الأخذ بالعزائم منهج القدوات (1)

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: فقد أنزل الله الشرائع وأمر رسله وأنبياءَه بتبليغها للناس وحثِّهم على تطبيقها والامتثال لها، ولئلا يظنَّ ظانٌّ أن هذه الشرائع مجرَّد معلومات وأحكام نظرية أو أنها غير قابلة للتطبيق؛ قام الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- بترجمة هذه الشرائع في سلوكهم وتصرفاتهم لتسهيل فهْمِ هذه الشريعة ورؤيتها واقعًا حيًّا أمام أنظار الناس، إعذارًا لهم لئلا تكون لهم حجة في الإعراض عنها أو عدم العمل بها، فأمرنا الله عزَّ وجلَّ بالاقتداء بأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا} [الأحزاب: 21]، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] والعلماء ورثة الأنبياء في أداء هذه المهمة والقيام بها، فنحن مأمورون باتباعهم والاقتداء بهم، وهؤلاء هم الأشخاص المقتدَى بهم المقصودون في هذا البحث، قال الشاطبي: "وقد ثبت في الأصول أن العالم في الناس قائم مقام النبي عليه الصلاة والسلام، والعلماء ورثة الأنبياء، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره كذلك وارثه يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره"(1).

والنفس البشرية إما أن تؤثِّر وإما أن تتأثَّر، ولن تخرج عن هاتين الحالتين، يقول الإمام الغزالي: "الطباع مجبولة على التشبُّه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرِّك الحرص، ومجالسة الزاهد تزهِّدُ في الدنيا؛ فلذلك تكره صحبة طلَّاب الدنيا ويستحبُّ صحبة الراغبين في الآخرة"(2)، ويقول الإمام الشاطبي: "التَّأَسِّيَ بِالْأَفْعَالِ- بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُعظَّم فِي النَّاسِ- سِرٌّ مَبْثُوثٌ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهُ بِوَجْهٍ وَلَا بِحَالٍ"(3)، فعملية الاقتداء ليست حالة طارئة قد تحصل وقد لا تحصل، بل هي غريزة فطرية مغروسة في النفس البشرية، يغذِّيها ما طُبِعَ عليه الإنسان من التأثير والتأثُّر بين المقتدِي والمقتدَى به سواء كان رئيسًا أو مرؤوسًا، فحاجة الناس إلى القدوة نابعة من هذه الغريزة التي تعبِّر عن رغبة الإنسان في المحاكاة والاستعداد النفسي للتقليد، وهي رغبة ملحَّة تدفع الطفل والضعيف والمرؤوس إلى محاكاة سلوك الرجل والقوي والرئيس، وسبب هذه الرغبة -كما أوضحنا- الحقيقة الثابتة ألا وهي: "تأثير الطباع في الطباع".

عندما يصبح الإنسان قدوة للآخرين ينظرون إلى أفعاله ويراقبون تصرُّفاته ويُحاكون سلوكه، فينبغي أن يدرك عِظَم هذه المسؤولية وأهميتها وأثرها، فأَنْ تكون قدوة هذا يعني أنَّ تكليفًا خاصًّا جديدًا أُلقيَ على عاتقكَ، فإنْ لم تكن أهلًا لهذه المسؤولية فلا تتصدَّر لها، نعم إنَّ من يملك مؤهِّلات القدوة الحسنة ومن لا يملكها سواءٌ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لكنهما يفترقان بِالتَّكْلِيفِ اللَّائِقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ومما يفترقان فيه العمل بالعزيمة والرخصة.

المطلب الأول: مشروعية تخصيص المقتدَى به ببعض الأحكام في الاجتهاد التنزيلي

إنَّ الباحث في ثنايا التشريع الإسلامي وفروعه وجزئياته يجد بما لا يدع مجالًا للشك أن الفقهاء والمجتهدين قد لاحظوا الشخص المقتدَى به أثناء الاجتهاد وتنزيل الأحكام، وخصُّوه بمزيد من التكاليف التي تتناسب مع مكانته وموقعه وأثره في المجتمع، فهذا المعنى كان حاضرًا في أذهان المجتهدين عند تنزيل الأحكام على الوقائع وتكييفها، والأمثلة على هذه الرعايةِ كثيرة، أذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر:

*ما رويَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ: «أُخْبِرْتُ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ -رضي الله عنه- رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ نَهْيِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَأَتَاهُ عُمَرُ، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ تَمِيمٌ أَنِ اجْلِسْ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، فَجَلَسَ عُمَرُ حَتَّى فَرَغَ تَمِيمٌ، فَقَالَ لِعُمَرَ: لِمَ ضَرَبْتَنِي؟ قَالَ: لِأَنَّكَ رَكَعْتَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَدْ نَهَيْتُ عَنْهُمَا، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ صَلَّيْتُهَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَيْسَ بِي إِيَّاكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ حَتَّى يَمُرُّوا بِالسَّاعَةِ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا كَمَا يُصَلُّوا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: قَدْ رَأَيْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا يُصَلُّونَ بَعْدَ الْعَصْرِ»(4).

نظرَ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى تميم الداري نظرة اجتهادية خاصة، وحمَّلَهُ من التكليف ما يليق به بوصفه قدوةً للآخرين إذ أوجب عليه ما لم يوجبه على بقية الناس، ونهاه عن الركعتين بعد العصر حتى لا يقتدِي به مَنْ لا علم عنده، خشية أن يصلِّي بعد العصر أولًا ثم يستمرَّ به الحال ويتمادى بعد ذلك فيصلِّي في الوقت المنهي عنه، وعندما ضربه بالدرة أوضح له أنه لم يضربه لسبب متعلِّق بذاته حيث قال: "إِنِّي لَيْسَ بِي إِيَّاكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ"، يعني أنا لا أقصدكم أنتم بالذات ولكن أقصد الذين يقتدون بكم، فأنتم موضع للاقتداء، ولو كان بقية الناس مثلك -يا تميم الداري- في مرتبة القدوة يميّزون بين أوقات الكراهة وغيرها ويضبطون ذلك مثلك، لَمَا ضربتك ونهيتك عن الصلاة في هذا الوقت، وهذا ما صرَّح به عمر بن الخطَّاب كما في رواية الإمام أحمد التي جاء فيها: "خَرَجَ عُمَرُ عَلَى النَّاسِ يَضْرِبُهُمْ عَلَى السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، حَتَّى مَرَّ بِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَقَالَ: "لَا أَدَعُهُمَا، صَلَّيْتُهُمَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فَقَالَ عُمَرُ: "إِنَّ النَّاسَ لَوْ كَانُوا كَهَيْئَتِكَ لَمْ أُبَالِ"(5).

خرج هذا النهي على سبيل قطع الذريعة؛ فلو رُخِّص في النافلة بعد العصر لم يؤْمَن التمادي فيها إلى اصفرار الشمس وغروبها، ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد عن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ رَآهُ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ -وَهُوَ خَلِيفَةٌ- رَكَعَ بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ، فَمَشَى إِلَيْهِ، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَهُوَ يُصَلِّي كَمَا هُوَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ زَيْدٌ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَاللهِ لَا أَدَعُهُمَا أَبَدًا بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا" قَالَ: فَجَلَسَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: "يَا زَيْدُ بْنَ خَالِدٍ، لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُلَّمًا إِلَى الصَّلَاةِ حَتَّى اللَّيْلِ لَمْ أَضْرِبْ فِيهِمَا"(6).

*ومن هذا الباب ما ذكره الشاطبي من ضرورة تركِ المقتدَى به لبعض المندوبات في بعض الأوقات خشية أن يظنَّ العوام وجوبها، فقال: "لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبةً يفهمُ الجاهلُ منها الوجوب إذا كان منظورا إليه مرموقًا أو مظنَّةً لذلك، بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يُعلَم أنها غير واجبة؛ لأنَّ خاصية الواجب المكرَّر الالتزام والدوام عليه في أوقاته بحيث لا يتخلَّف عنه كما أنَّ خاصيّة المندوب عدم الالتزام، فإذا التزمه فَهِمَ الناظرُ منه نفس الخاصيَّة التي للواجب فَحَمَلَهُ على الوجوب، ثمَّ استمرَّ على ذلكَ فَضَلَّ"(7).

*وجاء في القاعدة الثامنة والسبعين من قواعد المقرِّي: "يتأكَّد أمرُ المندوب في حقِّ مَن يُقتدَى به على الصحيح، فإن أمِنَ الاطِّلاع فقولان، والتأكيد لئلا يُطَّلع عليه كما قال مالك في الفطر إذا لم يثبت العيد، أو لئلا يترك حيث يُطَّلع(8)، وعن مالك: لا أحبّ المرَّةَ إلا من العالِم(9)، وظاهره مخالفة القاعدة، وعنه: لا أحبّها من العالم، وهو وفاق القاعدة"(10).

المصدر: مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري، العدد الثامن. 

يتبع...

(1) الشاطبي، إبراهيم بن موسى، "الاعتصام"، 2/597.

(2) أبو حامد الغزالي، "إحياء علوم الدين"، (بيروت: دار المعرفة)، 2: 173.

(3) الشاطبي، "الموافقات في أصول الفقه"، 5: 262.

(4) رواه الطبراني في المعجم الأوسط ((8684)).

(5) رواه الإمام أحمد في مسنده ((16943))، وقد رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح في الكبير والأوسط." انظر: (الهيثمي، "مجمع الزوائد"، 2: 222).

(6) رواه الإمام أحمد في مسنده ((17036)) وإسناده حسن، انظر: (الهيثمي، "مجمع الزوائد"، 2: 223).

(7) الشاطبي، "الموافقات في أصول الشريعة"، 2: 222.

(8) يشير بهذا إلى المسألة الفقهية المشهورة، وهي: "مَن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر، سواءٌ أمِنَ أن يطَّلِع عليه أحدٌ أم لا"، وهذا حماية للذريعة لئلا يطلع عليه غيره فيفطر. انظر: القرافي، أحمد بن إدريس، "الذخيرة". 2/492.

(9) مقصوده من "المرَّة" هنا: غسل أعضاء الوضوء مرَّةً مرَّة دون زيادة، وقد نُقِلَ عن الإمام مالك أنه قال في غسل أعضاء الوضوء مرَّة واحدة: "لا أحب ذلك إلا من العالِم"، يريد بذلك أنَّ غير العالِم لا يحسن الإسباغ، انظر: اللخمي، علي بن محمد الربعي، "التبصرة"، 1/9).

(10) المقرِّي، أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد، "القواعد"، تحقيق: أحمد بن عبد الله بن حميد، السعودية: معهد البحوث 

العلمية وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى"، ص: 303.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين