الأسبانيون يعترفون بحضارة الإسلام

د. محمد رجب البيومي
أتى زمن على مؤرخي الأسبان تنكبوا فيه عن الحق، حيث استجابوا إلى العصبية المغرضة، فاندفعوا يسجلون تاريخ الإسلام ببلادهم تسجيل من يفتري على الحقائق ليجعل العهد الإسلامي عهد ظلمات و تقهقر وانحدار، وكم تكبد هؤلاء كل مرهقة، في طمس الحقائق السافرة، واخفاء الأدلة الساطعة، وكم بذلوا من أفانين الاحتيال لعقلي، والتكلف الجدلي ليلبسوا الحق بالباطل، وقد تجرأ أحدهم فزعم أن أصول الحضارة الأسبانية ترجع إلى اليونان والرومان، ولا تمت إلى الإسلام بسبب، وقد قطع عليهم الدكتور أحمد أمين؛ طريق اللجاح حين سألهم في الجزء الثالث من ظهر الإسلام ص 309 سؤالاً لا يستطيعون التهرب من إجابته الصريحة فذكر أن مقارنة أشبيلية وغرناطة وقرطبة وغيرها من مدن الأندلس بحواضر أوربا في عهد الإسلام تثبت تاريخياً أن مدن أسبانيا المسلمة كانت مصدر الإشعاع حينئذ لكل عاصمة أوربية.
فأيهما إذن ترجع إليه جذور التقدم الحضارية ؟ أترجع إلى اليونان والرومان وقد عاشت مدن الدولتين في ظلام دامس ؟ أم ترجع إلى أثر الإسلام وقد أشر ق بالنور على ما حوله من الدول فهرعت إلى الأندلس شتى الوفود لتستضيء بحضارة الإسلام؟
ولماذا لم تتقدم اليونان والرومان على الأندلس حضارياً إذا كانتا مصدر الإشعاع؟
ولو كان الذين يكتبون تاريخ الأندلس على هذه الصورة المنكرة يجهلون الحقائق السافرة لالتمسنا لهم بعض العذر في أحكامهم المخطئة ولكنهم يعرفون معرفة يقينية أن أول مدرسة للترجمة بأوربا قد نشأت في طليطلة بالقرن السابع فتحولت بذلك إلى أول مركز ثقافي عام في أوربا جميعها، وقد ترجمت إذ ذاك مؤلفات الغزالي والكندي والفارابي وأخوان الصفاء وما  نقل إلى العربية من مؤلفات أرسطو، و أخذ يتوافد على مدرسة طليطلة عشاق المعرفة من أبناء الشعوب اللاتينية، وتوالت القرون على نشاط هذه المدرسة حتى صارت مثلاً للاحتذاء فأنشى غيرها  على نمطها في أشبيلية وماريوكا وفي مقاطعات أسبانيا المسيحية المجاورة للأندلس، فهل يعقل أن ينشئ أعداء المسلمين مدارس تحتذي حذو مدرسة اشبيلية دون أن يلمسوا أثرها البعيد في التقدم الثقافي والازدهار الحضاري ؟ أو أن المعقول أن الثقافة الإسلامية قد أجبرتهم على الإذعان لسيطرتها، فكانت معراجهم الأول للارتقاء . ومن المضحك أن بعض الذين احتذوا مدارس الأندلس وتعلموا العربية ودرسوا القرآن، لم يشيدوا بفضل أساتذتهم حتى جاء أبناؤهم وأحفادهم فرجعوا بالحق إلى نصابه ن ووضعوا الثقافة الإسلامية موضع الأستاذية بعد أن تخلصوا من رواسب الهوى، وأذعنوا للمنطق الصريح؟.
أما كيف اعترف هؤلاء الأحفاد بما أنكره الأجداد، فإن المجلدات العربية من تأليف أساطين الفكر الإسلامي بالأندلس ظلت مجفوة مهملة، بعد أن أحرق أضعاف أضعافها تعصباً للباطل، وحقداً على ذوي العقول المستنيرة من كبال المؤلفين، ظل ما بقي من هذه المؤلفات مهملاً في دير (الأسكوريال) حتى شبت به النار فلم تبق غير ألفين من المخطوطات وتبدد ما كان يملأ أغوار الدور الأول من الدير في أمكنة رطبة لا يطرق إليها شعاع من شمس فرأت الحكومة الأسبانية أن تستقدم حبراً لبنانياً يفقه العربية ليتصفح هذه المخطوطات، وجاء العلامة ميشيل الغريزي ليباشر مهمته، وصنع فهرساً كبيراً لما بقي من الكتب، وخص كل مجلد ببعض التعريف .
وكان فيما كتب ما وجه الأنظار إلى دراسة الآراء الإسلامية في مصدرها الحقيقي، بعد أن كان مؤرخو الأسبان يكتفون بالروايات النصرانية المغرضة وحدها، وأكثرها مسرف في الشطط المغرض، وحينئذ نشطت طائفة من الباحثين كي تقابل بين الآراء المختلفة فتعرض الأقوال النصرانية بإزاء الأقوال العربية .
وتستنتج ما تتمخض عنه الموازنة النزيهة من نتائج، وقد تحمس نفر من المهاجين ذوي التعصب الأعمى إلى الروايات النصرانية وحدها، واتهموا من يعارضها بالروايات الإسلامية في دينه وإخلاصه، ومن حسن الحظ أن الحق لا يعدم أنصاره، وأن مجال البحث العلمي يكشف ترهات المبطلين، فتخص جيل تال في مراجعة المصادر من جديد، ونطقت البحوث النزيهة بفضل الحضارة الإسلامية، وبددت أوهاماً دوّنها التعصب، حتى رأينا من يدعو إلى إحياء التراث العربي وتدريسه بالجامعات الإسبانية، لا باعتباره يمثل تاريخ فترة مضت، بل باعتباره فخراً للأسبان، إذ كان أجدادهم المسلمون حملة المشاعل في دياجير القرون السابقة، وتساءل أحدهم في مرارة، كيف نعتز بتاريخ اليونان الوثني ولا صلة لنا به؟ ونهمل تاريخ العرب الزاهر، وهم أجدادنا؟ وإذا كان لنا أن نشير إلى نفر من هؤلاء المنصفين فإننا نذكر الدوق (باسكوال جايا نجوس) أول أستاذ جامعي للغة العربية في مدريد، وتلميذه الأستاذ (فرانشسكو كوديرا) ثم تلميذه الأستاذ (خوليان ريبيرا) ثم العلامة الطائر الصيت الأستاذ ( ميجيل آسين بالاتيوس) ومؤلفاتهم جميعاً ذات خطر عظيم في دوائر الاستشراق وقد لاقت نقدات كثيرة من مستشرقي الألمان والفرنسيين، ولكنها ثبتت للنقد، واستطاعت أن تبدد أراجيف المغرضين عن حضارة الإسلام، بل جعلت قارئها يشعر أن الأسبان قد خسروا التقدم الحضاري والرقي الثقافي حين ناءوا الإسلام عن تعصب ضرير.
وكأني بالأستاذ (خوليان ريبيرا) وقد عز عليه أن يجد المسلمين من العرب وحدهم كانوا أساتذة الحضارة في موطنه فأراد أن يشارك معهم غيرهم من ذوي موطنه، فادعى أن عبد الرحمن الداخل كان نصف عربي لأن أمه غير عربية، وكذلك ابنه هشام كانت أمه غير عربية فلا يحمل غير ربع من نسبة الدم، وجاء الحكم ابن هشام من أم غير عربية فلا  يحمل غير الثمن!! وأخذ يوالي التمثيل ليصل إلى أن العنصر العربي قد ذاب في العنصر الأسباني وأن أمثال المفكرين الكبار كابن رشد، و ابن حزم، وابن زيدون وابن طفيل، وابن  مسرة هم أسباب لا عرب!!! ولو سلمنا جدلاً ـ مع استحالة التسليم ـ بما قاله الأستاذ لواجهناه بمشكلة جديدة وهي : أن هؤلاء الأسباب ـ لحماً ودماً كما يرى ـ لم يحملوا مشعل الثقافة بالأندلس لكونهم أسبانيين أو عرباً، بل لكونهم مسلمين، فأساس التقدم في عصور الأندلس لم يرتبط بالعرب لكونهم عرباً فحسب، بل لكونهم مسلمين يفتحون العيون على مثل جديدة في الإدراك والوجدان والسلوك وبهذه المثل أصبحت قرطبة في ازدهارها لا تقل شأناً عن بغداد، ليكن أصحاب الحضارة الأندلسية أسبانيين كما يريد الأستاذ أن يقول، ولكن الفارق بينهم وبين أجدادهم في عهد القوط والوندال والروم، أن أمثال ابن رشد وابن مسرة وابن حزم و ابن الطفيل قد تزعموا الثقافة العالمية تحت راية الإسلام، ولولا الإسلام لكانوا كمعاصريهم في المدن المتخلفة سواء بسواء...
فإذا تركنا الأستاذ (خليان روبيرا) إلى تلميذه الأستاذ (آسين بلايتوس) فإننا نجده في تحمس للثقافة الإسلامية بالأندلس قد دأب على نشر المقالات العلمية في صحف أسبانيا ومجلاتها الثقافية داعياً إلى تمجيد أجدادهم المسلمين ذوي الإشعاع الثقافي في عصور الظلمات فكوَّن رأياً عاماً ثقافياً يتعاطف مع فكرته حتى استطاع في أوائل سنة 1929 أن يستميل جامعة غرناطة إلى نزعته الفكرية، فأقامت احتفالاً علمياً كبيراً لذكرى الخلافة الإسلامية بالأندلس لمناسبة مرور ألف عام على إنشائها في عهد عبد الرحمن الناصر، فكان ذلك أول حادث رسمي من نوعه يؤكد أن الثقافة الأندلسية حقيقة واقعة، وأن دعوى إنكارها تدل على تعصب لا تعرفه قاعات البحث الجامعي النزيه، وقد هتف الأستاذ آسين في هذه الاحتفالات بأن أسبانيا بأبنائها المسلمين كانت معلمة أوربا وأستاذة الغرب جميعه، وقد أوغل فيما بعد في شعاب البحث العلمي ليثبت أن أعظم أثر أدبي تعتز به روما وهو (الكوميديا الإلهية) التي الفها الشاعر الكبير دانتي، هذا الأثر الأدبي الفذ قد أخذت أصوله من قصة المعراج الإسلامية إذ عربت إلى الأسبانية والفرنسية واللاتينية، وقد ثبت علمياً أن (دانتي) قد قرأ النص اللاتيني ووعاه وكان نواة الكوميديا الإلهية، وقد جاء من بعد الأستاذ آسين من أفراد هذه المسألة ببحث جامعي مستقل نال عليه درجة الدكتورة في روما، وانتهى إلى أن قصة الإسراء والمعراج هي ملهمة الشاعر الإيطالي الكبير، كما أنها في الوقت نفسه قد ألهمت أبا العلاء المعري حين كتب قصته الخالدة (رسالة الغفران).
على أن إعجاب الأسبانيين بحضارة السلام في الأندلس قد وجد صداه لدى كثير من مفكري أوربا، واذكر أن الكاتب الفرنسي الشهير (كلوت فارير) قد كتب مقالاً دامعاً يتأسف فيه لهزيمة المسلمين في معركة بلاط الشهداء حين انتصر عليهم القائد الهمجي (شارل مارتل) ويرى في هذا الانتصار انتكاساً للحضارة الإنسانية وتقهقر بها إلى الوراء، وقد قال في خاتمة مقاله ما ترجمته :
(يكفي المرء أن يطوف في حدائق الأندلس أو بين الآثار العربية التي لا تزال تأخذ بالأبصار، مما يبدو من عواصم السحر والخيال، أشبيلية وغرناطة، وقرطبة، وطليطلة ليشاهد والألم أخذ منه ما عسى أن تكون بلادنا الفرنسية لو أنقذها الإسلام العمراني المتسامح، وخلصها من الأهاويل التي لا أسماء لها ) وللشاعر الكاثوليكي العربي الأستاذ شبلي ملاط قصيدة رائعة تنحو هذا المنحى يقول فيها :
مَن للزمان بمثل عدل محمد         وحكومة كحكومة الخطاب
لولا تجلد شارل مارتل  حلقت     في الغرب فوق أباطحٍ وروابي
فعلى الذين ينكرون أثر الإسلام في رقي الإنسانية أن يراجعوا ما سجله الأسبان في الصحف الدورية ومحاضرات الجامعة، والموسوعات العلمية، ليروا كيف وجد الحق بيانه على ألسنة المخلصين من غير معتنقيه، وهؤلاء لن يكونوا ذوي غرض خاص حين يشيدون بدين يدينون بسواه مجاهرين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي، العدد 188 شعبان 1400هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين