الأخ الكبير الشيخ عبد الحفيظ الحداد رحمه الله تعالى كلمات في رثائه (2)

تقدمت في الحلقة السابقة كلمتي في رثاء أخينا الشيخ عبد الحفيظ الحداد، وبعض ما وقفت عليه في رثائه، وأتابع في هذه الحلقة الثانية نشر بعض ما أرسل إلي من إخوانه ومحبيه وأقربائه :

كتب الأستاذ الدكتور رياض بن حسن الخوام رثاء للشيخ الدكتور عبد الحفيظ حداد رحمه الله:

رحل الدكتور عبد الحفيظ الحداد -رحمه الله- رجل الوفاء والعطاء 

زرته - نور الله ضريحه - حين كان في المستشفى، فرأيته رجلا كما عهدته صلبا قويا، يرسل من عينيه رسائل المحبة والمودة والشكر، يحدثك كما لو أنه لايعاني شيئاً، ذكر بعض الإخوة أمامه أخبار سورية الذبيحة فاغرورقت عيناه، ثم مالبث أن انتفض أبو أسامة أسداًهصوراً يكشف خزي الخونة، وانتصار الجرذان على هذا الشعب الأبي الحر الأصيل، ثم أنهى حديثه بقوله تعالى: (والله غالب على أمره)، هذا حاله على فراشه حين كان في المستشفى يصارع المرض.

أما حين كنا نزوره في بيته فكنا نشعر بأننا أمام تاريخ حماة المشرق؛ لأن هذا الرجل يمثل مرحلة تاريخية كانت حماة متألقة فيها،عاش مع علماء حماة الأفذاذ، وتردد على حلقات العلماء أصحاب المناهل المتنوعة، فإذا أحببت أن يحدثك عن التكية أو دار الفقراء في حماة وجدت عنده ما لاتجده عند غيره، وإذا رغبت أن يتحفك بأقوال العلماء كالشيخ سعيد الطنطاوي أو علماء حلب ألفيته ينثر عليك الدرر، لقد اجتمع عنده تاريخ متنوع، يتسم بالدقة والتوثيق والفهم العميق، لتاريخ بلده حماة وسورية، وهو لايهمه تاريخ الأشخاص بقدر مايهمه مدى الإخلاص الذي يوصل إلى الخلاص، لذا أحبه إخوانه الذين كانوا يترددون إليه في منزله كل ليلة خميس من كل أسبوع ،لسماع ما يشنف آذانهم من الأناشيد الجميلة التي ينشدها لهم صاحب الصوت الندي الشجي أبو عمير شفاه الله وعافاه ثم لسماع بعضٍ من الوعظ ،وشيء من حكايا العلماء الصالحين، كان لكل واحد من جلسائه شرعة ومنهاج يختلف عن الآخر، فأسرى المحبة بينهم بروحه الطيبة وذكائه الواضح حتى أدركوا جميعا أنه لم يجمعهم في جلساته إلا لله على المحبة الخالصة ،والمودة الصافية ، غير طامع في جاه دنيوي ولا متطلع إلى "أنا" الإبليسية.

تربى عند الأجلة من العلماء الصالحين ،كان أحباؤه في مجلسه الأسبوعي إذا تناقشوا -لأن مشاربهم كما ذكرت مختلفة - يستمع إليهم بابتسامته الدالة على صفاء نفسه، ورقي روحه، ثم إذا اشتد خلافهم يدلي برأيه الراجح، داعماً إياه بالأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة الدالة على علو كعبة ،ورسوخ علمه فكأنه ترياق من بلسم، وأرى أن الرجل القادر على جعل طلابه المتنوعين المشارب، إخوة متحابين هو الموفق من الله.

كان من المشايخ الذين يحبون البساطة في حياتهم فهو لا يتكلف ولا يتمظهر، بل تشعر أن باطنه كظاهره. 

رحمك الله يا أخي الكريم، أحببناك في الله ولله، حين كنت أراك يمثل أمامي أخوك الشهيد غالب رحمه الله، كنت صورة منه، قوالا للحق، لا تخاف في الله لومة لائم.

كم تزودت منك حين كنت أزورك بهمة عالية، وروح وثابة، وطرائق في العطاء وضاءة، ذكاء متقد، وعقل نيّر، و حديث صادق بيّن، وفي الحق الكتابة عن شمائلك الرفيعة، وأياديك وكرمك وعطائك وحبك لإخوانك يلزمه الجهد والوقت، فلعل هذه الرشفة تروي، ولعل هذه الكلمات الوجيزة تغني عن بسط العبارات وشرح الأحوال .

رحمك الله أبا أسامة رحمة واسعة ،وأسكنك فراديسه وجناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وألهم أهلك الصبر والسلوان وجعلنا جميعا من أهل الإحسان.

وكتب الأخ الشيخ طارق عدي: 

لقد بلغ من حرصه رحمه الله على صلاة الفجر في جماعة وهو لا يزال طالبا في الصف العاشر وقد كانت له غرفة على سطح البيت في الدور الثالث أنه كان يربط يده بحبل ثم يخرج الحبل من نافذة الغرفة إلى السطح ويجره إلى الميزاب ثم يدليه من الميزاب إلى الشارع ليكون قريبا باب المنزل ويطلب من إخوانه من يأتي مبكرا إلى صلاة الفجر أن يشد الحبل حتى يفيق ويطل عليه من السطح وإن كان الحبل مرفوعا فمعنى ذلك أنه مستيقظ وكان أكثر من يوقظه في تلك الأيام الشيخ مصطفى حوى رحهمه الله وللعلم فإنه كان لاينام مبكرا ويحرص مراجعة دروسه المدرسية ومطالعاته الشرعية إلى جانب التزامه بالدرس المسائي اليومي لسيدي الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى وحلقات الذكر الجماعي والدروس الشرعية في دار الفقراء مركز السادة الشاذلية في تلك الفترة، وكانت بإشراف المشايخ الكرام الشيخ بشير الشقفة حفظه الله والشيخين سعيد حوى وأديب الكيلاني رحمهما الله تعالى هؤلاء إخواني أغصان مزهرة من دوحة مباركة.

وكتب الدكتور أحمد عبد العال : 

رحم الله الشيخ عبدالحفيظ رحمة واسعة واعلى درجته في جنات النعيم مع النبيين والشهداء والصالحين وإن لم اشرف بلقائه أو التعرف عليه رحمه الله لكنني التقيت باخيه الشهيد البطل المقدام غالب الحداد رحمه الله في حماه فقد قابلت رجلا لا كالرجال في شجاعته ورجولته وصدقه وكرمه إنه نشأ في بيت لا يعرف سوى الإسلام منهجا وطريقا وعزمه على أن يتحمل كل ما يتطلبه من تضحيات لقد قابلت أسدا من أسود الله رحمهما الله واسكنهما الفردوس الاعلى من الجنة.

وكتب الأخ عمير الجنباز أبو عبد الملك التيمي

الشَّيخ عبدالحفيظ الحدَّاد الحموي، تغمَّده الله بواسع مغفرته ورحمته، من الدُّعاة العاملين الغيورين، أعجوبة في الفضل والنُّبل، خطيبًا مفوَّهًا مصقعًا، أديبًا ظريفاً كيّسًا مُربِّيًا، طيِّب المجالسة، متودِّدًا للنَّاس، رحمه الله تعالى وأجزل مثوبته.. 

إنَّما الدُّنيا وإنْ طَالَ مَداهَا ... ليسَ للمَرءِ بَقاءٌ في حمَاها. 

وكتب ابن أخيه طالب العلم عبد المنعم بن عبد الرحمن الحداد هذه الكلمة في رثاء عمه: 

الحمد لله القائل :((كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذوالجلال والإكرام )) 

والصلاة والسلام على القائل : «أتاني جبريل، فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزَّه استغناؤه عن الناس» رواه الطبراني في الأوسط.

وبعد :

فالموت بابٌ لابد لكل أحدٍ أن يدخل منه..

هـو الموتُ مـا منه مَلاذٌ ومهربُ --- متى حُطَّ ذا عن نَعْشِهِ ذاك يركبُ

فُجعنا ظهر يوم الاثنين الموافق للثلاثين من رجب للعام 1439 من الهجرة بوفاة عمي وشقيق والدي الشيخ الدكتور (عبدالحفيظ محمد قاسم الحداد) 

نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته وأن يجعل مثواه الفردوس الأعلى من الجنة إنه جوادٌ كريم 

ولي بعض الوقفات والخواطر مع هذا المصاب :

أولاً :عرفت عمي الحبيب رحمه الله منذ نعومة أظفاري في مكة المكرمة 

كان فيها نِعم العم شفقةً وعطفاً ورحمةً ونصحاً ، ولاأنسى كيف كنّا ونحن صغاراً نفرح فرحاً شديداً بزيارته وبمايحمله من هدايا وحلوى يُدخل بها السرور على قلوبنا ، وكيف كان يداعبنا ويضاحكنا تواضعاً منه رحمه الله . 

ثانياً: كان رحمه الله شديد البرّ بوالديه رحمهما الله ، لايكاد يخالفهما في أمرٍ يرغبانه، وعندما هاجرا من سوريا في أحداث الثمانينيات وأقاما في مكة

كانا يترددان بين بيت والدي وبيت عمي رحمه الله ، وأذكر أنه كان يزورهما يومياً حال كونهما عند والدي ولايكاد ينقطع عنهما 

وكان يحرص كل الحرص على راحتهما ورضاهما ، فرحمة الله عليه وعليهما جميعاً. 

وبالمناسبة كانت وفاة جدتي (أم نزار) رحمها الله تعالى قبل حوالي 25 سنة وكان دفنها في مقبرة المعلاة في بداية مدخل المقبرة من جهة الحرم 

وقبل وفاة عمي بشهرٍ تقريباً رأت إحدى قريباته في منامها جدتي وهي مشغولة وكأن عندها مناسبة تتجهز لها، وعندما توفي عمي وقمنا بإجراءات المغسلة والدفن أخبرونا في المغسلة بأن الدفن سيكون في مقبرة الشرائع

فسعى والدي مع بعض الإخوة بأن يكون الدفن في مقبرة المعلى بجوار الحرم وبفضل الله لم ينته غسله وتكفينه إلا وصدرت الموافقة على دفنه في مقبرة المعلى ، فذهبنا إلى الحرم بعد صلاة المغرب وصلينا العشاء واستفتح إمام الحرم الدكتور خالد الغامدي قراءته في الركعة الأولى بآياتٍ استبشرنا بها بقوله تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام :

(( وأُدخِلَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام )) 

وبعد صلاة العشاء صلّى المسلمون على عمّي رحمه الله ومعه أربع جنائز 

ثم توجهنا إلى المقبرة فوجدنا حشداً كبيراً من الأقارب و المحبين والأصدقاء والمعارف، وصُلّي عليه مرةً أخرى في المقبرة ثم حملنا الجنازة وسألنا عن موضع القبر فدلّونا عليه

وهنا كانت المفاجأة !! 

موضع قبرعمي الشيخ لايبعد عن قبر والدته إلا بأمتارٍ يسيرة فرحمة الله على الأرواح الطاهرة. 

ثالثاً: كان رحمه الله حريصاً على العلم الشرعي والبحث والتعليم ، وكانت له مكتبةٌ عامرةٌ في بيته تضمّ أنواعاً كثيرةً من المراجع في شتى العلوم وخصوصاً مايتعلق بالعلوم الشرعية، ومما يُعرَف عن عمي رحمه الله حرصه على اقتناء الكتب وفهرستها والمحافظة عليها طيلة حياته، لكنني لاحظت كمالاحظ الكثير غيري أنّ عمّي قبل وفاته بحوالي ستة أشهر بدأ بتوزيع كتبه على طلاب العلم وعلى زوّاره ومن حوله بشكلٍ مثيرٍ للعجب والاستغراب. 

فكلما زرناه لانكاد نخرج من عنده إلا ونحن محمّلون بعشرات الكتب، وكنا نقول له : لاتفرط في هذه الكتب لعلك تحتاجها فكان يرد علينا ويقول : أرجو أن يستفيد طلاب العلم منها .

وقبل وفاته بثلاثة أيام زرته في بيته فأهداني الموسوعة الفقهية الكويتية "قرابة الخمسين مجلداً"،وكتاب "روائع البيان في تفسير القرآن" ومجموعةً من الكتب في علم أصول الفقه ، فقلت له : ياعم ، هذا كثير ! لاتكلف على نفسك ، فالتفت إليّ وابتسم ابتسامةً مشرقةً رغم كل آلامه وقال لي : ((وإذا الموؤودة سُئلت بأيّ ذنبٍ قُتِلَت)) فضحكت ، فقال لي: فهمت مرادي ، فدعوت له وانصرفت بالكتب 

فكان هذا التصرف منه في توزيع الكتب يشعرني بأنه قد أحسّ بدنوّ أجله - غفر الله له - وتجاوز عنه .

رابعاً: في سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله, حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)

قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى :( والله سبحانه إذا أراد بعبدٍ خيرًا سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذّبه ونقّاه وصفّاه، أهَّلَه لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقربه) .

من رحمة الله بعمّي الشيخ أن ابتلاه قبيل وفاته بمرضٍ خطير انتشر في جسده وأعضائه وعظامه حتى أُقعدَ عن الحركة تماماً في الشهر الأخير من حياته وكان يعاني آلاماً مبرحةً وأموراً عظاماً لايكاد يطيقها أيّ إنسان ، لكنه رغم ذلك كله كان صابراً محتسباً مستسلماً لأمر ربه. 

يقابلنا بابتسامته المشرقة وكلماته العذبة ودعواته المباركة 

وكنت أسمعه يردد أبياتاً مطلعها:(رضيت بمايرضيك أنت نصيري....) 

وكان رحمه الله حال مرضه الشديد حريصاً على أداء الصلاة فور دخول وقتها 

وقد طلب منّي أول دخوله المستشفى أن آتيه بمايتيمم به ، فكان يتيمم لكل صلاةٍ ويصلي مستلقياً من شدة المرض، فصبر على المرض وعلى المكث والمبيت في المستشفى، وقبل وفاته بأربعة أيام خرج بإذن الطبيب للبيت لمدة يومين ثم عاد ظهر السبت، وكان معه في الغرفة مريض آخر قد فارق الحياة في نفس اليوم بعد العصر، فلما رآه عمّي الشيخ عزّى أهله وترحّم عليه ودعا له بخير، وفي يوم الأحد قبل وفاته بيوم أُجري لعمّي بعض الفحوصات، وزرناه يومها، وكانت آخر زيارة لا أنسى نظراته الأخيرة، وهو يشير بيده إليّ ويبتسم في وجهي وودعته وانصرفت. 

وفي صباح يوم الاثنين تفاجأت باتصالٍ من أحد الأقارب يفيد بأن الدكتور المشرف على حالة عمّي قد كتب له ورقة خروج من المستشفى فخرج من المستشفى ووصل البيت قرابة الظهر،وبعد الظهر حان موعد الرحيل، وفاضت روحه الطاهرة إلى بارئها، وعلمت حينها أن أجله ينتظره في بيته لا في المستشفى 

رحمه الله رحمةً واسعة .

وأسأله سبحانه أن يجعل ماأصابه رفعةً في درجاته وتكفيراً لسيّئاته ، وزيادةً في حسناته .

خامساً: وكانت في حياتك لي عظاتٌ * وأنت اليوم أوعظ منك حياّ 

وفاة الشيخ الغالي تركت فينا دروساً وعبراً لاتُنسى 

فماشاهدناه من محبة عباد الله وثنائهم العاطر وتألمهم لفقد حبيبٍ عزيزٍ على قلوبهم 

لهو دلالةٌ قاطعةٌ على سموّ أخلاقه وطيب قلبه وسلامة صدره، وحسن علاقته بربه 

فنسأل المولى كما رفع ذكره في الدنيا أن يرفع منزلته في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسن أولئك رفيقاً.

ختاماً : إن هول الفاجعة ، وشدة المصاب ، تقتضي منّا كمال الرضا بالقضاء والقدر ، فإن العين لتدمع ،والقلب ليحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، فنسأل الله أن يرحم عمي الشيخ الفاضل .

اللهم أنزل على قبره الضياء والنور والفسحة والسرور اللهم اجزه عنا خير ما جزيت عالماً عن أمته.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

عبدالمنعم عبدالرحمن الحداد 

1439/8/5

تنظر الحلقة الأولى هــــنا