الأربعون في الجهاد والاستشهاد -4-

 

 

(21)

سبب الجهاد

 

عن أبي موسى قال:

 

جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: الرجلُ يُقاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقاتِلُ شجاعةً، ويُقاتِلُ رياءً، فأيُّ ذلكَ في سبيلِ الله؟ 

قال: "مَن قاتلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا، فهو في سبيلِ الله".

 

صحيح البخاري (7020) واللفظُ له، صحيح مسلم (1904).

 

المرادُ بكلمةِ الله: دعوةُ اللهِ إلى الإسلام، ويحتملُ أن يكونَ المرادُ أنه لا يكونُ في سبيلِ الله إلا من كان سببُ قتالهِ طلبَ إعلاءِ كلمةِ الله فقط، بمعنى أنه لو أضافَ إلى ذلك سببًا من الأسبابِ المذكورةِ أخلَّ بذلك...

وذكرَ الحافظُ ابنُ حجر أنه لا يُطلَقُ على كلِّ مقتولٍ في الجهادِ شهيد؛ لأنه لا تُعرفُ نيَّته، هل هي في سبيلِ الله أم لا؟ يعني هل قاتلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العليا أم لغيرِ ذلك؟

وإن كان مع ذلك يُعطَى حكمَ الشهداءِ في الأحكامِ الظاهرة، ولذلك أطبقَ السلفُ على تسميةِ المقتولين في بدرٍ وأُحدٍ وغيرهما شهداء، والمرادُ بذلك الحكمُ الظاهرُ المبنيُّ على الظنِّ الغالب. والله أعلم( ).

وقالَ الإمامُ النووي: فيه بيانُ أن الأعمالَ إنما تُحسَبُ بالنيَّاتِ الصالحة، وأن الفضلَ الذي وردَ في المجاهدين في سبيلِ الله يختصُّ بمن قاتلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العليا( ). 

 

(22)

الغارة على العدو

 

عن أنس بن مالك:

 

أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان إذا غزَا بنا قومًا لم يكنْ يَغزو بنا حتى يُصبح، ويَنظر, فإنْ سمعَ أذانًا كَفَّ عنهم، وإنْ لم يسمعْ أذانًا أغارَ عليهم. 

قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهَينا إليهم ليلاً، فلمّا أصبحَ ولم يسمعْ أذانًا ركبَ، وركبتُ خلفَ أبي طلحة، وإنَّ قدَمي لتَمَسُّ قدمَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. 

قال: فخرجوا إلينا بمكاتِلِهم ومساحِيهم، فلمَّا رأَوا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالوا: محمدٌ واللهِ، محمدٌ والخميسُ. 

قال: فلمَّا رآهُم رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: "اللهُ أكبرُ, اللهُ أكبرُ، خَرِبَتْ خيبرُ، إنَّا إذا نزلنا بساحةِ قومٍ فساءَ صباحُ المنذَرين".

 

صحيح البخاري (585) واللفظُ له، صحيح مسلم (1365).

 

المسحاةُ هي المجرفةُ من الحديد.

والمكتل: الزنبيلُ الكبير.

والخميس: الجيش.

"فساءَ صباحُ المنذَرين": أي بئسَ صباحُهم؛ لنزولِ عذابِ الله بالقتلِ والإغارةِ عليهم إن لم يؤمنوا( ).

"الله أكبر...": فيه دليلٌ لاستحبابِ الذكرِ والتكبيرِ عند الحرب.

"خربت خيبر": ذكروا فيه وجهين:

أحدهما: أنه دعاء، تقديره: أسألُ اللهَ خرابَها.

والثاني: أنه إخبارٌ بخرابِها على الكفار، وفتحِها للمسلمين( ).

 

(23)

أبو دجانة يأخذ سيفًا بحقّ

 

عن أنس:

 

أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أخذَ سيفًا يومَ أُحُدٍ، فقال: "مَن يأخذُ مني هذا"؟ 

فبَسطوا أيديَهم، كلُّ إنسانٍ منهم يقول: أنا، أنا. 

قال: "فمَن يأخذُه بحقِّه"؟ 

قال: فأحجمَ القومُ. 

فقالَ سِمَاكُ بنُ خَرَشَةَ، أبو دُجانة: أنا آخذُهُ بحقِّه. 

قال: فأخذَه، ففَلقَ بهِ هامَ المشركين.

 

صحيح مسلم (2470).

 

أحجمَ القوم: تأخَّروا.

فلقَ هامَ المشركين: شقَّ رؤوسَهم( ).

 

(24)

مصير تمرات!

 

عن جابر بنِ عبدالله رضيَ الله عنهما قال:

 

قالَ رجلٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يومَ أُحُد: أرأيتَ إنْ قُتِلتُ، فأين أنا؟

قال: "في الجنَّة".

فأَلقَى تمَراتٍ في يده، ثم قاتلَ حتى قُتِل!

 

صحيح البخاري (3820) واللفظُ له، صحيح مسلم (1899).

 

فيه ما كان الصحابةُ عليه من حبِّ نصرِ الإسلام، والرغبةِ في الشهادةِ ابتغاءَ مرضاةِ الله( ).

وقالَ الإمامُ النووي: فيه ثبوتُ الجنةِ للشهيد، وفيه المبادرةُ بالخير، وأنه لا يُشتغَلُ عنه بحظوظِ النفوس( ).

 

(25)

رجل صدق ما عاهد الله عليه

 

عن أنسٍ رضيَ الله عنه قال:

 

غابَ عِمِّي أنسُ بنُ النَّضْرِ عن قتالِ بدرٍ، فقال: يا رسولَ الله، غبتُ عن أوَّلِ قتالٍ قاتلتَ المشركين، لئنِ اللهُ أشهدني قتالَ المشركينَ ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنعُ. 

فلمَّا كانَ يومُ أُحُد، وانكشفَ المسلمون، قال: اللهمَّ إني أعتذرُ إليكَ مما صنعَ هؤلاء، يعني أصحابَهُ، وأبرأُ إليكَ ممَّا صنعَ هؤلاء، يعني المشركين. 

ثم تقدَّمَ، فاستقبلَهُ سعدُ بنُ معاذ، فقال: يا سعدُ بنَ معاذٍ، الجنةَ وربِّ النضْر، إني أجدُ ريحَها مِن دونِ أُحُد. 

قالَ سعدٌ: فما استطعتُ يا رسولَ اللهِ ما صنع. 

قالَ أنس: فوجدنا بهِ بضعًا وثمانينَ ضربةً بالسيف، أو طعنةً برمحٍ، أو رَميةً بسهمٍ. ووجدناهُ قد قُتِلَ وقد مثَّلَ به المشركون، فما عرفَهُ أحدٌ إلا أختُهُ ببَنانِه. 

قال أنس: كنا نرى، أو نظنُّ، أنَّ هذهِ الآيةَ نزلتْ فيهِ وفي أشباهِهِ : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [سورة الأحزاب: 23]. 

 

صحيح البخاري (2651) واللفظُ له، صحيح مسلم (1903).

 

أجدُ ريحَها مِن دونِ أُحُد: قالَ ابنُ بطَّال وغيره: يحتملُ أن يكونَ على الحقيقة، وأنه وجدَ ريحَ الجنةِ حقيقة، أو وجدَ ريحًا طيبةً ذكَّرَهُ طِيبُها بطِيب ريحِ الجنة، ويجوزُ أن يكونَ أرادَ أنه استحضرَ الجنةَ التي أُعِدَّتْ للشهيد، فتصوَّرَ أنها في ذلك الموضعِ الذي يقاتلُ فيه...

وفي قصةِ أنس بنِ النضر من الفوائد: جوازُ بذلِ النفسِ في الجهاد، وفضلُ الوفاءِ بالعهدِ ولو شقَّ على النفس، حتى يصلَ إلى إهلاكها، وأن طلبَ الشهادةِ في الجهادِ لا يتناولهُ النهيُ عن الإلقاءِ إلى التهلكة.

 وفيه فضيلةٌ ظاهرةٌ لأنس بنِ النضر، وما كان عليه من صحةِ الإيمان، وكثرةِ التوقِّي والتورُّع، وقوةِ اليقين( ) .

 

(26)

فتيَان بطلان

 

عن عبدالرحمن بن عوفٍ أنه قال:

 

بينا أنا واقفٌ في الصفِّ يومَ بدر، نظرتُ عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غُلامَينِ من الأنصار، حديثةٍ أسنانُهما، تمنَّيتُ لو كنتُ بين أَضْلَعَ منهما، فغمزني أحدُهما فقال: يا عمِّ، هل تعرفُ أبا جهل؟ 

قال: قلتُ: نعم، وما حاجتُكَ إليه يا ابنَ أخي؟ 

قال: أُخبِرْتُ أنه يَسبُّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والذي نفسي بيدِه، لئنْ رأيتُهُ لا يفارقُ سوادي سوادَه حتى يموتَ الأعجلُ منا. 

قال: فتعجَّبتُ لذلك. فغمزني الآخرُ فقالَ مثلَها. 

قال: فلم أنْشَبْ أنْ نظرتُ إلى أبي جهلٍ يَزولُ في الناس، فقلتُ: ألا تريانِ؟ هذا صاحبُكما الذي تسألانِ عنه. 

قال: فابتدراه، فضرباهُ بسيفَيهما حتى قتلاه. 

ثم انصرفا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَراه، فقال: "أيكما قتلَه"؟ 

فقالَ كلُّ واحدٍ منهما: أنا قتلتُ. 

فقال: "هل مَسحتُما سيفَيكما"؟ 

قالا: لا. 

فنظرَ في السَّيفَين، فقال: "كلاكما قتلَه". 

وقضَى بسلَبهِ لمعاذِ بنِ عمرو بنِ الجَموح. 

والرجلانِ معاذُ بنُ عَمرو بنِ الجموح، ومعاذُ بنُ عَفْراء.

 

صحيح البخاري (2972)، صحيح مسلم (1752) واللفظُ له.

 

معنى أضلَع: أقوى. 

لم أنشَب: لم ألبَث.

قالَ الإمامُ النووي: قالَ أصحابنا - يعني الشافعية -: اشتركَ هذان الرجلانِ في جراحته، لكن معاذ بن عمرو بن الجموح ثخنَهُ أولًا فاستحقَّ السلَب، وإنما قالَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم "كلاكما قتله" تطييبًا لقلبِ الآخر، من حيثُ أن له مشاركةً في قتله، وإلّا فالقتلُ الشرعيُّ الذي يتعلَّقُ به استحقاقُ السلَب - وهو الإثخانُ وإخراجهُ عن كونهِ متمنِّعًا - إنما وُجِدَ من معاذ بن عمرو بن الجموح، فلهذا قضَى له بالسلَب...

وفي هذا الحديثِ من الفوائد: 

المبادرةُ إلى الخيرات. 

والاشتياقُ إلى الفضائل. 

وفيه الغضبُ لله ولرسولهِ صلَّى الله عليه وسلَّم. 

وفيه أنه ينبغي أن لا يُحتقَرَ أحد، فقد يكونُ بعضُ مَن يُستَصغَرُ عن القيامِ بأمرٍ أكبرَ مما في النفوس وأحقَّ ذلك الأمر، كما جرَى لهذين الغلامين( ). 

 

(27)

جُليبيب!

 

عن أبي برزة:

 

أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كان في مغزًى لهُ، فأفاءَ اللهُ عليه، فقالَ لأصحابِه: "هل تَفقِدون مِن أحدٍ"؟ 

قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا. 

ثم قال: "هل تَفقِدون مِن أحدٍ"؟ 

قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا. 

ثم قال: "هل تَفقِدون مِن أحدٍ"؟ 

قالوا: لا. 

قال: "لكنِّي أَفقِدُ جُلَيبيبًا، فاطلبوهُ". 

فطُلِبَ في القتلَى، فوجدوهُ إلى جَنبِ سبعةٍ قد قتلهم، ثم قَتلوهُ. 

فأتَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فوقفَ عليه، فقال: "قتلَ سبعةً ثم قتلوهُ. هذا منِّي وأنا منه، هذا منِّي وأنا منه". 

قال: فوضعَهُ على ساعدَيهِ، ليسَ لهُ إلَا ساعِدا النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. قال: فحُفِرَ له، ووُضِعَ في قبرِه. ولم يَذكرْ غَسلًا.

 

صحيح مسلم (2472).

 

كان في مغزًى: أي في سفرِ غزو.

هذا منِّي وأنا منه: معناهُ المبالغةُ في اتحادِ طريقتِهما واتفاقِهما في طاعةِ الله تعالَى.

وفي حديثهِ أن الشهيدَ لا يُغسَل، ولا يُصلَّى عليه( ). 

-----------

( ) ينظر فتح الباري 6/28، 90.

( ) شرح النووي على صحيح مسلم 13/49.

( ) شرح المفردات من تحفة الأحوذي 5/131.

( ) ينظر شرح النووي على صحيح مسلم 9/219.

( ) شرح النووي على صحيح مسلم 16/24.

( ) فتح الباري 7/354.

( ) شرح النووي على صحيح مسلم 13/44.

( ) منتخب من فتح الباري 6/22 - 23.

( ) مختار من شرح النووي على صحيح مسلم 12/63.

( ) ينظر شرح النووي على صحيح مسلم 16/26.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين