الأربعون في الجهاد والاستشهاد -1-

 

مقدمة

 

الحمدُ لله الواحدِ القهّار، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ القائدِ المختار، وعلى آلهِ وأصحابهِ الميامينَ الأخيار، وبعد: 

فقد اخترتُ من بين الأحاديثِ الشريفةِ مجموعةً طيبةً مباركةً مما وردَ في موضوعِ الجهادِ والاستشهادِ في سبيلِ الله، وآثرتُ التنويعَ في مسائلِ الجهادِ والغزو والشهادة، مع التركيزِ على الفضائل، للحثِّ على الجهادِ والتعلُّقِ به، وللدفاعِ عن دينِ الله القويم، وطلبِ الشهادةِ في سبيلِ الله تعالى، والتذكيرِ بتصحيحِ النيةِ في كلِّ ذلك، ليصحَّ الجهاد، وتُقبلَ الشهادة.

وقد جمعتها من الصحيحين، البخاريِّ ومسلم، مع الاستفادةِ من شرحيهما خاصَّة، لابن حجر والنووي رحمهما الله، عند التعليق على الأحاديث، وبيانِ الغريبِ فيها، وما تُرشدُ إليه، وفي غيرِ الصحيحين أحاديثُ أخرى عظيمةٌ في فضائلِ الجهاد، يمكنُ الاستفادةُ منها في مظانِّها.

وأهدي هذا العملَ إلى أخي أبي ياسر، الذي حملَ رايةَ الحقِّ ونادَى بها ودافعَ عنها بكلِّ حماس، وشكوتُ إليه بعدي عن ساحاتِ الجهاد، وما إذا كان لي عذرٌ مقبولٌ عند الله؟ فطلبَ أن أُشغِلَ قلمي بفضائلِ الجهادِ عوضًا عن ذلك، فاستجبتُ بعدَ لأي، لأسباب، مع أنه لا يمرُّ عليَّ يومٌ دون أن أدعوَ الله تعالَى مراتٍ بأن يرزقني الشهادةَ في سبيله، وذرفتُ دموعًا غزيرةً بين يدَي ذلك، رجاءَ الفوزِ بها، وذلك هو الفوزُ العظيم:

{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

سورة التوبة: 111.

اللهم اجعلنا ممن يشاركونَ في الجهادِ بأموالهم وأنفسهم، ونسألُكَ أن ترزقنا الشهادةَ في سبيلك، وألّا تحرمنا فضلكَ وتوفيقك.

 

والحمدُ لله الذي أعانني على هذا.

(1)

فضل الرباط

 

عن سلمانَ [الفارسيِّ] قال:

 

سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يقول: "رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شَهْرٍ وقيامِه، وإنْ ماتَ جرَى عليهِ عملُهُ الَّذي كانَ يَعملُه، وأُجْريَ عليهِ رزقُه، وأمِنَ الفتَّان".

 

صحيح مسلم (1913).

 

الرباطُ هو الحراسةُ في الثغر، وملاحظةُ العدو، بقصدِ معرفةِ تحركاته، وحمايةِ المسلمين منه.

وقالَ ابنُ قتيبة: أصلُ الرباطِ أن يربطَ هؤلاءِ خيلَهم، وهؤلاءِ خيلَهم، استعدادًا للقتال.

والغدوة: الخروجُ من أولِ النهارِ إلى وسطه.

والروحة: الخروجُ مساء( ).

والفَتَّان، بالفتح: الشيطانُ ونحوهُ ممن يوقِعُ الإنسانَ في فتنةِ القبر، أي عذابه.

والفُتّان، بالضم: المنكرُ والنكير، والمرادُ أنهما لا يجيئان إليه للسؤالِ، بل يكفي موتهُ مرابطًا في سبيلِ الله شاهدًا على صحةِ إيمانه. أو أنهما لا يَضرَّانهِ ولا يُزعجانه( ).

قالَ الإمامُ النوويُّ رحمَهُ الله تعالَى في الحديث: هذه فضيلةٌ ظاهرةٌ للمرابط، وجريانُ عملهِ عليه بعد موتهِ فضيلةٌ مختصَّةٌ به، لا يشاركهُ فيها أحد، وقد جاءَ صريحًا في غيرِ مسلم: "كلُّ ميِّتٍ يُختَمُ على عملِهِ إلَّا الَّذي ماتَ مرابِطًا في سبيلِ الله، فإنَّهُ يُنمَى لَهُ عملُهُ إلى يومِ القيامة" [رواه الترمذي (1621) وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح] ( ).

 

(2)

الرباط في سبيل الله

 

عن سهل بنِ سعد الساعدي رضيَ الله عنه:

 

أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: "رِباطُ يومٍ في سبيلِ اللهِ خيرٌ من الدنيا وما عليها، ومَوضِعُ سَوْطِ أحدِكم من الجنةِ خيرٌ من الدنيا وما عليها، والرَّوْحةُ يَرُوحُها العبدُ في سبيلِ الله، أو الغدوةُ، خيرٌ من الدنيا وما عليها".

 

صحيح البخاري (2735).

 

(3)

فضل الجهاد

 

عن أبي هريرة قال:

 

قالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "تضمَّنَ الله لمن خرجَ في سبيله: لا يُخرِجُهُ إلا جهادًا في سبيلي، وإيمانًا بي، وتصديقًا برسُلي، فهو عليَّ ضامِنٌ أن أُدخِلَهُ الجنة، أو أَرجِعَهُ إلى مَسكَنهِ الذي خرجَ منه، نائلًا ما نالَ من أجرٍ أو غنيمة. 

والذي نفسُ محمَّدٍ بيده، ما من كَلْمٍ يُكْلَمُ في سبيلِ الله، إلّا جاءَ يومَ القيامةِ كهيئتهِ حين كُلِم ، لونهُ لونُ دمٍ، وريحهُ مِسك. 

والذي نفسُ محمَّدٍ بيده، لولا أن يَشُقَّ على المسلمين، ما قعدتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ تَغزو في سبيلِ الله أبدًا، ولكنْ لا أجدُ سَعةً فأَحمِلَهم، ولا يَجدون سَعة، ويَشُقُّ عليهم أن يتخلَّفوا عني. 

والذي نفسُ محمَّدٍ بيده، لَوَدِدْتُ أني أغزو في سبيلِ الله فأُقتَل، ثم أغزو فأُقتَل، ثم أغزو فأُقتَل".

 

صحيح مسلم (1876).

 

"تضمَّنَ الله لمن خرجَ في سبيله...": معناه: أوجبَ الله تعالَى له الجنةَ بفضلهِ وكرمهِ سبحانَهُ وتعالى. وهذا الضمانُ موافقٌ لقولهِ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [سورة التوبة: 111].

قولهُ سبحانَهُ وتعالَى: "لا يُخرِجُهُ إلّا جهادًا في سبيلي": "جهادًا" بالنصب، وكذا ما بعده "إيمانًا بي وتصديقًا" منصوبٌ على أنه مفعولٌ له، وتقديره: لا يُخرجهُ المخرج، ويُحركهُ المحرك، إلا للجهادِ والإيمانِ والتصديق. ومعناه: لا يُخرجهُ إلّا محضُ الإيمانِ والإخلاصِ لله تعالى.

ومعنى الحديث: أنَّ الله تعالَى ضمنَ أن الخارجَ للجهادِ ينالُ خيرًا بكلِّ حال، فإمَّا أن يُستَشهدَ فيَدخُلَ الجنة، وإمَّا أن يرجعَ بأجر، وإمَّا أن يرجعَ بأجرٍ وغنيمة .

"ما من كَلْمٍ يُكْلَمُ في سبيلِ الله...": الكَلْم هو الجُرح.

قالَ الإمامُ النوويُّ رحمَهُ الله تعالَى: فيه دليلٌ على أن الشهيدَ لا يُزالُ عنه الدمُ بغَسلٍ ولا غيره، والحكمةُ في مجيئهِ يومَ القيامةِ على هيئته، أن يكونَ معه شاهدُ فضيلتهِ وبذلهِ نفسَهُ في طاعةِ الله تعالى.

"لولا أن يَشُقَّ على المسلمين...": فيه ما كان عليه صلَّى الله عليه وسلَّمَ من الشفقةِ على المسلمين والرأفةِ بهم، وأنه كان يَتركُ بعضَ ما يختارهُ للرفقِ بالمسلمين، وأنه إذا تعارضتِ المصالحُ بدأ بأهمها. 

وفيه مراعاةُ الرفقِ بالمسلمين، والسعيُ في زوالِ المكروهِ والمشقَّةِ عنهم .

"لَوَدِدْتُ أني أغزو في سبيلِ الله فأُقتَل...": فيه فضيلةُ الغزوِ والشهادة، وفيه: تمني الشهادةِ والخير، وتمني ما لا يمكنُ في العادةِ من الخيرات، وفيه أن الجهادَ فرضُ كفاية لا فرضَ عين .

وفي طريقٍ أخرى عند البخاري ومسلم: "لا يُكلَمُ أحدٌ في سبيلِ الله، والله أعلمُ بمن يُكلَمُ في سبيله..."، قالَ الإمامُ النووي: هذا تنبيهٌ على الإخلاصِ في الغزو، وأن الثوابَ المذكورَ فيه إنما هو لمن أخلصَ فيه، وقاتلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا.

قالوا: وهذا الفضلُ وإنْ كان ظاهرهُ أنه في قتالِ الكفار، فيدخلُ فيه مَن خرجَ في سبيلِ الله في قتالِ البُغاة، وقطّاعِ الطرق، وفي إقامةِ الأمرِ بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحوِ ذلك. والله أعلم( ).

 

(4)

أجر المجاهد

 

عن أبي هريرة قال: 

 

سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: "مثَلُ المجاهدِ في سبيلِ اللَّه - واللَّهُ أعلَمُ بمن يُجاهِدُ في سبيلِه - كمثَلِ الصائمِ القائِم. وتَوَكَّلَ اللَّهُ للمُجاهدِ في سبيلِهِ بأنْ يَتَوَفَّاهُ: أنْ يُدخِلَهُ الجنةَ، أو يَرْجِعَهُ سالِمًا مع أجرٍ أو غنيمة".

 

صحيح البخاري (2635).

 

"واللَّهُ أعلَمُ بمن يُجاهِدُ في سبيلِه": في إشارةٌ إلى اعتبارِ الإخلاص، كما سبقَ بيانهُ في الحديثِ السابق.

قالَ الحافظُ ابنُ حجر: شبَّهَ حالَ الصائمِ القائمِ بحالِ المجاهدِ في سبيلِ الله، في نيلِ الثوابِ في كلِّ حركةٍ وسكون؛ لأن المرادَ من الصائمِ القائمِ مَن لا يَفترُ ساعةً عن العبادة، فأجرهُ مستمر، وكذلكَ المجاهد، لا تضيعُ ساعةٌ من ساعاتهِ بغيرِ ثواب( ).

 

(5)

مثَل المجاهد

 

عن أبي هريرة قال: 

 

قيلَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما يَعْدِلُ الجهادَ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؟ 

قال: "لا تَستطيعوه". 

قال: فأعادوا عليه مرتينِ أو ثلاثًا، كلُّ ذلك يقول: "لا تستطيعونه". 

وقالَ في الثالثة: "مثَلُ المجاهدِ في سبيلِ الله، كمثَلِ الصائمِ القائمِ القانتِ بآياتِ الله، لا يَفتُرُ مِن صيامٍ وصلاةٍ حتى يَرجِعَ المجاهدُ في سبيلِ اللهِ تعالى".

 

صحيح البخاري (2635).

 

هذه فضيلةٌ ظاهرةٌ للمجاهدِ في سبيلِ الله، تقتضي أن لا يعدلَ الجهادَ شيءٌ من الأعمال.

قالَ القاضي عياض: اشتملَ حديثُ البابِ على تعظيمِ أمرِ الجهاد؛ لأن الصيامَ وغيرَهُ ممَّا ذُكِرَ من فضائلِ الأعمال، قد عدلها كلَّها الجهادُ، حتى صارتْ جميعُ حالاتِ المجاهدِ وتصرفاتهِ المباحةَ معادلةً لأجرِ المواظِبِ على الصلاةِ وغيرها( ).

 

(6)

أفضل الناس

 

عن أبي سعيد الخدري رضيَ الله عنه قال:

 

قيل: يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أفضل؟

فقالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "مؤمنٌ يجاهدُ في سبيلِ الله بنفسهِ وماله".

قالوا: ثم من؟

قال: "مؤمنٌ في شِعْبٍ من الشِّعاب، يتَّقي الله، ويدَعُ الناسَ من شرِّه".

 

صحيحُ البخاري (2634) واللفظُ له، صحيح مسلم (1888).

 

قالَ القاضي عياض: هذا عامٌّ مخصوص، وتقديره: هذا من أفضلِ الناس، وإلا فالعلماءُ أفضل، وكذا الصدِّيقون، كما جاءتْ به الأحاديث. 

قولهُ صلَّى الله عليه وسلَّم: "مؤمنٌ في شِعْبٍ من الشِّعابِ يتَّقي الله ويدَعُ الناسَ من شرِّه": فيه دليلٌ لمن قال بتفضيلِ العزلةِ على الاختلاط، وفي ذلك خلافٌ مشهور، فمذهبُ الشافعيِّ وأكثرِ العلماء، أن الاختلاطَ أفضل، بشرطِ رجاءِ السلامةِ من الفتن، ومذهبُ طوائفَ أن الاعتزالَ أفضل، وأجابَ الجمهورُ عن هذا الحديثِ بأنه محمولٌ على الاعتزالِ في زمنِ الفتنِ والحروب، أو هو فيمن لا يَسلَمُ الناسُ منه، ولا يصبرُ عليهم، أو نحوُ ذلك من الخصوص، وقد كانت الأنبياءُ صلواتُ الله وسلامهُ عليهم وجماهيرُ الصحابةِ والتابعين والعلماءِ والزهَّادِ مختلطين، فيحصِّلون منافعَ الاختلاط، كشهودِ الجمعةِ والجماعةِ والجنائزِ وعيادةِ المرضَى وحِلَقِ الذكرِ وغيرِ ذلك. 

وأمَّا "الشِّعْبُ" فهو ما انفرجَ بين جبلين، وليسَ المرادُ نفسَ الشِّعْبِ خصوصًا، بل المرادُ الانفرادُ والاعتزال، وذكرَ الشِّعبَ مثالًا؛ لأنه خالٍ عن الناسِ غالبًا( ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين