الأخ الكبير الشيخ عبد الحفيظ الحداد رحمه الله تعالى: كلمات في رثائه (3)

نشرت في الحلقة الأولى كلمتي الموجزة في رثاء أخينا الكبير الشيخ عبد الحفيظ الحداد، وبعض ما وقفت عليه في رثائه رحمه الله تعالى، وتابعت في الحلقة الثانية نشر بعض ما أرسل إليّ من كلمات إخوانه ومحبيه وأقربائه، وأقتصر في هذه الحلقة على نشر ترجمة الأخ عبد الرحمن حداد لشقيقه الكبير، وأتبعها برثاء الأخ الحبيب خالد هنداوي للفقيد الكريم رحمه الله تعالى 

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله القائل في كتابه:

(( وبشِّر الصابرين الَّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون )) ، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ القائل : " ما من مسلمٍ تصيبه مصيبةٌ فيقول ما أمره الله : إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ، اللهمّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلاَ أخلف الله له خيراً منها " رواه مسلم .

إنَّ العين لتدمع، وإنَّ القلب ليحزن ، وإنا على فراقك يا أُخيَّ لمحزونون ...

وُلد أخي الشيخ عبدالحفيظ الحداد رحمه الله تعالى في مدينتنا حماة بسوريا عام 1943م ، ونشأ في بيئةٍ محافظةٍ محبةٍ للدين ، فكان الوالد رحمه الله ـ وهو من تجّار مدينة حماة في مجال موادّ البناء ـ محبًّا للعلم والعلماء، وتربطه بالكثير من علماء البلد علاقاتٌ قوية وخاصَّةً فضيلة الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى .

في هذه البيئة نشأ وتربّى الشيخ عبدالحفيظ رحمه الله ، وتلقّى تعليمه بمراحله الثلاثة ـ الابتدائية والإعدادية والثانوية ـ وعندما حصل على شهادته الثانوية بفرعها العلمي حرص الأهل على تشجيعه للذهاب لتركيا لدراسة الطب ، وفعلاً ذهب لتركيا لهذا الهدف لكنَّه لم يجد ضالَّته المنشودة وما يصبو إليه في هذا الفرع ورجع قبل أن يكمل سنته الأولى من عام 1964م فقد كانت رغبته متوجّهةً لطلب العلم الشرعي ، وفعلاً تقدّم بطلبه للالتحاق بكلية الشريعة في جامعة دمشق التي أكمل فيها تعليمه الأكاديمي بعد أن نال قسطاً وافراً من العلوم الشرعية قبل انتسابه للجامعة من خلال ملازمته التّامّة لدروس فضيلة الشيخ محمد الحامد رحمه الله ، فقد كانت دروسه رحمه الله جامعةً متكاملةً في مجال العلوم الشرعية بجوانبها المتعددة، وخاصَّةً ما يتعلق منها بالعقيدة والتفسير والفقه والحديث والسيرة ، وقد كان درس الشيخ الحامد رحمه الله يُعقَد بشكلٍ يومي من بعد صلاة المغرب بقليل إلى ما بعد أذان العشاء بعشرين دقيقة تقريباً ، إضافةً إلى دروسه الصباحيَّة الخاصَّة لخواصّ طلبته على مدار الأسبوع أيضاً ، وقد كان حضور الشيخ عبدالحفيظ وتتلمذه على يد الشيخ الحامد منذ فترةٍ مبكرة عندما كان يصحبه الوالد رحمه الله معه وهو صغير ، ولقد كان لهذه المرحلة من ملازمته للشيخ الحامد أكبر الأثر في بنائه العلمي ودقّته الشرعيَّة دقَّةً استحوذت على كيانه واهتماماته التي صاغت أسلوب حياته مراعيةً تحرّي الحكم الشرعي في كل جوانبها المختلفة ، فالشيخ الحامد رحمه الله عُرِفَ واشتُهر بورعه ودقَّته الشرعية في تحرِّيه للحق والوقوف عنده والجهر به وعدم مجاملة أحدٍ على حسابه. وكما استفاد من فضيلة الشيخ الحامد رحمه الله في بنائه العلمي، استفاد أيضاً من شمائله وأخلاقه وما يتمثّل به الشيخ من قيمٍ وأخلاقٍ فاضلةٍ مستقاةٍ من أخلاق وشمائل المعلم الأول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن منطلق الوفاء الذي حثّ عليه الإسلام وأوصانا به النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : "لايشكر الله من لايشكر الناس" فقد كان دائم الثناء على شيخه الحامد والاستشهاد به ، ولقد سمعته وسمعت قوله لبعض الإخوة الذين جاؤوا لعيادته في مرضه الأخير : لم ترَ عيني مثل الشيخ الحامد رحمه الله تعالى.

وفي كلية الشريعة التي انتسب إليها عام 1965م وكان من المنتظمين في حضور المحاضرات مع أنّ الحضور لا يُلزَمُ به طلاب كلية الشريعة في تلك المرحلة فقد استفاد من ثلّةٍ من العلماء الكبار المتميزين بعلمهم وفضلهم كفضيلة الشيخ والأستاذ الكبير الأصولي : فتحي الدريني ، والشيخ مصطفى أحمد الزرقا ، والدكتور الفقيه وهبة الزحيلي ، وفضيلة الشيخ الدكتور : محمد أديب الصالح وغيرهم رحمهم الله جميعاً ، إضافةً إلى إفادته من علماء دمشق الكبار والتي كانت مساجد دمشق عامرة بدروسهم العلمية كفضيلة الشيخ محمد الهاشمي، والشيخ عبدالكريم الرفاعي، والشيخ حسن حبنّكة الميداني وغيرهم رحمهم الله تعالى. وبعد تخرّجه في الجامعة عُيّن مدرّساً لمادة التربية الدينية ، وتنقّل بين عدد من المدن، وكان في كل مكان يحلّ به للتدريس يترك أثراً علمياً ونشاطاً دعوياً إلى أن استقرّ به المقام مدرِّساً في مدينتنا حماة ، لكنَّ استقراره هذا لم يدم طويلاً إذ اضطرّ للخروج والسفر منها كشأن الكثيرين الذين خرجوا في تلك الفترة ، وقد كان خروجه من البلد عام 1981م ـ 1401هـ قاصداً مكة المكرمة حيث أقام بها فترةً درّس خلالها في دار الحديث الخيرية بأجياد، ثم انتقل بعدها لمدينة جدة حيث عمل خطيباً وإماماً ومدرِّساً في مسجد التحلية، واستمرَ فيه قرابة الأربعة عشر عاماً إلى أن استقرّ به المقام أخيراً بالعمل باحثاً في الهيئة العالمية للإعجاز العلمي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وظلَّ قائماً على عمله مجتهداً في أدائه إلى أن أقعده مرضه الأخير قبل شهرين من وفاته تقريباً ، وخلال فترة عمله إماماً وخطيباً في مسجد التحلية في جدة تابع مسيرته العلمية موفِّقاً بين عمله وتحصيله العلمي حيث حصل على درجة الماجستير من جامعة ( بهاولبور ) بالبنجاب، وبعدها تابع سيره العلمي بالحصول على درجة الدكتوراة كذلك من نفس الجامعة وعنوانها : " الإسلام والصحة العامّة " عام 1407هـ ـ 1408هـ .

كان رحمه الله محبًّا للخير ، متواضعاً ، جواداً ، يألَفُ ويُؤلَف ، دمثَ الأخلاق ، مصلحاً لذات البين ، ناصحاً لإخوانه ، زاهداً بدنياه ، متطلِّعاً لما عند الله من المثوبة والأجر ، فاتحاً بيته لكلِّ من قصده على اختلاف مستوياتهم وتوجهاتهم الفكرية ، حريصاً على توجيههم روحياً وتزكيتهم نفسياً وإفادتهم علمياً ، ناصحاً لهم بما ينبغي أن يكونوا عليه من التزامٍ بالأحكام التي يقررها الشرع الكريم ، لا يجامل في هذا أحداً .

تغمّده الله بواسع مغفرته ورحمته وألحقه بركاب عباده وأوليائه الصالحين وجزاه خيراً عمّا قدمه ، والحمد لله ربِّ العالمين 

كتبه / د . عبدالرحمن محمد الحداد

السبت 5/8/1439هـ

مكة المكرمة

إلى روح فقيدنا الغالي المرحوم عبد الحفيظ حداد، صبّ الله عليه شآبيب الرضوان:

للدكتور خالد حسن هنداوي

نم يا حبيبي

عبدَ الحفيظِ رعاكَ اللهُ مرتحِلا

فاذهبْ مُضيفُك نادَى: مرحباً وهلا

هو الكريمُ الذي آواكَ مفتقراً 

وهو المجيرُ لمن في ساحه نزلا

 

والضيفُ ما دام في قرب السخيّ سما

ألستَ محبوبَه الأكباد َوالـمُقَلا

وفدتَ في غربةٍ ترجوه خالقَنا

أجرَ الشهادةِ تُكسى الحُورَ والحُلَلا

 

على فراقكَ إنا جِدّ في حَزَنٍ 

وقد رضينا بمن قد قدّر الأجلا

حسبتُ أنك بالآلامِ منشغلٌ

فقلت: سوف أناجي الحِبّ متّصلا

إذا المنيّةُ سهمٌ ماله خلَفٌ

يُخيب ظنّي ولا يَعبا بمن كسلا

عبدَ الحفيظ أليس اللهُ حافظَنا 

والشافيَ العبدَ إنْ داءٌ به ثقلا

إنَّ السلامة حقاً في مصاحبةٍ 

بلا فواصلِ عجزٍ فاغتنم نُزُلا

لما عرفتَ الرضا أو شِمْتَ لذّته 

طعمتَه بلسماً بل ذقتَه عسلا

كم كنتَ في ذكر مولانا على لَهَجٍ

مع الرسول تُوافي السهلَ والجبلا

وكم تمرّغتَ بالأعتابِ منكسراً 

وكنتَ في الليل قوّاماً ومبتهِلا

وقمتَ تكدحُ مِعواناً لإخوتنا 

وهمُّك الدينُ أن يبقى لنا أملا

خدمتَ أهل التقى بِرّاً ومرحمةً 

وكنتَ تسأل من في حاجة سألا

ما غِرتَ إلا لأجلِ الله محتسباً 

وما ندمتَ على الدنيا كمَن جهلِا

يا ليتَ أنّا بدنيانا نشدّ على 

أنّا اقتداءٌ بمَن كانوا لنا مثلا

نرجوه سبحانه في الخلد يجمعنا 

مرافقين الأُلى أنعِمْ بهم رُسُلا

ويكشف الضرّ عن مأساة أمّتنا 

وينصر الحقَّ بالأخيار والفُضَلا

نمْ يا حبيبي ففي الفردوس موعدُنا

حيث العطيةُ لا نبغي بها بدلا

هناك ننعمُ لا حُزنٌ ولا وَجَلٌ

والكلّ يُجزى بما في عمره عملا

كالوالد الصالح الأتقى "محمّدِنا"

و"غالبِ" الظلمِ مَن أبلى بنا وعلا

يا ربّ رحماك أيقظنا فأنت بلا 

نوم فكيفَ لمن عن موته غفلا

الحلقة الثانية هـــنا