الأخ الكبير الشيخ عبد الحفيظ الحداد رحمه الله تعالى: كلمات في رثائه (4)

ورحل الشيخ الجليل

عليه سحائب الرحمة وشآبيب المغفرة

وتمضي سنة الله في خلقه ( كل نفس ذائقة الموت )

ويرحل الشيخ الجليل، والعالم الربّاني، المحبُّ لله جلَّ جلاله ولرسوله صلوات ربي وسلامه عليه، الوقَّاف عند حدود الله، الصادع بالحق لا تأخذه بالله لومة لائم؛ ليلقى وجه ربه الكريم صابراً محتسباً راضياً مرضياً.

قرأت ما كتبه ذووه وطلابه ومحبوه وما أظنهم وفوه حقَّه رغم صدق ما كتبوا.

ولما تكرم عليَّ فضيلة الشيخ الفاضل مجْد أحمد مكي مطالباً بالكتابة عمَّن شغف فؤادي حباً، تزاحمت الأفكار والأحداث والمناقب في مخيلتي، وخنقتي العَبرة.

فكيف لمثلي أن يفيَ بحق شيخنا وحبيبنا ووالدنا وأخينا أبي أسامة؟!!

كيف ألخِّص ما يقارب أربعين عاماً من معايشتي إيَّاه رحمه الله في سطور معدودة وكلمات محدودة!!

لم يسبق لي معرفة الشيخ في مدينة حماه رغم معرفتي بأسرته الكريمة حيث لزم الدراسة بجامعة دمشق بعد مقفله من تركيا تاركًا دراسة الطب ليلتحق بكلية الشريعة بجامعة دمشق، محققاً طموحه الذي تربَّى عليه على أيدي علماء حماة، وخاصة شيخ مشايخها فضيلة العالم الربَّاني المجاهد محمد محمود الحامد رحمه الله، حيث لازمه رحمه الله من نعومة أظفاره، وظل ذكر الشيخ ومناقبه وفتواه على لسانه حتى قبض رحمه الله تعالى.

بعد نيله درجة البكالوريوس من كلية الشريعة ودبلوم التربية من كلية التربية بدمشق حيث كان الطالب الشغوف بالعلم، التحق بخدمة العَلم في كتيبة المدفعية المضادة للطائرات، فتمثلت فيه روح الجندي المسلم المخلص لدينه ووطنه التي حملت رؤساءه على تكريمه ومنحه رتبة عسكرية إضافية لقاء استبساله بردِّ العدوان الإسرائيلي عام 1973م.

ثم عيِّن بعد تسريحه من الجيش مدرساً لمادة التربية الدينية في ثانويات الساحل السوري، فكان الداعية والمربي الحكيم في بيئة يغلب عليها الطائفية المقيتة، فكسب بحكمته ودعوته الوسطية الخالية من الغلو والتطرف والتعصب حب المجتمع هناك له.

أجل كان رحمه الله وسطاً ... كان صوفياً سلفياً ... حارب تطرف المتصوفة وشذوذهم وخرافاتهم حتى اختلف مع شيخ الطريقة نفسه وراجعه في كثير من الأمور.

كما التزم بالسنة النبوية الشريفة ونهج السلف الصالح وقَّافاً عند حدودهما، متمسكاً بالمذهب الحنفي، محارباً تنطع المغالين، مناظراً لهم.

عاد إلى عشقه القديم مدينة حماه مدرساً لمادة التربية الإسلامية في ثانوية أبي الفداء، لكن الأحداث عام 1980م لم تُنظره حيث تعرض للتعذيب والملاحقة الأمنية بعد إعدام شقيقه الأكبر د. طاهر حداد رحمه الله تعالى.

فخرج منها حاجاً بيت الله الحرام، حيث كان اللقاء به عليه الرحمة والرضوان.

في الرواق مقابل ميزاب الكعبة المشرفة، بدأت رحلة حب في الله ولله ... بوجه مهيب مشرق باسم مرحِّب بصحبة أخيه الفاضل الشيخ د. عبدالرحمن حداد.

 مسيرة أخوة وحب وعلم وأدب ومرح، استمرت ما يقرب من أربعين عاماً عرفت من خلالها كثيراً من حياته.

عرفته ابناً باراً بوالديه فقد كانت فرحته الغامرة دليلاً لا تخطئها العين بإقامته مع أمه وأبيه في بيته في التحلية بجدة، يحقق لهما مطالبهما وما يشتهون بسعادة بالغة، ويهيىء لهما جوًا من الراحة في السكنى، مقدرًا شيخوختهما ونفسيتهما ، رغم ضيق مسكنه بادئ سكناه في جدة حتى بلغ الأمر أن يزجر زوجه إرضاءً لأمه، وذلك بالاتفاق مع زوجه المصون أم أحمد.

عرفته زوجاً مخلصاً لزوجاته الأربع حتى اللواتي فارقهنَّ، فارقهنَّ بإحسان. ما سمعته يعيب على إحداهنَّ شيئاً، وإذا مرت به مناسبة ذكر محاسن أخلاقها.

وتعددت زيجاته لمَّا لم يرزقه الله الولد فطلبه طباً وزواجاً، ولما تيقَّن أن الله جعله عقيماً قال لأمه: أريد امرأة لها أولاد حتى لا تطلب مني ذلك.

وكانت أم أحمد حفظها الله الزوجة الثالثة بعد فراق الأولتين، والتي كان لها ولد وبنت، فكانت له الزوجة الوفية الكريمة البارة بأهله وضيوفه الكثر.

وكان رحمه أباً ومعلماً ومربياً لأولادها ولأولاد أولادها حتى كان منهم الحافظ و الطبيب والمهندس.

عرفته طيب الله ثراه محباً للعلم وأهله، كان عالماً ربَّانياً يصدع بالحق، وقَّافاً عند حدود الله، لا تأخذه بالله لومة لائم ، فكان إذا ما بدا له الحق وثب كالهزبر مناصراً له مهما كان الخصم عالماً أو قريباً أو صديقاً، وفي الوقت نفسه إذا كان على أمر وبدا له الصواب والحق في غيره، توقف مباشرة وآب للصواب.وكان يزرع في تلاميذه ورواد خطبه ومسجده هذه المعاني.

عرفته رحمه الله كريماً مفتشاً عن الضيوف، محباً لهم، باذلاً كل ما يسعدهم من طعام وشراب ومرح ومعونة ومساعدة وقضاء حوائج حتى آخر لحظة من حياته رحمه الله، وما زرته في ليل أو نهار إلا وجدت عنده ضيوفاً يُكرمون.

عرفته صالحاً مصلحاً فكم من خلافات زوجية كان صلاحها على يديه سواء من الأقارب أو الأباعد.

عرفته إنساناً صادقاً صدوقاً يحب الخير للإنسانية جمعاء، يدعو للسلم والسلام أن يعم البشرية كافة، يحترم الكبير مناصحاً وموجهاً ، ويعطف على الصغير ملاطفاً ومربياً، يعرض فكرته بحكمة ومداعبة ومرح، يناصر المظلوم، ويدفع الظالم، وينصح العاصي ، ويساعد المحتاج باذلا من ماله وجاهه حتى وهو يعاني من آلام مبرحة ومن سكرات الموت.

نِعْم رحل العالم المجاهد الربَّاني.

اللهم أجرنا في مصابنا واخلفنا خيراً منه.

رحمك الله شيخنا الفاضل أبا أسامة.

وجزاك الله خيراً عما قدَّمت للإسلام والمسلمين.

وأنزلك منازل الأبرار مع الأنبياء والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

الحلقة الثالثة هــــنا

في الصورة الاخ ابراهيم عبيد يقف عند راس شيخه عبد الحفيظ وبجانبه القارئ فائز الخاني الذي كان ومازال مؤذن مسجد التحليه الذي كان يؤمّ فيه الشيخ عبدالحفيظ وهو من تلامذة الشيخ سعيد العبدالله والشيخ محمد نبهان مصري رحمهما الله تعالى  وآخر تشخيص لمرض الشيخ رحمه الله انتشار سرطان في الجهاز الهضمي انتشر الى الطحال والكبد والعظام. وهذا التشخيص جاء بعد رحلة عانى الشيخ رحمه الله فيها من اجتهادات الأطباء رحمه الله وغفر له.