من عادة الثورات أن تصبغ الحياة بلونها، فتكون الثورة في نظر أبنائها اللون الأبيض بكل فضائله وميزاته، ويكون الاستبداد هو الأسود القاتم بكل مساوئه، وما عدا ذلك من الألوان يُسمى رماديا بغض النظر عن حقيقة لونه وذاته.
وإذ كانت الثورة السورية نوعا من رفض المظلومين لسلطة الظالم وعتوه وفساده، فقد حُق لمن آمن بها أن يراها الفضيلة بكل تجلياتها، ويرى النظام المجرم رذيلة بكل قباحاتها، وبما أن كلا من المظلوم والظالم يخوض معركة البقاء أو الفناء في بلادنا؛ فقد أطلق كل منهما لقب "الرماديين" على من لم يؤيده في مشروعه مع الفارق الكبير بين مشروع انطلق لأجل الحق –وإن أخطأ الطريق- وآخر قام على باطل وضحى ببلد وشرَّد أمة وإن رآه بعض الغافلين أنه أحسن الطريق.
هذا هو الواقع الذي تعيشه الأمم زمن الحروب، ولكن هذا لا يعني أبدا أن تستمر الحرب بصبغ حياتنا بلونها، فنعمى عن كل لون سوى الأبيض والأسود والرمادي. لقد خلق الله لنا الألوان كلها لأننا بحاجة إليها، ووجد الإنسان لكل لون منها درجات تتفاوت قتامة وسطوعا أو وضوحا وخفوتا حتى بلغت المئات، فنجد للأسود درجات وللأبيض كذلك وللبرتقالي والأحمر والأزرق عشرات التجليات، وكلما زاد التعامل مع درجات الألوان في أمة ما؛ كان ذلك أكثر دلالة على تطور المجتمع وثقافته.
من هو الشيخ فتحي الصافي؟
إن الشيخ فتحي كان شابا مسرفا على نفسه ثم تاب ودرس علوم الشرع وغدا داعية ومدرسا في بعض مساجد دمشق ومدارسها، وحينما بدأت الثورة السورية كان من الأشخاص الذين لم يؤيدوها كما لم يؤيد الأسد، وقضى بقية حياته في مدينة دمشق لم يتغير عما كان عليه قبلها، اشتهر في الفترة الأخيرة بأسلوبه الكوميدي بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي، وتوفي منذ أيام فانقسم الناس في شأنه تبعا للالتزام الثوري بألوان الحياة الثلاثة أو الالتزام الطبيعي بتعدد الألوان وتدرجها، وكان طبيعيا لهم أن يختلفوا.
الذين يعيشون في مناطق الأسد:
إننا إذا ما طبقنا قانون الألوان الطبيعي على من يعيشون في مناطق النظام سنجدهم درجات، أسوؤها الذين يؤيدونه في ظلمه وبغيه ويبررون كل حماقاته كالمفتي أحمد حسون، والوزير عبد الستار السيد ومعظم قادة عصابات الأسد وميليشياته، وآخرون على طريقهم ولكنهم أقل منهم نفاقا أو ضلالا يؤيدون الأسد طمعا في مال أو منصب أو لا يعرفون أصلا لماذا هم في جيشه. وهؤلاء يمثلون اللون الأسود بأقبح مظاهره.
وهناك فئة التزمت الحياد على كره للثورة وميل للأسد، وفئة ثانية صمتت واعتزلت ولكن على كره للأسد وتأييد للثورة، وآخرون التزموا بيوتهم ولم يروا فضلا لأحد من الثوار أو النظام على الآخر، وهؤلاء الثلاثة رماديون في عقيدة كل من الثوار وميليشيا الأسد، تبعا للتجاذبات التي تفرضها حروب الوجود أو الفناء.
حقيقة الشيخ الصافي:
إن الشيخ فتحي الصافي قد قدم أسلوبا جديدا في الدعوة يحمل الثقافة التي انطلق منها جاء من طبقة الأزقة الخلفية في مجتمعنا وبقي خطابه يتوجه إليهم بتلقائية بالغة، وقد اشتهر في وقت كان الناس فيه بحاجة إلى مثل هذا الخطاب، فالحرب قد طالت وشعبنا قد مل نمط الخطاب المتكرر الذي أغلق الأفق أمام عينيه، دعاة مرتزقة يكررون أسطوانة الأسد المقززة ويسخّرون الدين لها، وآخرون معارضون يكررون ما قاله أول متظاهر في الثورة لم يأتوا بجديد ولن يفعلوا يوما.
وهذا سر اشتهار الشيخ الصافي لقد كان شكلا جديدا في حياة الناس وداعية ناجحا يجذب الناس بحديثه وتلقائيته.
انتقادات على الشيخ فتحي:
لم يؤيد الشيخ فتحي نظام الأسد وإن كان –يبدو- أنه يتخذ موقفا سلبيا من الثورة، ومجمل ما انتقده الناس عليه كلمتان وموقفان سأعرض لها بقليل من التفصيل والتحليل.
أما الكلمتان فحديثه عن الحرية وحديثه عن أقاربه المجندين في جيش الأسد.
الحرية:
أما حديثه عن الحرية فقد كان في معرض الحديث عن عموم الانفلات الذي ضرب المجتمع، ولم يكن موجها كنقد للثورة، ولكن الكلمة ملك لقائلها ما لم ينطق بها فإن نطق بها ملكته، وإن استخدامه لكلمة "حرية" في معرض الاستهزاء، -وقد كانت شعارا لطلب حق المظلوم من الظالم- لم يكن موفقا أبدا.
أولادي في الجيش:
وأما حديثه عن أولاده وأولاد أخيه في جيش الأسد فقد كان حديثا عن واقع كل من يعيش في مناطق النظام سواء كان مؤيدا بقلبه للأسد أو الثورة ولم يكن للحث على نصرة الأسد والنفاق له، ولكن على الداعية أو معلم الناس أن يزن كلامه، لأنه قد يبلغ أكثر مما أراد منه وقد يكون ذريعة لظلم بريء وتبريرا لقاتل.
موقفان للشيخ فتحي:
يقولون: الإنسان موقف، فموقف واحد قد يحفظ على الإنسان شرفه وسمعته وآخر يهوي به ويحرقه، والشيخ الصافي أخذ عليه موقفان:
الأول: صورة وزير الأوقاف معه، والآخر: ظهوره على قناة سما إحدى الفضائيات التي تسوق ثقافة إجرام نظام الأسد.
أما صورته المنتشرة مع وزير الأوقاف فلا أعتقد أنه يلام عليها، وهل يجرؤ إنسان يعيش في سجن الأسد –المُسمى سوريا- أن يرُدَّ زيارة وزير الأوقاف أو دعوته له، أو هل يقدر على منعه من التقاط صورة مع داعية شهير له سمعته بين الناس؟
وأما ظهوره على قناة سما فلا مبرر له أبدا، كيف يظهر الإنسان على فضائية تسوق الفسق والفجور وتبرر القتل وتشرعن بيع البلد للأجنبي وتمثل ثقافة طاغية مجرم شرد نصف شعبه؟
نعم قد يجد الإنسان مسوغا للشيخ بأنه لا يملك خيارا لدفع ما عرض عليه بحكم جلوسه في مناطق الأسد، أو أنه اجتهد واعتقد أن ظهوره على إحدى الفضائيات قد يبلِّغ كلامه إلى بعض من لا يدخل المساجد فيهتدي، ولكن كما قال العقلاء الإنسان موقف، والشيخ قد وضع نفسه في موقف لا يحسد عليه.
وهنا أود التنبيه على أمرين:
الأول: الرجل داعية بسيط جذب الناس بأسلوبه وجدد في أسلوب الخطاب الديني وإن كان البعض يرفض أسلوبه. لقد كان أسلوبه أقرب إلى قلوب العامة من كثير من فلاسفة العصر وقادة الأمة من رجال دين وسياسة، وقد كان قريبا إلى حياة الناس يعلمهم أحكام الدين والأخلاق والفضائل بقدر ما يسمح به الظرف الذي يعيشه.
وقد كان من أهل الاجتهاد فهو رغم طلبه العلم على كبر سنٍ؛ قد اجتهد وكتب بعض الكتيبات أحدها في التحذير من الخرافات التي نشأت حول مسجد الأربعين بسبب بعض المشايخ الدجالين.
وعموما فإن محاسن الرجل أكثر من أخطائه؛ رغم أن كلماته وأخطائه التي أخذت عليه لا يمكن تجاوزها، والإنسان العاقل يحكم على الإنسان من مجموع ما بدر منه وليس من موقف واحد، ولكن العامة تميل إلى الحكم على الناس من كلمة أو موقف، وإلى هذا يميل بعض أهل العلم والفكر زمن الحروب.
الثاني: الشيخ واعظ فقط، ويحمل علما لا بأس به ككثير من أئمة المساجد، وهو لم يعدُ صفة داعية شعبي، ولكن بعض طلاب العلم البسطاء وبعض العامة أطلق عليه من الألقاب ما ليس فيه، كقولهم "شيخ الدعاة" و "المربي" و "خير الرعاة" و "بسمة قلب كل طالب علم" وتحدث الكثيرون عن "السر الرحماني" الذي يحمله حتى أحبه الناس بهذه الطريقة.. وما هذه الأوصاف الرنانة وما هذا الحديث عن الأسرار العجيبة إلا شكل من أشكال تخلف مجتمعاتنا وجهلها.
عندما يخلو المجتمع من العلم ويحرم طالب العلم من الفهم تصبح الألقاب الفارغة نوعا من العلم وشكلا من أشكال الفهم المصطنع والبلاغة الباردة، وهي نوع من النفاق للعامة ودغدغة مشاعرهم لا يختلف كثيرا عن النفاق للسلطان، وعلى الكاتب والمفكر الحر أو طالب العلم المخلص أن يلزم نفسه الصراط المستقيم، ولا تستخفنه أحلام العامة ولا أكاذيب السلاطين.
ختاما:
ما أخطأ من تكلم عن أخطاء الشيخ بدافع الغيرة على دمائنا التي أريقت على يد الطغاة، فإن كلامهم نوع من الغضب للحق، وهو مظهر من مظاهر ألوان الثورة الثلاثة: الأبيض والأسود والرمادي، وهي وإن كانت غير صالحة للحكم على عموم الناس؛ إلا أنها تمثل نوعا من الانحياز الأخلاقي إلى المظلوم ضد من ظلمه أو خذله، وهذا في حد ذاته فضيلة ما لم يصل إلى شتم الأموات والوقيعة فيهم بما لا ليس فيهم.
ومن ترحم على الشيخ ودعا له بالمغفرة؛ فقد ترحم على ما بدا منه من صفاء وحسن دعوة للدين وبشاشة وجه، وهو لم يخطئ بذلك، إذ لم يترحم عليه إلا انحيازا إلى الدين وأهله.
وقد لامني بعض الإخوة على ترحمي عليه رغم أنني ذقت في سجون النظام ما يفوق الموت سوءا على يد جيش الأسد الذي يخدم فيه أقارب الشيخ، وإن كنت أحترم رأيهم فإن قناعتي في مثل هذه المواقف وفي الشيخ الصافي ما ذكرته؛ أترحم عليه لما له من فضائل ولا أبرر له ما أخطأ فيه، وأكره الفارغين الذين يصنعون من كل داعية بسيط رمزا للعلم والحكمة، ومن كل قائد مسكين رمزا للقوة، ومن كل خائن منافق رمزا للمقاومة والشرف.
وأما بالنسبة لقضية الألوان وتدرجها فهي قانون لازم للحياة لا تصلح إلا به، ومن الجيد للإنسان أن يلزم نفسه بقانون الأبيض والأسود ليعيش نقيا طاهرا بمبادئه لا يداهن فيها ولا يهادن ولا يتلون، ولكن ليس من الحكمة أو العدل أن يتخذ من هذا القانون سيفا يسلطه على رقاب العباد فالناس مذاهب والدنيا طرائق والمرجع إلى الله.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول