفى كمال بإبعاده عن أنقرة لتعيينه واعظًا للولايات الشرقية بمرتب مغرٍ، لكن الأستاذ النُّورْسي رفض هذا الطلب، وغادر إلى مدينة وان بعد أن لمس عن قربٍ نيات خفية سيئة يكنها للإسلام كثير من المسؤولين، وفي هذه الأثناء نشبت ثورة في شرق تركيا بقيادة الشيخ سعيد بيران، وكانت هذه الثورة موجهة ضد سياسة الكماليين المعادية للدين، فرفض الأستاذ النُّورْسي المشاركة فيها؛ لأنه لم يكن يثق بالوعي الإسلامي للناس الذين سيشتركون فيها ومدى قدرتهم على فهم الإسلام وتطبيقه، لكن موقفه هذا لم يُنجه من غضب حكومة أنقرة، فأرسلت مفرزة اعتقلته في مدينة وان سنة 1925م، ونُقِل إلى إسطنبول ثم صدر الأمر بنقله إلى مدينة (بوردو) ومن ثَمَّ إلى مدينة (إسبارطة ) ثم إلى مدينة (بارلا)، فوصل إليها في شتاء سنة 1926م، وقضى الليلة الأولى في مخفر الشرطة، ثم خصص لإقامته بيت صغير يتكون من غرفتين.

في هذه الفترة كانت تركيا تعيش حالة من الاستبداد والطغيان والعداء الصريح للدين باسم التمدن والتحضر، واستمرت هذه الفترة مدة ربع قرن حتى سنة 1950م يوم جاء عدنان مندريس إلى الحكم بالانتخابات، كان الهدف هو قطع صلة الشعب التركي بإسلامه جذريًّا من خلال تجفيف الينابيع التي تغذي روحه وعقله، فمنعوا تدريس الدين وبدلوا الحروف اللاتينية بالعربية، وأعلنوا علمانية الدولة، وشكلوا محاكم تبث الخوف والإرهاب في البلاد، فنصبت مشانق للعلماء ولكل من تحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة، فاعتُقل الأستاذ النُّورْسي ونفي إلى مدينة (بارلا) لكي يجمد فكره ويقل تأثيره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الفياض، لكن شاء الله أن تكون هذه البلدة مصدر إشعاع إسلامي أضاء فيما بعد أرجاء تركيا(16)، فقضى النُّورْسي فيها ثماني سنوات ونصفًا في الإقام الجبرية، ألف فيها معظم رسائله، فكانت هاتان الغرفتان (أول مدرسة ثورية)، ويصف النُّورْسي عزلته وغربته فيقول: (حينما كنت في منفاي في ذلك الأسر بقيت وحدي منفردًا منعزلًا عن الناس على قمة جبل (جام) المطلة على مراعي بارلا، وكنت أبحث عن النور في تلك العزلة).

كان أهالي بارلا يرون هذا العالم وهو يخرج من سكنه متوجهًا إلى الجبل أو عائدًا، فلا يجرؤ أحد أن يكلمه؛ فهو شخص غير مرغوب لدى السلطة ومراقب، فلم الدخول في مشكلات؟ لكن في أحد الأيام وهو راجع من الجبل سقطت الأمطار بغزارة، فتخرَّق حذاؤه، فدخل المدينة وهو يحمل حذاءه بيده ويغوص في الطين بجواربه الصوفية البيضاء، وكان هناك بالقرب من نبع الماء جمع من الأهالي شاهدوا هذا المنظر المؤثر منظر العالم الجليل المهيب المنفي عن موطنه، فانطلق شخص اسمه سليمان نحوه، وأخذ الحذاء من يده ونظفه، ثم رافقه إلى سكنه وصعد معه إلى غرفته، كانت هذه بداية التعارف، ظل سليمان تلميذًا وفيًّا للأستاذ يساعده ويعاونه ويتتلمذ على يديه ثماني سنوات، وكان هو أول حلقة بينه وبين الآخرين، وبدأت حلقات التلاميذ تتسع شيئًا فشيئًا، وبدأ الأستاذ بنشر رسائله باسم (رسائل النور) سرًّا، ثم يستنسخها تلاميذه لنشرها في كل أرجاء تركيا متحملين تبعات هذا العمل من اعتقال ومطاردة وتعذيب(17).

قرر النُّورْسي مواجهة الزلزال الكبير، فالحرب ضد الإسلام تقودها الحكومة بكل أجهزة الدعاية وبأقلام المنافقين والمتزلفين والمتسلقين من الكتاب والصحفيين، وقد كممت فيه أفواه المصلحين وحيل بينهم وبين الدفاع عن عقيدتهم؛ لذلك مُنِيت أسس الإسلام وأصوله بالشك والإنكار في نفوس كثير من الشباب الذين لم يكونوا يجدون أمامهم مرشدًا أو موجهًا، فقرر النُّورْسي أن يحمل الأمانة الكبرى على كاهله لقضية إنقاذ الإيمان، فهي مسألة لا تحتمل التأجيل والتسويف؛ لذلك نرى مِن أولى الرسائل التي ألفها رسالة (الحشر)، فالبعث ويوم القيامة أو يوم الحشر في نظر العلمانيين خرافة لا سند لها من دليل عقلي أو علمي.

لم يكن لدى النُّورْسي أي كتب أو مصادر يرجع إليها أثناء التأليف سوى القرآن الكريم، وقد ساعده على ذلك ما وهبه الله من ذاكرة خارقة وقدرة عجيبة على الحفظ، وكانت الحروف اللاتينية قد استبدلت بالعربية التي حظر الطبع والنشر بها، وأُغلقت مطابعها، فكانت طريقة الاستنساخ باليد سرًّا هي الطريقة الوحيدة العملية لنشر رسائل النور لرجل غريب منفي مراقب، فبدأت الأيدي تتداول هذه الرسائل سرًّا وتتدارسها، وتهرب بها إلى المدن والقرى البعيدة، فبدأت تكسب قلوبًا جديدة وأرواحًا عطشى إلى الهداية والنور في تلك الصحراء المحرقة المظلمة الحالكة، وأخذت الحكومة تطارد طلبة النور وتداهم منازلهم وتفتشها، فتقبلوا هذه المضايقات بصدر رحبٍ، فالسجن هو أقل ما يمكن أن يدفعوه من ضريبة الإيمان وهو ليس سوى مدرسة يوسفية، وأسهمت النساء في هذه الحملة إسهامًا فعالًا، فأتت بعض النسوة إلى الأستاذ وقلن له: يا أستاذنا، إننا لكي نشارك في خدمة رسائل النور قررنا القيام بالأعمال اليومية لأزواجنا ليتفرغوا كليًّا لكتابة رسائل النور(18)، وبقيت رسائل النور عشرين سنة تنتشر بهذه الطريقة، ولم تطبع كاملةً في المطابع إلا سنة 1956م.

المصدر: مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس السوري الإسلامي

(1) آخر سلسلة كتب النحو المقررة في تلك المدارس.

(2) إحسان قاسم الصالحي: بديع الزمان سعيد النورسي، ص6.

(3) المرجع السابق، ص2.

(4) هو أول صهيوني ماسوني عمل على قلب الخلافة وخلع السلطان عبد الحميد.

(5) المرجع السابق ص22.

(6) بديع الزمان سعيد النورسي، ص27.

(7) سيرة ذاتية، ص122.

(7) الشعاعات، ص571.

(8) اللمعات، ص359.

(9) سيرة ذاتية، ص135.

(10) سيرة ذاتية، ص137.

(11) بديع الزمان النورسي، ص36 نقلا عن نجم الدين شاهين أر، ص212.

(12) سيرة ذاتية ص145.

(13) بديع الزمان سعيد النورسي، ص37، نقلا عن نجم شاهين أر، ص210.

(14) السيرة الذاتية، ص 142، 186.

(15) بديع الزمان سعيد النورسي، ص45.

(16) سيرة ذاتية ص259.

(17) سيرة ذاتية، ص246.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين