الأخلاق الإسلاميّة تربية وسلوك قبل أن تكون قولاً وتعليماً

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله تعالى

إنّ الأخلاق الحسنة تفتح القلوب المغلقة، وتليّن الأفكار العصيّة، وتقرّب البعيد، وتحبّب القريب، وتنشر السمعة الطيّبة للإنسان بينَ الناس، وتعطي أحسن صورة عن الدعوة التي يحملها الإنسان.. وهَكذا كانت شخصيّة الشيخ رحمه الله..

لقد عني بتهذيب نفسه أوّلاً، وحملها على الأخلاق النبويّة في كلّ شيء وروّضها.. ولم يفهم الأخلاق الإسلاميّة سلوكاً انتقائيّاً، كما نرى عليه كثيراً من الناس يأخذون ما يسهل عليهم، أو يطيب لهم، ويتجاهلون ما سواه، وكأنّهم لا يعرفونه، ولم يسمعوا به.. وإنّما حرص على كلّ خلق نبويّ أن يكون له منه أوفى نصيب.. وتجلّت أخلاقه الطيّبة في تعامله مع أقرب الناس إليه: زوجته وأولاده، فكان الزوج الوفيّ الودود، الآلف المألوف، يخدمهم ويعينهم في أعمالهم، ويحسن عشرتهم ويترفّق بهم.

وكان الوالد الرفيق الشفيق، الناصح المربّي، يرفق في تربيته، ويحسن في معاملته، ولا يكلّف أولاده شيئاً من التكاليف الشرعيّة إلاّ بعد أن يهيّئ لهم أحسن الأجواء النفسيّة والفكريّة والمادّيّة لأدائها.. ممّا يحبّب إليهم العمل بها، ويزيدهم محبّة لذلك الوالد في منهجه وأسلوبه..

وكان الجار المحسن لجيرانه، الباذل لمعروفه، يلقى جاره بالبشاشة والمودّة، ولا يمنع عنه خيره ورفده، وينصحه في دينه، ويغار على حرماته..

وكلّ ذلك في تواضع ليس فيه شيء من التصنّع أو التكلّف، وليس فيه شيء من العجب بالنفس أو الادّعاء..

وإنّ أجمع الأخلاق الإسلاميّة الحسنة: العفو والسماحة وسعة الصدر، ولين الجانب والتِماس العذر، ونجد مصداق ذلك في قول الله تعالى: { خُذِ العَفْوَ وَأمُرْ بِالعُرْفِ، وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ (199) } الأعراف. وكان الشيخ كثيراً ما يستشهد بالقول المأثور: " الصوفيّ لا يطالب ولا يحاسب ولا يعاتب " (ويقول بدل الصوفيّ: المؤمن)، ويتأكّد ذلك بين الإخوة والأحبّة، ولكنّ ذلك بحكمة حصيفة، تضع الشيء مواضعه ومواقعه، دون أن يكون الإنسان خِبّاً أو مغفّلاً..

وقد ربَّى أولاده بنين وبنات، على مثل هذه الأخلاق الكريمة.. إذ كان قدوة عمليّة لهم قبل كلّ شيء، ثمّ رعى هذه الأخلاق في سلوكهم وعلاقاتهم، وبخاصّة فيما بينهم، فما رأيت أسرة أشدّ محبّة وترابطاً، وألفة وتواصلاً بين أولادها من أسرته التي بناها..

وتجلّت أخلاقه النبويّة الزكيّة، في علاقته بتلامذته وإخوانه: لطفاً وظرفاً، وتودّداً وتواضعاً، وأدباً واحتراماً وتقديراً.. فكان لا يخاطب أحداً من تلامذته وإخوانه إلاّ بكلمة سيّد، ولو كان فتىً في مقتبل العمر.. ومنذ عرفته رحمه الله لا أذكر أنّه ناداني مرّة إلاّ بقوله: يا سيّد عبد المجيد.. وكنت في مثل سنّ بعض أبنائه..

وقد صحبه في رحلات الحجّ وأسفاره جمع كبير من طلاّب العلم، وزملائه الأساتذة وإخوانه، فرأوا العجب من دماثة خلقه، وحسن معشره، وخدمته لأصحابه في تلك الرحلة المباركة، ولو كانوا أصغر منه سنّاً، وكلّهم يجمع وتتّفق كلمته على أنّ تلك السفرة مع الشيخ كانت أفضل حجّة في حياته، وأعظمها بركة عليه..

حدّثني فضيلة الشيخ الدكتور عدنان السرمينيّ أنّه حظي بصحبة الشيخ في أوّل حجّة حجّها، فرأى من عناية الشيخ به، وخدمته له، ورفقه به، وحسن معشره ما لا ينساه أبداً، ولا يزال يذكره..

وحدّثني بعض الإخوة من طلاّب العلم عن فضيلة الشيخ الدكتور محمود ميرة أنّه صحبه في رحلة الحجّ، فمرض الشيخ محمود، وكان أصغر من الشيخ سنّاً، فحمله الشيخ على ظهره إلى المستشفى، واعتنى به كما يعتني الوالد بولده أو أكثر..

وكاتب هذه الأسطر قد حظي من ذلك بما لا ينساه في حياته، فقد أكرمني الله بصحبته في رحلة حجّي الأولى، فقضيت معه ليالي منى في مسجد الخيف، وكان المكان ضيّقاً، فآثرني به وبوسادته وغطائه، وبقي إلى الفجر ساهراً، وكنت أتقلّب في النوم، ويعلم الله ما بي من الحياء من الشيخ، فأسمعه يتلو القرآن تارة، وتارة أخرى يسبّح، وثالثة يدعو ويستغفر..

إنّ الدعوة إلى الله تعالى منهج عمل، وخطّة سلوك.. والداعية الناجح هو الذي يعيش دعوته بين الناس: يخالطهم، ويتّصل بهم، فيعظ ويذكّر، ويبشّر وينذر، ويحرص على إنقاذ الناس ممّا هم فيه من الجهل والغفلة، والوقوع في المعاصي والمنكرات، ولا يتأتّى ذلك إلاّ لمن تواضع لله عزّ وجلّ، وأحبّ عباد الله تعالى بكلّ صدق، وامتلأ قلبه بالرحمة بهم والشفقة عليهم، وكان له حظّ وافر من الصفة النبويّة الكريمة: " من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه ".

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالط أصحابه ويعايشهم، ويشاركهم فيما هم فيه، وليس بداعية إلى الله من احتجب عن الناس بأتباعه ومحبّيه، الذين يخدمونه، ويقضون مصالحه، ويقدّمونَ له الصورة التي يرونها هم عن المجتمع، وغالباً ما تكون صورة قاتمةً متشائمة..

وكم فيمن يسمّون اليوم دعاة من تسمع به فتحبّه لله، وترجو له كلّ خير وتوفيق، وخير لك أن تسمع به من أن تراه.! لما هو عليه من بعد عن الهدي النبويّ في أخلاقه وسلوكه..

وكم فيمن يسمّون دعاة من تراه من بعيد، أو تسمع به فتحبّه، ثمّ تخالطه من قريب، فتنفر منه وتجفوه.!

فأين أصبحت الدعوة في حياة هؤلاء وسيرتهم وسلوكهم.؟! وكم محنتها بهم عظيمة.؟!

وقد كان الشيخ يتّصل بالناس ويباينهم، يتّصل بهم في أعماله ومصالحه التي يقوم بها بنفسه، فيدخل السوق، ويشتري ما يلزمه، ويحمل ذلك بنفسه، وينصح ويذكّر، ويدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، ويباين الناس فلا يجالسهم على لهوهم وباطلهم، ويقرّ على منكر، ولا يسكت عنه..

اشترى مرّة من جزّار لم يعتد الشراء منه، فلم يفارق دكّانه حتّى نصح بعض النصائح، ثمّ دعاه إلى زيارتِه في المسْجد، وحضور دَرس الجمعَة، فحضر الدرس، وكانَ من وراء ذلك توبته واستقامته، فكان يقول لنا بحسرة: " ليت الشيخ اشترى منّي من سنين، لقد اشترى منّي عدد من المشايخ، ولم أسمع من أحد منهم نصيحة أو كلمة عن الدين.! ".

كما كان قريباً من إخوانه كباراً وصغاراً، يباسطهم ويمازحهم، ويتعرّف على أحوالهم وظروفهم، ويتابع أخبارهم وشئونهم، ويقدّم لهم العون المادّيّ والمعنويّ، ولا يحجبه عنهم شيء، ولا يحجبهم عنه شيء.. ويتّخذ معهم من الأساليب التربويّة والدعويّة ما يبني شخصيّتهم الإسلاميّة بناء محكماً قويّاً، ويؤهّلهم لحمل الدعوة والانطلاق بها..

وممّا يتّصل بأخلاقه العمليّة بسبب وثيق: ما كان يبتكره رحمه الله من أساليب تربويّة تشدّ إخوانه للدعوة، وتحملهم على التفاعل مع همومها وشئونها، وتغرس فيهم الثقة بالنفس، والاجتهاد في التفكير، وبذل ما يستطاع من الجهد دائماً..

فمن الأساليب التربويّة المتميّزة، التي كان يتّبعها مع إخوانه: أن يشاركوا في الفكرَة، التي يريد بثّها فيهم وتثبِيتها، سواء أكانت فكرة علميّة أم دعويّة، فالمشاركة فيها خير ما يعين الأخ على التفاعل والاستجابَة، وترسيخ الفكرة وتثبِيتها في النفس، فمنْ ذلك أنّه حدّثنا في بعض المخيّمات عن الأسباب والأساليب والوسائل، التي تفيد في الدعوة، وتؤثّر في الناس، وبيّنَ لنا أنّها كثيرة متنوّعة، واسعة متشعّبة، ومنها الإيجابيّ والسلبيّ، وعَدّد لنا نمَاذجَ منها، ثمّ طلب من الإخوة جميعاً أن يفكّروا ويَكتبوا ما يخطرُ لهم " ممّا يفيد في الدعوة "، وحدّد لنا موْعداً لذلكَ، وقَال لنا: إنّه واجب مثل واجب المدرسة.. وجدّ الشبَاب في هذا الأمرِ واجتهدوا، ثمّ التقَينا في الموعد المحدّد، وأدلى كلّ بما عندَه، وكنّا نحسب أنّ الشيخَ ستكون مهمّته كمهمّة المعلّم، يصحّح واجباتِ طلاّبه المدرسيّة، ولكنّه كتب أكثر ممّا كتب أيٌّ منّا، فجمع ما كتبناه إلى ما كتبه، ثمّ حَذف المكرّر، فكان مجموع ذلك أكثر مِن ثمانين نقطة، أملاها علينا بعد ذلك في مجلس: " تذكير وتحذير " تعميماً للفائدة على جميع إخوانِه، وحثّنا في حديثه على الأخذ بها في حياتنا كلّها.

ومن أساليبه التربويّة المبتكرة: إشعار الطفل والطفلة بأهمّيّة ما وصلوا إليه من مرحلة التمييز، إذ أمر الشرع الحكيم بأمرهم بالصلاة، عندما يبلغون سنّ السابعة من العمر، وتؤمر الفتاة ب الحجاب، تحبيباً لها به وتعويداً، وتنمية لفطرة الحياء واستبقاءً لها.. وخير ما يشعر الطفل والطفلة بأهمّيّة بالصلاة والحجاب أن يقام لهم احتفال أسري، يدعى إليه الأقارب والأصحاب، والأتراب من الأطفال، ويصلّي الطفل أو الطفلة أمامهم، وتقدّم له الهدايا بهذه المناسبة، ويشجّع بما يسمع من الكلمات الطيّبة، فلا تزال ذكرى ذلك ماثلة في نفسه لا تنسى.! وهل يعقل أن يظنّ بمثل هذا الطفل أو الطفلة أن يتركوا الصلاة بعد ذلك، أو يتقاعسوا عن أدائها.؟

وهل يمكن أن يؤثّر المجتمع بضغوطه المختلفة، وعادات أهله المختلّة، على نفسيّة الفتاة، فتترك الحجاب، أو تنفر من الالتزام به.؟

إنّ مشكلة أكثر المسلمين اليوم: أنّهم يهملون تربية أولادهم على أحكام الإسلام وآدابه منذ الصغر، فينشئون على عوج، ويستحلي الآخرون ذلك منهم، ويظهرون لهم الإعجاب به، فيحبّب إليهم، ويستهوي أنفسهم، فيصعب عليهم تركه والتخلّي عنه عند الكبر..

ومن الأساليب التربويّة المتميّزة، التي اتّبعها مع إخوانه: مَا بَعثه في نفوسهم من الحرص على اتّخاذِ عملٍ، يرجى لهُ أن يكون منجياً بإذن الله، فقد ذكرَ لنا في أحد المخيّمات ما رُوي في الأثر أنَّ الله تعَالى قال لموسى عليه السلام: يا موسى ! ماذا عملت لي ؟ قال: يا ربّ ! صلّيتُ وصمتُ وتصدّقتُ.. وعملتُ كذا وكذا ! فقال الله: يا موسى هذا لك، فماذا عملت لي ؟ قال: وماذا أعمل لك يا ربّ ؟! قال: هلْ واليتَ فيّ وليّاً ؟ وهل عاديتَ فيّ عدوّاً ؟ ".

فقال لنا الشيخ: " يستفاد من هذه الرواية أنّه يستحبّ للمؤمن أن يتّخذ عملاً صالحاً خالصاً لله تعالى، يرجو به أن يكون سبب نجاته وعتقه من النار يَوم القيامة، وقد كان كثير من السلف يفعلُون ذلك فحاسبوا أنفسكم، وفكّروا في عمل يكون لكم كذلكَ "، وضرب لنا موعداً، وعندما التقينا ذكر كُلّ أخٍ ما يرى من العمل الذي يرجو به نجاته، فمنّا من قال.. ومنّا من قال.. وعندما انتهينا، قال لنا الشيخ: " وأنا أرجو أن يكونَ الحبّ في الله، والبغضُ في الله، سببَ نجاتي يوم القيامة ! ".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين