الأربعون في الجهاد والاستشهاد -3-

 

 

(14)

700 ناقة!

 

عن أبي مسعود الأنصاري قال:

 

جاءَ رجلٌ بناقةٍ مخطومةٍ، فقال: هذه في سبيلِ الله. 

فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لكَ بها يومَ القيامةِ سبعُمائةِ ناقة، كلُّها مَخطومةٌ".

 

صحيح مسلم (1892).

الخِطامُ هو الزمام، يوضَعُ على خَطم البعيرِ ليُقادَ به. والخَطم: مقدِّمةُ الأنف.

رجَّحَ الإمامُ النوويُّ أن يكونَ الحديثُ على ظاهره، وهو أن يكونَ له في الجنةِ بها سبعمائة، كلُّ واحدةٍ منهنَّ مخطومة، يركبهنَّ حيثُ شاءَ للتنزُّه، كما جاءَ في خيلِ الجنةِ ونُجُبِها( ).

 

(15)

طوبى للمجاهد

 

عن أبي هريرة:

 

عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: "طوبَى لعبدٍ آخذٍ بعِنانِ فَرسهِ في سبيلِ الله، أشعثَ رأسُهُ، مغبرَّةٍ قدماه، إنْ كان في الحراسةِ كان في الحراسة، وإنْ كان في السَّاقةِ كان في السَّاقة، إنِ استأذنَ لم يُؤْذَنْ له، وإنْ شَفَعَ لم يُشَفَّعْ".

 

جزءٌ من حديثٍ رواهُ البخاري (2730).

 

"طوبَى لعبدٍ..": إشارةٌ إلى الحضِّ على العملِ بما يحصلُ به خيرُ الدنيا والآخرة.

"إنْ كان في الحراسةِ كان في الحراسة": التقدير: إن كان المهمُّ في الحراسةِ كان فيها.

والساقة: الذين يسوقون جيشَ الغزاة، ويكونون من ورائهِ يحفظونه.

"إنِ استأذنَ لم يُؤْذَنْ له": فيه تركُ حبِّ الرئاسةِ والشهرة، وفضلُ الخمولِ والتواضع( ).

 

(16)

القوة الرمي

 

عن عُقبةَ بنِ عامر قال:

 

سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو على المنبرِ يقول: "{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [سورة الأنفال: 60]، ألا إنَّ القوةَ الرميُ، ألا إنَّ القوةَ الرميُ، ألا إنَّ القوةَ الرميُ".

 

صحيح مسلم (1917).

 

قالَ الإمامُ النووي: هذا تصريحٌ بتفسيرها، وردٌّ لما يحكيهِ المفسِّرون من الأقوالِ سوى هذا. 

وفيه وفي الأحاديثِ بعده: فضيلةُ الرمي والمناضلة، والاعتناءُ بذلك بنيَّةِ الجهادِ في سبيلِ الله تعالى، وكذلك المشاجعة، وسائرُ أنواعِ استعمالِ السلاح، وكذا المسابقةُ بالخيلِ وغيرها، كما سبقَ في بابه. 

والمرادُ بهذا كلِّه: التمرُّنُ على القتالِ والتدرُّب، والتحذُّقُ فيه، ورياضةُ الأعضاءِ بذلك( ).

والمناضلة: المسابقة أو التدرب على الرمي بالسهام.

وقال القرطبي: إنما فسَّرَ القوةَ بالرمي، وإن كانت القوةُ تظهرُ بإعدادِ غيرهِ من آلاتِ الحرب، لكونِ الرمي أشدَّ نكايةً في العدوِّ وأسهلَ مؤنة، لأنه قد يَرمي رأسَ الكتيبةِ فيُصابُ فيهزمُ مَن خلفه( ) .

قلت: ويشملُ ذلك أنواعَ الرمي بالأسلحةِ الحديثة.

 

(17)

حاجة للشهيد!

 

عن مسروق قال:

 

سألْنَا عبدَاللهِ (هو ابنُ مسعودٍ) عن هذه الآيةِ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران:169]، قال: أمَا إنّا قد سألْنا عن ذلك، فقال: 

"أرواحُهم في جَوفِ طَيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقةٌ بالعرشِ، تَسرحُ من الجنةِ حيثُ شاءت، ثم تأوي إلى تلكَ القناديل، فاطَّلعَ إليهم ربُّهم اطَّلاعةً، فقال: هل تَشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نَشتهي ونحن نَسرحُ من الجنةِ حيثُ شِئنا؟ 

ففعلَ ذلكَ بهم ثلاثَ مراتٍ، فلمّا رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يا ربِّ، نريدُ أنْ تردَّ أرواحَنا في أجسادِنا حتى نُقتَلَ في سبيلِكَ مرةً أخرى. 

فلمّا رأَى أنْ ليسَ لهم حاجةٌ تُرِكوا".

 

صحيح مسلم (1887).

 

قال النوويُّ رحمَهُ الله: فيه أن الجنةَ مخلوقةٌ موجودة، وهو مذهبُ أهلِ السنَّة، وهي التي أُهبِطَ منها آدم، وهي التي يَنعَمُ فيها المؤمنون في الآخرة، هذا إجماعُ أهلِ السنَّة.

وفيه إثباتُ مجازاةِ الأمواتِ بالثوابِ والعقابِ قبلَ القيامة. 

قالَ القاضي [عياض]: وفيه أن الأرواحَ باقيةٌ لا تفنَى، فيَنعَمُ المحسنُ، ويعذَّبُ المسيءُ، وقد جاءَ به القرآنُ والآثار، وهو مذهبُ أهلِ السنة، خلافًا لطائفةٍ من المبتدعةِ قالت: تفنَى.

"فقال: هل تَشتهون شيئًا؟...": هذا مبالغةٌ في إكرامِهم وتنعيمِهم، إذ قد أعطاهم الله ما لا يخطرُ على قلبِ بشر، ثم رغَّبهم في سؤالِ الزيادة، فلم يجدوا مزيدًا على ما أعطاهم، فسألوهُ - حين رأوا أنه لا بدَّ من سؤال - أن يُرجِعَ أرواحَهم إلى أجسادهم ليجاهدوا، أو يبذلوا أنفسَهم في سبيلِ الله تعالى، ويستلذُّوا بالقتلِ في سبيلِ الله. والله أعلم ( ) .

 

(18)

عندما يتمنَّى الشهيد!

 

عن أنس بن مالك، يحدَّثُ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

 

"ما من أحدٍ يَدخُلُ الجَنَّةَ يحبُّ أن يرجِعَ إلى الدنيا، وأنَّ له ما على الأرضِ من شيءٍ، غيرُ الشهيدِ، فإنهُ يَتمنَّى أن يَرجِعَ فيُقتَلُ عَشْرَ مرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِن الكرامة".

 

صحيح البخاري (2662)، صحيح مسلم (1877) واللفظُ له.

 

قالَ ابنُ بطّال: هذا الحديثُ أجلُّ ما جاءَ في فضلِ الشهادة.

قال: وليس في أعمالِ البرِّ ما تُبذَلُ فيه النفسُ غيرُ الجهاد، فلذلك عظمَ فيه الثواب( ).

 

(19)

الشهادة تكفِّر الخطايا.. إلا الدَّين

 

عن أبي قتادة:

 

عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أنه قامَ فيهم، فذكرَ لهم أنَّ الجهادَ في سبيلِ الله، والإيمانَ بالله، أفضلُ الأعمال. فقامَ رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، أرأيتَ إنْ قُتِلتُ في سبيلِ الله، تُكَفَّرُ عنِّي خطاياي؟ 

فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "نعم، إنْ قُتِلْتَ في سبيلِ الله، وأنتَ صابرٌ مُحتسِبٌ، مُقبِلٌ غيرُ مُدبِرٍ". 

ثم قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "كيفَ قلتَ"؟ 

قال: أرأيتَ إنْ قُتِلتُ في سبيلِ الله، أَتُكَفَّرُ عنِّي خطاياي؟ 

فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهِ عليه وسلَّم: "نعم، وأنتَ صابرٌ مُحتسِبٌ، مُقبِلٌ غيرُ مُدبِرٍ، إلّا الدَّينَ، فإنَّ جبريلَ عليه السلامُ قالَ لي ذلك". 

 

صحيح مسلم (1885).

 

المحتسِب: هو المخلِصُ لله تعالى، فإن قاتلَ لعصبية، أو لغنيمة، أو لصِيْت، أو نحوِ ذلك، فليس له هذا الثوابُ، ولا غيره. 

وأما قولهُ صلَّى الله عليه و سلَّم: "إلا الدَّين"، ففيه تنبيهٌ على جميعِ حقوقِ الآدميين، وأن الجهادَ والشهادةَ وغيرهما من أعمالِ البرِّ لا يكفِّرُ حقوقَ الآدميين، وإنما يكفِّرُ حقوقَ الله تعالى( ).

 

(20)

تحذير من الدَّين أيضًا

 

عن عبدالله بن عمرو بن العاص:

 

أن رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: "يُغفَرُ للشهيدِ كلُّ ذنبٍ إلّا الدَّين".

 

صحيح مسلم (1886).

 

يُستفادُ منه أن الشهادةَ لا تكفِّرُ التبعات، وحصولُ التبعاتِ لا يمنعُ حصولَ درجةِ الشهادة، وليس للشهادةِ معنًى إلا أن الله يثيبُ مَن حصلتْ له ثوابًا مخصوصًا، ويكرمهُ كرامةً زائدة، وقد بيَّنَ الحديثُ أن الله يتجاوزُ عنه ما عدا التبعات.. ( ).

وأخذُ الدَّين ليس بعصيان، بل الاقتراضُ والتزامُ الدَّين جائز، وإنما شدَّدَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على مَن ماتَ وعليه دَينٌ ولم يتركْ ما يقضي دَينَهُ كيلا تضيعَ حقوقُ الناس( ).

-----------

( ) شرح النووي على صحيح مسلم 13/38.

( ) ينظر فتح الباري 6/83، ومعنى الساقة من نهاية ابن الأثير 2/424.

( ) شرح النووي على صحيح مسلم 13/64.

( ) نقلته من فتح الباري 6/91.

( ) مقتطفات من شرح النووي على صحيح مسلم 13/31.

( ) فتح الباري 6/32.

( ) شرح النووي على صحيح مسلم 13/29.

( ) فتح الباري 10/193.

( ) عون المعبود 9/138.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين