الأدب الإسلامي ورحلات الحج

منذ القديم عندما بدأ الإنسان الرحلة من مقره في الكهف أو الغابة كانت له غاية تدفعه إلى أن يضرب في المجهول، فالأرض التي تليه، أياً كانت طبيعتها لا يعرف ما فيها، وغالباً ما كانت رحلته محدودة سيرجع منها إلى حيث خرج؛ فما هي إلا لصيد، أو جلب ثمرة ليست حيث يقيم، فإذا ما ظفر بمبتغاه عاد بغنيمة تسره وتشبعه ومن معه، وما تلبث هذه الرحلة أن تصبح سبيلاً من سبل معاشه، يكررها ويظفر منها بما يكافئ جهده، وما يتهيأ له من سوانح الصيد أو ثمار الأرض والشجر.

وعلى امتداد الزمن وتغير الظروف والأحوال، وتزايد المعارف والمكتشفات تطورت رحلة الإنسان، وازدادت مغانمه منها، وصار من بعض مغانمه لقاء الآخرين الذين انتشروا في الأرض وعمروا بقاعاً كثيرة منها، والتعامل معهم، وتبادل المنافع، وصارت المنفعة المادية هدفاً رئيساً من أهداف كثير من المسافرين، وتجذرت التجارة في حياة الناس قريبة وبعيدة، عبر آفاق الأرض وعباب البحار، وامتهنها بعضهم، وجمع الأرزاق والأموال، وصار من المتميزين في قومه وعشيرته، وبقدر ما يبذل التاجر الضارب في الآفاق والبحار من جهد، واجتهاد، وما يكون له من ذكاء ونباهة تكون مغانمه من رحلاته كبيرة تفوق الآخرين الذين يرحلون مثله ولا يبذلون ما يبذله، بل لا تعدم الرحلة والرحالة متعثرين، لا يجتهدون ولا يتنبهون؛ فتخيب رحلتهم وتفوتهم المكاسب، ويعودون بالعناء والضنى والخسارة وقد لا يعودون، وهكذا ارتبطت الرحلة بالمكاسب والمغانم ربحاً أو خسارة، حتى ولو كان المكسب لقاء الآخرين أو اكتشاف الجديد فحسب!.

ومثلما تطورت حياة الناس وتجاراتهم تطورت مشكلاتهم ومعاناتهم، فحظوظ النفس والأنانية والأهواء التي لا يضبطها ضابط لابد أن تجنح بالأفراد والمجتمعات إلى منزلقات لا تؤمن عواقبها. فغيرة قابيل من قربان هابيل، وحسد إخوة يوسف لأخيهم الأحب إلى أبيهم؛ من نوازع النفوس التي تجرُّ آثاماً مفجعة، ولا تخلو النفوس البشرية من نوازع أقل أو أكثر من ذلك، تسوق صاحبها إلى سلوكيات متفاوتة في الإثم والشر، وإذا رزق صاحبها وازعاً من عقيدة أو ضمير حي انضبطت سلوكياته بقدر ما يقدر على ضبطها، وقد لا تخلو مع ضبطها من لمم هنا وهناك يتراكم في صدره، ويصبح هماً وضنى يعذبه، فيبحث عن سبيل للخلاص منه، ومنذ أن خلق الله الإنسان -وهو أعلم بما سيكون في نفسه، وما يكون من سلوكياته- شرع له ما يمسح به خطاياه، من التوبة والاستغفار ومكفرات الذنوب وما يمحو الخطايا، ليعيد لنفسه طهارة الفطرة، وطمأنينة البراءة.

وكان من إرادته سبحانه أن يكون له بيت في الأرض مشرعة أبوابه لكل من يقصده ليظفر بعطاءات رب البيت التي لا تفنى، فبوأ لإبراهيم مكانه، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج ليأتوه رجالاً وعلى كل ضامر، وليتردد أذانه بإرادة الله، وعبر شرائعه ورسله من بعده على امتداد الزمن إلى أن تطوى الأرض والسماوات، فيقصده المؤمنون من جهات كعبته الأربع، ولتكون رحلتهم رحلة نوعية في المكاسب والمغانم ينفقون في سبيلها القليل أو الكثير، الجهد والمال، الزاد والراحلة، وليؤوبوا بما لا يؤوب الرحالة الآخرون بمثله، مكاسب لا تعدلها مكاسب الدينار والدرهم، مكاسب غسل النفوس من جميع أدرانها، مكاسب موت الخطايا وولادة الفطرة والبراءة من جديد، وأي مغنم أعظم من هذا للمؤمنين!.

لذلك، ومنذ أن أدرك المؤمنون ما في الرحلة إلى بيت الله من عطاء الله؛ كانت قلوبهم تهفو إليها، وكان اجتهادهم فيها يتحدى المشاق ويستهين بالمخاطر، فيضربون أكباد الإبل أياماً وربما شهوراً عديدة ويركبون ثبج البحر بأهواله على سفنهم الشراعية، ويودع بعضهم أهله وداع من يظن ألا عودة، كل هذا رغبة في ذلك العطاء العظيم، عطاء غسل النفس من أدرانها والولادة من جديد.

هذه الحقيقة ما فتئ الدعاة والوعاظ والأدباء الذين وهبهم الله وجداناً مؤمناً، وقريحة ثرة، ما فتئوا يصورونها للناس، ليدركوا كما أدركوا هم أبعاد رحلة الحج، وعطاءات الله سبحانه وتعالى العظيمة فيها، ومن أولئك الأدباء الشاعر محمد سليمان الأحمد الذي صور ما يدور في نفس الحاج وهو يقف في بيت الله، مواجهاً الكعبة، وما يموج في نفسه من مشاعر إيمانية تغسل فؤاده، وتطفئ لهيب ذنوبه، وتحل فرحة الطهر محل أتراح الخطايا، فيقول:

بنور على أم القرى وبطيب=غسلت فؤادي من أسى ولهيب

وأمسكت قلبي لا يطير إلى منى=بأعبائه من لهفة ووجيب

هنا الكعبة الزهراء والوحي والشذا=هنا النور فافني في هواه وذوبي

ويا مهجتي بين الحطيم وزمزم=تركت دموعي شافعاً لذنوبي

وفي الكعبة الزهراء زينت لوعتي=وعطر أبواب السماء نحيبي

وما أن تشعر نفسه ونفس كل حاج يقف ذلك الموقف ببداية حط الذنوب حتى يتلفت حوله، ويرى أمواج الحجاج تلح في الدعاء والاستغفار، ويرى كيف يستوي المسوَّد والمسود، فيقول:

مواكب كالأمواج عجَّ دعاؤها=ونار الضحى حمراء ذات شبوب

ورددت الصحراء شرقاً ومغرباً=صدى نغمة من لوعة ووثوب

تلاقوا عليها من غني ومعدم=ومن صبية زغب الجناح وشيب

نظائر فيها بُردهم بُرد محرمٍ=يضوع شذاً والقلب قلب منيب

أناخوا الذنوب المثقلات لواغباً=بأفيح من عفو الإله رحيب

وذل لغير الله كل مسَوَّد=ورقَّ لخوف الله كل صليب

ويستطرد الشاعر في وصف هؤلاء الحجيج ورحلتهم عبر التاريخ إلى بيت الله، ويتصور نفسه في رحلة عبر الصحراء على ظهر جمل نجيب يتحمل المشاق، ويعايش الصحراء وأهوالها ليظفر ببغيته، ثم ينعطف إلى واقعه الفردي والجماعي، ويشكو إلى الله سبحانه الهموم المتراكمة والخطايا، وبُعد بعض الأفراد والمجتمعات عن شرع الله، ويدعو لهم بالهداية والحسنى، فيقول:

ويا رب في قلبي ندوبٌ جديدة=تريد القرى من سالفات ندوب

وفي كل يوم لوعة بعد لوعة=لغربة أهل أو لفقد حبيب

تداووا من الجلّى بجلّى وخلفوا=وراءهم الإسلام خيرَ طبيب

ويا رب في الإسلام نور ورحمة=وشوق نسيب نازح لنسيب

فألف على الإسلام دنيا تمزقت=إلى أمم مقهورة وشعوب

وكلُّ بعيد حج للبيت أو هفا=إليه وإن شط المزار قريب

ورد الحلوم العازبات إلى الهدى=فقد ترجع الأحلام بعد عزوب

وبعد؛ فليس أغنم للمرء من أن يقف الموقف الذي صوره الشاعر، وأن يحط أثقال الخطايا عن نفسه، وأن يعود –كما قال الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم– كيوم ولدته أمه، فتعود لنفسه طمأنينتها، وترتفع أكفها بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى أن ترجع الأحلام العازبة إلى رؤوسها، وأن يخرج الله سبحانه وتعالى الأمة من عثراتها، ويكشف الضر عنها أفراداً ومجتمعات.. وليس أجمل من أن يسهم الأدب الإسلامي في تصوير ذلك ونشره بالكلمة الحلوة، والصورة المعبرة.

المصدر: مجلة الأدب الإسلامي: العدد 111

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين