الأربعون في الجهاد والاستشهاد -5-

 

(28)

الأجر الكثير على العمل اليسير

 

عن البراء قال: 

 

جاءَ رجلٌ من بني النَّبِيتِ - قَبِيلٍ مِن الأنصارِ - فقال: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَا الله، وأنكَ عبدُهُ ورسولُه. ثم تقدَّم، فقاتلَ حتى قُتل. 

فقالَ النبيُّ ?: "عَمِلَ هذا يسيراً، وأجِرَ كثيراً".

 

صحيح مسلم (1900).

 

فيه أن الجهادَ والاستشهادَ أقصرُ طريقٍ إلى الجنة. والله أعلم.

 

(29)

فلستُ أبالي..

 

عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه قال:

 

بعثَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ سريَّةً عَينًا، وأمَّرَ عليهم عاصم بنَ ثابت، وهو جدُّ عاصم بنِ عمر بنِ الخطاب. فانطلقوا، حتى إذا كان بين عُسْفانَ ومكةَ، ذُكِروا لحيٍّ من هُذيلٍ يُقالُ لهم بنو لِحْيان، فتَبِعوهم بقريبٍ من مئةِ رامٍ، فاقتَصُّوا آثارهم حتى أتَوا مَنزلًا نزَلوه، فوجدوا فيه نوَى تمرٍ تزوَّدوهُ من المدينة، فقالوا: هذا تمرُ يَثرِب. فتَبِعوا آثارَهم حتى لَحقوهم. 

فلمّا انتهَى عاصمٌ وأصحابهُ لجؤوا إلى فَدْفَد، وجاءَ القومُ فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهدُ والميثاقُ إنْ نزلتُم إلينا أنْ لا نقتلَ منكم رجلًا. 

فقالَ عاصم: أمّا أنا فلا أنزلُ في ذمَّةِ كافر. اللهمَّ أخبرْ عنّا نبيَّك. 

فرمَوهم، حتى قَتلوا عاصمًا في سبعةِ نفرٍ بالنَّبْل. وبقيَ خُبَيبٌ وزيدٌ ورجلٌ آخر، فأعطَوهم العهدَ والميثاق. فلمَّا أعطَوهم العهدَ والميثاقَ نَزلوا إليهم. فلمّا استَمكنوا منهم حَلُّوا أوتارَ قِسِيِّهم فربطوهم بها. فقالَ الرجلُ الثالثُ الذي معهما: هذا أولُ الغدر. فأبَى أن يَصحبَهم. فجرَّروهُ وعالجوهُ على أن يَصحبَهم، فلم يفعل، فقتلوه. 

وانطلقوا بخُبيبٍ وزيدٍ حتى باعوهما بمكة. فاشترَى خُبيبًا بنو الحارث بنِ عامر بنِ نوفل، وكان خُبيبٌ هو قَتلَ الحارثَ يومَ بدر. فمكثَ عندهم أسيرًا. حتى إذا أجمعوا قتلَه، استعارَ موسَى مِن بعضِ بناتِ الحارثِ ليَستَحِدَّ بها، فأعارته، قالت: فغفلتُ عن صبيٍّ لي، فدرجَ إليه حتى أتاهُ، فوضعَهُ على فخذه، فلمَّا رأيتهُ فَزِعتُ فَزعةً عَرفَ ذاكَ مني، وفي يديهِ الموسَى ، فقال: أتخشَين أن أقتله؟ ما كنتُ لأفعلَ ذلكَ إنْ شاءَ الله. 

وكانت تقول: ما رأيتُ أسيرًا قطُّ خيرًا مِن خُبيب، لقد رأيتهُ يأكلُ مِن قِطْفِ عنبٍ وما بمكةَ يومئذٍ ثمرة، وإنه لموْثَقٌ في الحديد، وما كان إلّا رزقٌ رزقَهُ الله. 

فخرجوا به من الحرمِ ليقتلوه، فقال: دعوني أصلِّ رَكعتين. 

ثم انصرفَ إليهم فقال: لولا أن ترَوا أنَّ ما بي جزعٌ من الموتِ لزدت. 

فكان أولَ مَن سنَّ الركعتين عند القتلِ هو. 

ثم قال: اللهمَّ أَحصِهم عددًا. ثم قال: 

ولستُ أُبالي حين أُقتَلُ مسلمًا         على أيِّ شِقٍّ كان للهِ مَصرعي 

وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشأْ         يُبارِكْ على أوصالِ شِلْوٍ ممزَّعِ 

ثم قامَ إليه عقبة بنُ الحارث فقتله. 

وبعثَتْ قريشٌ إلى عاصمٍ ليُؤتَوا بشيءٍ من جسدهِ يعرفونه، وكان عاصمٌ قَتلَ عظيمًا من عظمائهم يومَ بدر، فبعثَ الله عليه مثلَ الظُّلَّةِ من الدَّبْر، فحمَتْهُ مِن رُسلهم، فلم يَقدروا منه على شيء.

 

صحيح البخاري (3858).

 

ليستحدَّ: المرادُ أن يحلقَ عانته.

القِطف: العنقود.

الأوصالُ جمعُ وَصل، وهو العضو.

الشلو: الجسد.

الممزَّع: المقطَّع.

الظلَّة: السحابة.

الدَّبْر: النحل، أو الزنابير.

وفي الحديث:

أن للأسيرِ أن يمتنعَ من قبولِ الأمان، ولا يمكِّنَ من نفسهِ ولو قُتل، أنَفةً من أنه يَجري عليه حكمُ كافر، وهذا إذا أرادَ الأخذَ بالشدَّة، فإن أرادَ الأخذَ بالرخصةِ له أن يستأمن. 

وفيه: الوفاءُ للمشركين بالعهد، والتورعُ عن قتلِ أولادهم، والتلطفُ بمن أُريدَ قتله. 

وإثباتُ كرامةِ الأولياء. 

والدعاءُ على المشركين بالتعميم. 

والصلاةُ عند القتل. 

وفيه إنشاءُ الشعرِ وإنشادهُ عند القتل. 

ودلالةٌ على قوةِ يقينِ خُبيب وشدَّتهِ في دينه. 

وفيه أن الله يَبتلي عبدَهُ المسلمَ بما شاءَ كما سبق في علمهِ ليُثيبه، ولو شاءَ ربك ما فعلوه. 

وفيه استجابةُ دعاءِ المسلم، وإكرامهُ حيًّا وميتًا. 

وغيرُ ذلكَ من الفوائدِ مما يظهرُ بالتأمل( ) .

 

(30)

استحبابُ الدعاء بالنصر

 

عن عبدالله بن أبي أوفَى قال:

 

دعا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يوم الأحزابِ على المشركين فقال: "اللهمَّ مُنزِلَ الكتاب، سريعَ الحساب، اللهمَّ اهزِمِ الأحزاب، اللهمَّ اهزِمهُم وزَلزِلهم".

 

صحيح البخاري (2775) واللفظُ له، صحيح مسلم (1742).

 

وقد هزمهم الله تعالى، كما في قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [سورة الأحزاب: 9]، وهم أحزابٌ من مشركي العرب، اجتمعوا على المسلمين يومَ الخندق. 

فالدعاءُ مستحبٌّ عند لقاءِ العدو( ).

 

(31)

طلب الشهادة

 

عن أنس بنِ مالك قال:

 

"مَن طلبَ الشهادةَ صادقًا أُعطيَها ولو لم تُصِبْهُ".

 

صحيح مسلم (1908).

 

أي: أُعطيَ ثوابَ الشهادةِ ولو لم يُقتَل( ).

 

(32)

سؤال الشهادة

 

عن سهل بنِ حُنيف:

 

أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: "مَن سألَ اللهَ الشهادةَ بصدق، بلَّغَهُ اللهُ منازلَ الشهداء، وإنْ ماتَ على فِراشه".

 

صحيح مسلم (1909).

 

أي أنه إذا سألَ الشهادةَ بصدق، أُعطيَ من ثوابِ الشهداءِ وإن كان على فراشه.

وفيه استحبابُ سؤالِ الشهادة، واستحبابُ نيَّةِ الخير( ).

 

(33)

من حُبس عن الغزو

 

عن جابر قال:

 

كنّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزاةٍ، فقال: "إنَّ بالمدينةِ لرجالًا ما سِرتُم مَسيرًا ولا قطعتُم واديًا إلّا كانوا معكم، حبَسَهم المرضُ".

 

صحيح مسلم (1911) واللفظُ له، صحيح البخاري (2684) من حديث أنس.

 

في هذا الحديث :فضيلةُ النيةِ في الخير، وأن مَن نوَى الغزوَ وغيرَهُ من الطاعات، فعرضَ له عذرٌ منعَهُ، حصلَ له ثوابُ نيته، وأنه كلَّما أكثرَ من التأسفِ على فواتِ ذلك، وتمنَّى كونَهُ مع الغزاةِ ونحوهم، كثرَ ثوابه. والله أعلم ( ).

 

(34)

من لم يغز

 

عن أبي هريرة قال:

 

قالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه و سلَّم: "مَن ماتَ ولم يغزُ، ولم يحدِّثْ به نفسَهُ، ماتَ على شُعبةٍ مِن نفاق".

قالَ ابنُ سهم: قال عبد الله بن المبارك: فنُرَى أن ذلك كان على عهدِ رسولِ الله صلَّى الله عليه و سلَّم. 

 

صحيح مسلم (1910).

 

قالَ الإمامُ النوويُّ رحمَهُ الله تعالَى: قوله: "نُرَى" بضمِّ النون، أي: نظنّ. وهذا الذي قالَهُ ابنُ المباركِ محتَمل، وقد قالَ غيرهُ إنه عامّ، والمراد: أن من فعلَ هذا فقد أُشبِهَ المنافقين المتخلِّفين عن الجهادِ في هذا الوصف، فإنَّ تركَ الجهادِ أحدُ شُعَبِ النفاق( ).

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين