الأخلاق المحاربة

 

الذي أعلمه علم اليقين، ولا أشك فيه أبداً، هو أن الملوث جنسياً أو الملوث جيبياً، لا يمكن أن يقاتل في الحرب كما يقاتل الرجال.

وأريد بالملوَّث جنسياً، الذي تردَّى في مهاوي الرذيلة فسقاً وفجوراً، يقضي أيامه مفكراً في البغايا، ويقضي لياليه، في معاشرتهن، ويكشف ذيله على ما حرم الله، ويطمع في أعراض الناس.

وأقصد بالملوث جيبياً، الذي دخل جيبه المال الحرام رشوة من الراشين أو غشاً في البيع والشراء، أو جمعاً للمال من طرق غير مشروعة.

وأقرر هذا المبدأ اعتماداً على تجربتي العمليَّة في الحروب، واستناداً إلى دراساتي لتاريخ الفتح الإسلامي العظيم، وإلى ما قرَّره القادة العظام الأقدمون والمحدثون على حد سواء.

وأرجو ألا يقول قائل: كيف إذن ينتصر الغربيون – مثلاً – في الحروب، وهم ملوثون جنسياً؟

إنَّ الذين يزعمون بأن كل الأجانب ملوثون جنسياً مخطئون كل الخطأ، أو واهمون كل الوهم، أو مغرر بهم كل التغرير.

ولقد عشت ردحاً طويلاً في بلد أجنبي من البلاد الأوروبية، فوجدت أنَّ فيهم البر والفاسق، ولكن مصدر قوتهم يكمن بالمتمسكين بالفضيلة قولاً وعملاً وما أكثرهم هناك.

ومشكلة أكثر الذين يفدون إلى الغرب من الشرقيين، هي أنهم ينحدرون بأنفسهم إلى مستوى الخادمات وأكثرهن مُنحرفات أخلاقياً، ولا يرتفعون بأنفسهم إلى مستوى ذوي الشرف الرفيع المتمسكين بدينهم وتقاليدهم العريقة ومثلهم العليا.

وحين يعود هؤلاء الشرقيون إلى أوطانهم، يظنون خطأ أن الشعب الأجنبي الذي عاشوا في بلده وقتاً من الزمن هو بمستوى أولئك الخادمات اللواتي عاشروهن وحدهن من بين ذلك الشعب الأجنبي.

وليس الذنب ذنب الشعب الأجنبي الذي يحكمون على كله بما فيه من خير وشر بجزئه بما فيه من شر، إنما الذنب ذنب أولئك الشرقيين الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فاختاروا الرذيلة دون الفضيلة، وآثروا الظلام على النور.

والقلائل من الشرقيين الذين صانوا أنفسهم من الدنس، وحاسبوا أنفسهم مرتين قبل أن يقدموا على ما يعيب، مرة لالتزامهم بالدين الحنيف، ومرة لأنهم غرباء في محيط يحصي عليهم كل صغيرة وكبيرة يقترفونها.

هؤلاء القلائل من الشرقيين، رأوا عجباً من تمسُّك الأجانب الغربيين في بلادهم بأهداب الشرف والفضيلة، وابتعادهم عن كل ما يخلُّ بالصدق والأمانة، وتجنبهم كل ما يخلُّ بالمروءة والخلق الرفيع.

 

أذكر أنَّ جماعة من العراقيين كانوا يعيشون مع عائلة أجنبية في دارها، وكانت تلك العائلة مؤلفة من زوج وزوجة وأمها، وكان لديهم ثلاثة أولاد وبنت واحدة، وكان أكبر أولئك الأطفال عمره ثماني سنوات.

وكنت مع العراقيين الذين يساكنون هذه العائلة الأجنبية في البلد الأجنبي، حين كنت أستكمل دراستي العسكرية في دورة الضباط الأقدمين (الضباط العظام كما يطلق عليهم في قسم من الجيوش العربية).

كانت كل غرفة من غرف الدار، فيها ما لا يقل عن ست صور مؤطرة بإطارات فخمة للسيد المسيح عليه السلام وللعذراء وللقديسيين.

وكانت تلك الصور موضوعة على الجدران، بحيث تقع عين ساكن الغرفة في تلك الدار على إحدى الصور في كل الاتجاهات.

وكان في كل غرفة مكتبة صغيرة، كل ما فيها من كتب دينية: العهد القديم، والعهد الجديد، ومعجمات للكتاب المقدس، ومؤلفات عن حياة السيد المسيح، وعن مشاهير القديسين.

وكان والد الأطفال وأمهم وجدتهم يسحبون الأطفال سحباً صباح يوم الأحد من كل أسبوع إلى الكنيسة، وكانوا يلقون مواعظهم على أطفالهم صباح مساء بشكل منظم معقول، يحثونهم بها على التمسك بالدين.

وقد تلقَّى العراقيون تعليمات محددة من مسؤولي السفارة العراقية ترشدهم إلى الطريق السوي في معاملة من يساكنونهم من الأجانب.

من تلك التعليمات عقد أواصر صداقة وطيدة بين العراقيين والأجانب، وانتهاز فرص المناسبات الاجتماعية والدينية لتقديم هدايا رمزية لمن يشاطرونهم السكن.

وفي أحد الأيام ذكرت الجدة وهي عجوز شمطاء أن أحد الأطفال واسمه توم سيحل عيد مولده السادس بعد أيام.

واقترح أحد العراقيين أن يدعو العائلة الأجنبية إلى السينما على حسابه تحية لعيد ميلاد توم المرتقب.

واعترضت العجوز الشمطاء على هذه الدعوة قائلة: (يجب أن أذهب معك إلى السينما قبل يوم من موعد الدعوة، حتى أتأكد بنفسي من أن الرواية المعروضة خالية مما يضر بأخلاق الأطفال).

وكنا في أحد الأيام نتناول طعام الغداء على مائدة العائلة، فتحدث أحد العراقيين بحديث غير مهذب اعتبرته العائلة الأجنبية نابياً لا يليق بأن يقال بحضور الأطفال.

ونهضت العجوز وهي تتمتم بكلام خافت يدل على الاستنكار والاشمئزاز، وآوى كل ساكن في الدار إلى غرفته الخاصة به بعد الغداء وآويت إلى غرفتي لأستجم بعض الوقت.

ولم أكد أستقر على سريري، حتى سمعت من يطرق باب غرفتي، فنهضت وفتحت الباب، وكان على الباب أحد أصحابي، فقال: (لقد رمى أهل الدار عفشي في الشارع، وأوصدوا باب غرفتي!! أترضى بذلك؟؟). ويومها قلت له: إذا كنت على حق فكلنا معك، وإذا كانوا على حق، فأنت وحدك، وعلى نفسها جنت براقش.

وسمعت العجوز تحاورنا، فجاءت إلي تسعى، قالت: (إنكم هنا لنأخذ منكم المال حتى نربي به الأطفال تربية خاصة، فلن نسمح لأحد أن يقول على مسمع من الأطفال... إنه قال:....) وقلت لصاحبنا: الحق مع العائلة، والحق أحق أن يتبع فعلينا أن تجد لك سكناً جديداً تأوي إليه).

وقد رأيت كثيراً من الشخصيات الرفيعة الأجنبية لا يدخنون، ولا يعاقرون الخمر ولا يرتادون الملاهي ولا يخلون بمتطلبات الشرف الرفيع، وكنت أسمع منهم تذمراً شديداً من تردي الخلق وانصراف بعض الناس عن سبيل الحق والخير والرشاد.

والمشير مونتكومري أشهر قادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية 1939-1945 ألف كتاباً عنوانه: (السبيل إلى القيادة) ردد فيه عشرات المرات: أن من أهم عوامل نجاحه قائداً هو تمسكه بأهداب الدين.

ترى ! هل عزا قائد عربي أو مسلم سر نجاحه إلى تمسكه بالدين الحنيف؟ وماذا سيقال عنه إذا عزا سر نجاحه إلى الدين؟!

 

المجتمع في الدول الأجنبية إذن هو قسمان: قسم متمسك بالفضيلة، وقسم من أشياع الرذيلة.

فريق الفضيلة هو قوة المجتمع الأجنبي، وهو قوة لكل مجتمع شرقي وغربي، وفريق الرذيلة هو: نقطة الضعف في المجتمع الأجنبي وفي كل مجتمع شرقي وغربي.

وكلما ازداد عدد المتمسكين بالفضيلة، ازدادت قوة المجتمع وازداد تماسكه، وارتفع شأن البلاد، وأصبحت ذات أثر وتأثير في الأحداث العالمية من الناحيتين السياسية والحضارية.

وكلما ازداد عدد أصحاب الرذيلة ازداد ضعف المجتمع وازداد تفسُّخه، وتضعضع شأن البلاد، وأصبحت تجر أذيال الخيبة سياسياً وحضارياً.

كتب أندريا موروا في كتاب: (أسباب انهيار فرنسا) في الحرب العالمية الثانية يقول: (من أهم أسباب انهيار فرنسا هو تفسخ الشعب الفرنسي، نتيجة لانتشار الرذيلة بين أفراده).

وكل ما كتبه هذا الكاتب الفرنسي الكبير حقاً لا مراء فيه، لذلك أراد الجنرال ديغول في أيام رئاسته للجمهورية الفرنسية حتى يوم استقالته من منصبه الرفيع يوم 27 نيسان 1969 أن يحارب الرذيلة في الشعب الفرنسي، ويغرس الفضيلة فيه؛ لأنه كان واثقاً بأن الفضيلة هي الأساس لاستعادة فرنسا مكانتها الدولية، وهي التي تقودها إلى النصر سياسياً واقتصادياً وحضارياً وعسكرياً، وأن الرذيلة هي الأساس لانهيار فرنسا وقيادتها إلى الهزيمة في كل المجالات.

وما يقال عن فرنسا، يقال عن كل دولة قديمة أو حديثة..

والذين تتبعوا تاريخ الأمم، وأمعنوا النظر في أسباب بزوغ نجمها سياسياً وحضارياً وأسباب أفول نجمها سياسياً وحضارياً أيضاً، يجدون أن الأمم ارتفعت دائماً بأخلاقها المحاربة، وانهارت لتفسخ شعبها أخلاقياً، وميله إلى الترف ومتاع الدنيا الذي هو متاع الغرور.

ما هي أسباب انهيار اليونان؟ ما أسباب انهيار الرومان؟ ما أسباب انهيار البابليين والآشوريين في العراق؟ وانهيار الفراعنة في مصر؟ ثم انهيار العباسيين في العراق ومصر؟ ما أسباب انهيار دولة العرب في الأندلس؟ إنَّ دراسة قصَّة الحضارة في العالم، تعطي الجواب السليم!

 

لقد أدرك السلف الصالح أهميَّة الخلق الكر يم في إحراز النصر.

ولو أردت استعراض أقوال السلف الصالح، وعلى رأسهم الرسول القائد صلى الله عليه وسلم لبعد الشوط، ولطال المدى.

وما أعظم قولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالة بعث بها إلى قائد من قادة الفتح الإسلامي العظيم: (أخوف ما أخاف عليكم ذنوبكم).

لقد كان لا يخشى على الجيوش الإسلامية الزاحفة المنتصرة جيوش الأمبراطوريتين الساسانية والرومية، ولكن كان يخشى عليها ما يقترفه المجاهدون من ذنوب، لأنه كان يعلم حق العلم بأن المسلمين لا ينتصرون بعدد ولا عُدد، فأعداؤهم أكثر منهم عدداً وعُدداً، ولكنهم ينتصرون بتمسكهم الشديد بمثلهم العليا التي جاء بها الدين الحنيف.

ومن أقوال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاثاً على الخشونة محذراً من الترف: (اخشوشنوا، فإنَّ الترفَ يُزيلُ النعم).

ولم يكد الفاتحون يعودون ليستقروا في حواضر المسلمين الجديدة والقديمة وقد أصبحوا أغنياء بعد فقر، إلا وتطاول أكثرهم في البنيان، ومالوا إلى نعومة العيش، وقدم الكوفة أحد الفرس من خراسان، وكان قد شهد بلده يستسلم للفاتحين المسلمين ورأى الرجل الفارسي أبناء أولئك الفاتحين في حياة ناعمة رغيدة: تزوجوا الجواري، واتخذوا القصور، وتفاخروا بالمتاع، فقال مُتعجباً مُستغرباً: (أأنتم فتحتم بلدي!).

كلا! إنَّ الذين فتحوا بلده، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم..

وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فبدأ على يديهم انهيار دولة الإسلام، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

وبتقادم الزمن، وتعاقب الأيام والشهور والأعوام، ازدادت عوامل التفسخ في المجتمع العربي والإسلامي: شاع الجهل، وساد الظلم، وبرزت الأنانيَّة والفرديَّة، وضعف الجانب الروحي، وتضخَّم الجانب المادي، ونشبت الضغائن والأحقاد، وتعدَّد الحكام، وكثرت الطوائف، وانتشرت الخرافات، واستبدل الفرد والمجتمع الذي يفيده بالذي يضره، وبدَّل الناس ما بأنفسهم من خير وتعاون وانسجام.

وجاء الاستعمار فأضاف ضغثاً على أبالة: فرق ليسود، وجزأ ليحكم، وشجع التفسخ الخلقي، وتظاهر بهذا التفسخ ليقتبس العبيد أخلاق السادة، وأعطى المتفسخين ومنع الملتزمين، وقدم الإمعات وأخَّر الثقات، واستصفى الجبناء، واستبعد الأقوياء، وصافى الجواسيس وجافى الشرفاء، وقرَّب الخَوَنة وأبعد الوطنيين، واحتضن المارقين، ولفظ المدنيين... فكان لخططه هذه أثر أي أثر في نفوس العرب والمسلمين!

وكثيراً ما نسمع عن أثر الاستعمار على المستعمرين كلاماً مُبهماً يُعَمم ولا يخصص... إن أثر الاستعمار هو في سلب المثل العليا من المستعمرين، حتى يستطيع أن يحكم وهو قرير البال؛ لأنَّ أصحاب المُثُل العُليا إذا غلبوا ساعة فلن يغلبوا إلى قيام الساعة!.

قدم الجنرال غورو لاحتلال لبنان وسورية عام 1920 وجاء معه جيش لجب ومع ذلك الجيش باخرة مليئة بالبغايا فقيل له: (واجب الجيش المقاتل مفهوم، فما فائدة الجيش الآخر؟) فقال: (إنَّ أثر هذا الجيش الآخر أعظم من الجيش المقاتل).

وصدق غورو، وكان صريحاً بجوابه..

لقد عمل المستعمر في أيامه على إشاعة الفاحشة والتهتك في كل بلد حلَّ فيه، ونجح في مهمته أعظم النجاح.

ولست ألوم المستعمر، ولكنني ألوم من يقبل ذلك من العرب والمسلمين ومن يقتفي آثاره في ترك التفسُّخ والانحلال يرعيان كالفأر نفوس الأجيال.

وإلا فما أهدافُ إشاعة الفحشاء في العرب والمسلمين؟

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، جمادى الآخرة 1389هـ، العدد (54). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين