الأرحام - حق الرحم

الأرحام


الدكتور عثمان قدري مكانسي


الأمهات والزوجات والبنات والأخوات أرحامنا ، وصّانا بهنَّ القرآن الكريم ، وجعل وصلهنَّ والإحسان إليهنَّ من التقوى فقال سبحانه : ( وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (1) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إنَّ الله تعالى خلق الخلق ، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال :  نعم ؛ أما ترضين أن أصِلَ مَنْ وصلك ، وأقطع مَنْ قطعك ؟ قالت : بلى ، قال : فذلك لكِ ، ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : اقرؤوا إن شئتم :( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ  (23) ) (2) )) (3).
وللنساء في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصيب وافر يدلُّ على عظيم اهتمام هذا الدين العظيم بأمورهنّ ، فتحدّث عنهن بعامة ، وفصَّل فيهن بخاصّة .
     ومِنْ أمثلة الحديث العام قولهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوصي بهن في حجة الوداع (( . . . ألا واستوصوا بالنساء خيراً . . )) (4) ، وذكر مكانتهنَّ في المجتمع الإسلامي وطريقة التعامل معهن ، وحقوقهن ، وواجباتهن . . . وقولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوصي المرأة أن تحسن معاملة جارتها حتى ينموَ الودُّّ بينهما (( يا نساء المسلمات ؛ لا تحقرَنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسَنَ شاة )) (5) .
     وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واصفاً حالة النساء في النار ، كي تتجنّب الواعيات الصالحات منهن أن يكنَّ من أهلها (( . . . وقمتُ على باب النار ، فإذا عامّةُ مَنْ دخلها النساء  )) (6) ، وفي رواية (( . . واطّلَعْتُ في النار فرأيتُ أكثر أهلها النساءَ )) (7) ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ موضحاً أثرهنَّ على الرجال لأنهنَّ محطُّ شهوتهم (( ما تركت بعدي فتنة هي أضرُّ على الرجال من النساء )) (8) .
     أما الحديث عنهنّ بخاصة - وهذا ما أرمي إليه في هذا المقام - فأرحامنا من النساء . . .
     1 ـ وأبدأ بالأم لعظيم فضلها ، وجليل خطرها ، ورفعة مكانتها . وقد شغلت في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيّزاً كبيراً . . ، أختار من هذا الحيّز أحاديث توضِّحُ هذه المكانة السامية . ففي قصة جريج العابد تدعوه أمه وهو يصلي فلا يلتفت إليها ظانّاً أن الصلاة النافلة أهم من إجابة دعوة الأم ، وسيجيبها حين ينتهي من صلاته فتدعو ـ من حزنها لإهماله إياها ـ أن يرى وجوه المومسات ، وقد كانت رؤيتهنَّ تورث التقزُّز والقرفَ على العكس مما نراه في هذا العصر التقدّمي المتحرر !! حيث ارتفعت أسهمهن ، وصارت لهنّ الصدارة ، وتشوّفَ الناس ، وتشوّقوا للوصول إلى ما وصلن إليه من الشهرة وفيض المال (9)!! وفي الحديث نفسه نجد حبَّ الأم ابنها ورغبتها أن يصبح عظيماً كالوجيه الذي مرَّ بحصانه أمامها ، وعوذهاا أن يكون ابنها مثل الفتاة التي يضربها الناس ويتهمونها بالزنا والسرقة . . .
     ويحذر الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عقوق الوالدين ولا سيّما الأم فيقول : (( إنَّ الله تعالى حرَّم عليكم عقوق الأمهات ، ومنْعاً وهات ، ووأد البنات . . . )) (10) والعقوق استخفاف بفضل الوالدين ، وقطع الإحسان إليهما ، وقطع الرحم التي أمر الله بوصلها .
     جاء رجل إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله مَنْ أحبُّ الناس بحسن الصحبة؟ قال (( أمُّك ثم أمُّك ثم أمُّك ثم أبوك ، ثمَّ أدناك أدناك )) (11) .
     والصحابي هو أبو حكيم يريد أن يكون من أهل الله الذين يبغون ثوابه ويخافون عقابه ، فلما قال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المرة الأولى : (( أمك )) وهي كلمة واحدة معبرة عن إرضاء الأم الكريمة ذات الفضل العظيم الذي لا يدانيه فضل ، فالجنة تحت أقدامها ، سأله عن الشخص الثاني في حياة الإنسان ، فكرّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفظ : (( أمك )) فعرف أبو حكيم أنَّ فضلها كبير لا يدانيه فضل مهما علا وسما .
     ورغب أبو حكيم أن يعرف الثالث في الفضل بعد مرتبة الأم أولاً وثانياً اللتين خصَّصهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأم الحبيبة ، فكرّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفظ (( أمك )) يا الله ، إنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينبئ عن عظيم فضل الأم ، فهي نبع الحنان ، ونهر الرحمة ، وسحائب الغفران . إرضاؤها خطير ، وإكرامها واجب كبير . . ثم مَنْ يا رسول الله بعد الأم أولاً وثانياً وثالثاً بعد باب الجنّة ، ومفتاح الخيرات ! فيأتيه الجواب (( أبوك )) فهو المربّي ، والأسوة الحسنة لأولاده ، يشقى لأجلهم ، ويتعب لراحتهم ، رضاه من رضا الرب ، وسخطه يؤدي إلى سخطه ، إكرامه واجب ، وحبُّه لازب ، أدخلهما الله جميعاً جنّته في الفردوس الأعلى (12) .
     وقد ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمَّ مثلاً للرحمة فقال حين قَدِم بسبي ( أسيرات ) فإذا امرأة منهن تبحث عن وليدها ، فلما وجدته أخذته ، فألزقته ببطنها ، فأرضعته ، فقال رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أترون هذه المرأة طارحة ولدها بالنار ؟ )) قلنا : لا والله ، قال : (( لـَله أرحم بعباده من هذه بولدها )) (13) ، ولو لم تكن الأم مثال الرحمة وعنوانها ما جعلها رسول الله      ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثل الواضح لرحمة الله سبحانه وتعالى بعباده .
     2 ـ وأثنّي بالزوجة خيرِ متاع الدنيا ، المرأة الصالحة ، فقد خصّها الرسول ـ صلى الله عليه  وسلم ـ بأحاديث وافرة ، فهي شقيقة العمر ، ورفيق الدرب ، ترى رضاء الله في رضاء زوجها ، راعية في بيته ، شريكة حياته .
     أ ـ أمرنا الرسول الكريم أن نتخَّير المرأة الصالحة ذات الدين ، التي ترى حقَّ زوجها قبل حقوق الآخرين وتفضله على نفسها ، ولا بأس أن يجتمع والدينَ صفة ٌ أو صفتان أو الصفات كلُّها . قال عليه الصلاة والسلام : (( تُنكح المرأة لأربع :
أ ـ    لمالها .
ب ـ  ولحَسَبِها .
جـ ـ  ولجمالها .
د ـ    ولدينها ، فاظفر بذات الدين ، تربت يداك )) (14) .
     وعودة إلى الفصول السابقة توضح العلاقة بين الرجل وزوجته :
ـ    فهو يحبها ويودّها  فإن كره منها خلقاً حمد لها خلقاً آخر .
ـ    ولا ينبغي له أن يجلدها فهي ليست خادمة بل زوجة كريمة .
ـ    يكرمها ولا يظلمها ولا يقبّح ، ولا يهجر إلا في البيت .
ـ    يكسوها مما يكتسي ، ويطعمها مما يَطعَم ، وله صدقة في ذلك وثواب كبير .
ـ    أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً ، وخيارُهم خيارهم لنسائهم .
     ب ـ وهذه السيدة عائشة رضي الله عنها تقول في حق السيدة خديجة رضي الله عنها : ما غرتُ على أحد من نساء النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما غرتُ على خديجة ، وما رأيتُها ، ولكنْ كان النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر من ذكرها ، وربما ذبح الشاة ، ثم يقطّعُها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له : كأنّه لم يكن في الدنيا إلا خديجة ؟ فيقول : (( إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد )) (15) .
     جـ ـ وهذه بريرة خادمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوّجها ـ وهي أمَةٌ ـ عبدٌ أسود لبني المغيرة يُدعى مغيث ، فلما أعتِقَتْ وصارت حرَّة خيَّرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مفارقة زوجها أو البقاء في عصمته ، لكنها آثرت الفراق ، فلجأ مغيث إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتشفّع له عندها ففعل ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لها : (( لو راجعتهِ فإنه أبو     ولدك )) قالت له : يا رسول أتأمرني بذلك ؟ قال : (( إنما أشفع )) قالت : لا حاجة لي فيه (16) .
     د ـ وقد مرَّ في فصل (( كرم المرأة المسلمة )) كيف أجابت الزوجة الأولى لإسماعيل عليه السلام أباه حين زاره فأمره أن يفارقها ، ففعل ، وكيف أجابت الزوجة الثانية إجابة تدل على طيب نفسها فأمره أن يمسكها ، وفي القصة نفسها نجد السيدة هاجر المرأة المؤمنة التي تسأل زوجها حين تركها وابنها في واد غير ذي زرع : آلله أمرك بهذا ؟ فيقول : نعم ، فتقول إذاً لا يضيِّعنا (17) .
     هـ ـ ولِيُحافظ الرجل على عرض أخيه وجاره في غيابه يعظم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمانة والشرف والطهارة فيقول حاثّاً على حرمة نساء المجاهدين في سبيل الله تعالى : (( حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ، ما مِنْ رجلٍ من القاعدين يخلُف رجلاً من المجاهدين في أهله ، فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة ، فيأخذ من حسناته ما شاء حتى   يرضى )) ، ثم التفت إلينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( ما ظنكم ؟ )) (18) .
     فبماذا نجيب بعد هذا التهديد الواضح الذي يأخذ بالألباب ؟ رجل يجاهد الأعداء ويبذل دمه في سبيل الله ، متغرّب عن أهله ، ترك الدنيا وراءه ، يريد رضا الله جلّ في علاه ، هل يخونه في أهله إلا فاسق فاجر ، لا يرعى للمسلم حرمة ، ولا يعرف لله حدّاً ؟!!
     3 ـ وأثلـّث بالبنت فلذة الكبد وحبّة القلب ، فقد حباها الحديث الشريف بعشرات الأحكام ، وصوّر حبها لأبيها وحبَّ أبيها لها .
     يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( فاطمة بضعة مني ، فمن أغضبها أغضبني )) (19) .
     حبٌّ أبويٌّ عارم ، لا يرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأساً أن يظهره ليعلّم الناس أن الفطرة الصحيحة برٌّ متبادل بين الآباء والأبناء ، وأنَّ محاولة طمس هذه الفطرة يورث العُقَد النفسية .
     ورورت عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت عليَّ امرأة ، ومعها ابنتان لها تسأل ، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة ، فأعطيتُها إياها ، فقسمتها بين ابنتيها ، ولم تأكل منها شيئاً ، ثم قامت فخرجت ، فدخل النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ علينا ، فأخبرتُه ، فقال : (( مَن ابتُلي من هذه البنات بشيء ، فأحسنَ إليهن كنَّ له ستراً من النار )) (20) .
     وهذه فاطمة رضي الله عنها تحفظ سرَّ أبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد روت السيدة عائشة حديثاً يدلُّ على العلاقة الرائعة بين الأب وابنته . . تقول : كنَّ - أزواج النبيِّ  صلى الله عليه وسلم ـ فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ، ما تخطئ مِشْيَتُها من مشية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئاً ، فلما رآها رحّب بها وقال : (( مرحباً بابنتي )) ثم أجلسها عن يمينه أو شماله ، ثم سارّها ، فبكت بكاءً شديداً ، فلما رأى جزعها سارّها الثانيةَ ، فضحِكَتْ ، فقلت لها : خصَّكِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بين نسائه بالسرار ، ثم أنت تبكين ؟ فلمَّا قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألتها : ما قال لك رسول الله  صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : ما كنتُ لأُفشي على رسول الله ـصلى الله عليه وسلم  سرَّه .
     فلما توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلتُ : عزمت عليكِ بما لي عليك من الحق لّما حدَّثتِني ما قال لك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قالت : أما الآن فنعَمْ ، أما حين سارّني في المرة الأولى فأخبرني (( أنَّ جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة ، أو مرَّتين ، وأنه عارضه الآن مرَّتين ، وإني لا أُرى الأجل إلا اقترب ، فاتقي الله واصبري )) فبكيت بكائي الذي رأيتِ .
     فلما رأى جزعي سارّني الثانية ، فقال : (( يا فاطمةُ أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة ؟ )) فضحكتُ ضَحكي الذي رأيتِ (21) .
     وهذه أمّ سليم ترى ابنها انساً رضي الله عنهما تأّخر عند النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتسأله حين عاد إلى أمّه : ما حبسك ؟ فيقول لها : بعثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحاجة ، قالت : ما حاجتُه ؟ قلتُ : إنها سرٌّ . قالت : لا تخبرَن بسرِّ رسول الله ـ صلى الله عله وسلم ـ أحداً . . (22) .
     وقد مرَّ معنا تحريم القرآن الكريم وأد البنات والتشنيع على من يفعله ، يقول الله تعالى : ( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ( 8 ) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( 9 ) ) (23) ، وقد مرَّ معنا في هذا الفصل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّ الله تعالى حرَّم عليكم :
أ ـ    عقوق الأمهات .
ب ـ   ومنعاً وهات .
جـ ـ   ووأد البنات . . . )) إنّ وأَدهُنَّ ناتج عن وأد النفس أولاً ، فما يفعل ذلك إلا رجل لا خلاق له ، ولا قلب عنده .
     أما الحفيدة فهي البنت الصغيرة المدلَّلة ، وابنة البنتِ كأمِّها حبّاً وكرامة .
     وهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرحيم بأمته ، وشأنـُه شأن كل الآباء يخفق قلبه حناناً وعطفاً حين يرى أمامة بنت زينب بنتِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيحملها ويصلّي ، فإذا سجد وضعها ، وإذا قام حملها (24) .
     يقول العلامة الفاكهاني : وكأن السرَّ في حمله أمامة في الصلاة دفعٌ لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهن ، فخالفهم في ذلك ، حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم ، والبيانُ بالفعل أقوى من القول .(25)
     ونراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو الناس إلى الإسلام لينقذوا أنفسهم من النار ، ويخصُّ ابنته فاطمة التي يحبها كثيراً بهذه الدعوة (( يا فاطمة أنقذي نفسك من النار . . )) (26) ، فهو عليه الصلاة والسلام راعٍ في بيته فضلاً عن رعايته للأمّة الإسلامية ، بل للناس جميعاً .
     4 ـ ورابعة الأرحام الأخت التي لا ترى أفضل من أخيها ، وتفخر به قبل زواجها ، وتربّي أبناءها على حبّه ، وتلجأ إليه حين تضيق الدنيا بها ، وقد حفل الحديث الشريف بذكرها ولا سيّما في علم الفرائض .
     لكنني أقف في حقِّها على ثلاثة أحاديث :
     أولها : قصة النبيِّ سليمان في حكمه بين الأختين ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت لصاحبتها : إنما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكما إلى داود ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرتاه.
     فقال : ائتوني بالسكين أشقّه بينهما ، فقالت الصغرى : لا تفعل ، رحمك الله ، هو ابنها . فقضى به للصغرى )) (27) .
     ثانيها : ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات ، فيحسن إليهن إلا كنَّ له ستراً من النار )) (28)  وهذ دعوى إلى :
أ ـ     تحمّل مسؤولية الأسرة تحملاً جادّاً .
ب ـ   بناءِ أسرة بناءً قائماً على التراحم والتربية الاجتماعية المتكافلة .
جـ ـ  العملِ على إرضاء المولى سبحانه ورعاية عباده الضعفاء .
د ـ    التقوى التي توجب الجنة وتبتعد عن النار (29) .
     ثالثها : ما قالته السيدة أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد سمعَتْ أنه قد يتزوّج بدُرّةَ بنت أم سلمة ، يا رسول الله : انكح أختي بنت أبي سفيان ، قال :           (( أوَتحبين ذلك ؟ )) قالت : نعم ؛ لست لك بمخلِيَة (30) وأَحَبُّ من شاركني في خيرٍ أختي . فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّ ذلك لا يحلُّ لي )) فقالت : فإنّا نُحدثُ أنك تريد أن تنكح درّةَ بنت ابي سلمة . قال : (( بنتَ أم سلمة ؟ )) قالت : نعم . فقال : (( لو أنها لم تكن ببيتي في حجري ما حلّت لي ، إنها لابنةُ أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثُويبَةُ ، فلا تعرِضْنَ عليَّ بناتكنَّ ولا أخواتكنَّ )) (31)
     هذه أم حبيبة رضي الله عنها في السنوات الأولى للإسلام في هجرة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تسمع :
1 ـ   أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيتزوج درّة بنت زوجته أم سلمة .
2 ـ  أم حبيبة سعيدة بزواجها من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتحبُّ الخيرَ لأختها فتسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتزوجها كي ترى أختها من الخير في كنفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما تراه هي .
3 ـ   يخبرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّّه لا يجوز الجمع بين الأختين في شريعة الإسلام .
4 ـ   تقول له ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنها سمعت أنه سيتزوج من درَّة بنت أم سلمة فهل يجوز الجمع بين الأم وابنتها ولا يجوز الجمع بين الأختين .
5ـ    ينكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سيضم درَّة إلى نسائه لسببين كل منهما وحده يمنع الإقتران بدرة .
        الأول : أنها ربيبته ( ابنة زوجته ) .
        الثاني : أنَّ درّة ابنة أخيه من الرضاعة فقد رضع ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو سلمة من ثويبة أمة أبي لهب التي أعتقها حين ولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
        وقرأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (32) .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين