الآثار الثقافية للحروب الصليبية

 

كانت “حروب الفرنج” التي عُرفت اصطلاحاً باسم “الحروب الصليبية” صداماً عسكرياً، ومواجهة حضارية طويلة ومضنية بين الشرق العربي الإسلامي والغرب الأوروبي الكاثوليكي. وبدأت هذه المواجهة في وقت كانت الحضارة العربية الإسلامية قد بلغت أقصى مراحل نضجها وتطورها القرن الخامس – السادس الهجري / 11 – 12 م على رغم حال التشرذم والتفكك السياسي الذي يسّر على الصليبيين مهمتهم. وفي خضم المواجهة تجلت عوامل ضعف العالم العربي الإسلامي وتجلت، في الوقت نفسه، عوامل القوة التي ساعدته على الصمود أمام “الغزو الصليبي” والانتصار عليه.

وفي رأينا أن “الحروب الصليبية” التي استمرت أدوارها النشطة أكثر من قرنين من الزمان، استنزفت قوى الدفع الإبداعية في الحضارة العربية الإسلامية. إذ كان على العالم العربي أن يشحذ طاقاته وإمكاناته البشرية والاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية جميعاً في مجال العمل العسكري، أو العمل الثقافي والدعائي المصاحب للحرب. وهكذا، تعين على المنطقة العربية أن تعيد صياغة أسلوب حياتها برمته على أساس أن الحرب هي محور هذه الحياة.

لقد أعادت المنطقة العربية صياغة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكي تتمكن من مواجهة الخطر الداهم الذي يمثله الاستيطان الصليبي وظهيره الأوروبي المساند. وأدى هذا إلى عسكرة نظام الحكم من ناحية، وفرض القيود على النشاط الثقافي من ناحية أخرى. بيد أن هذا لا يعني أن العالم العربي كان بدأ رحلة التدهور والأفول، إذ كان المستقبل لا يزال يخبّئ بعضاً من أهم إنجازات الحضارة العربية الإسلامية الاقتصادية والعسكرية والثقافية.

وتهتم هذه الورقة برصد تأثير الحروب الصليبية في مجال الفكر والثقافة. وهي تهتم بالثقافة في معناها الحقيقي الشامل، الذي يعني آداب المجتمع وفنونه، نظامه القيمي والأخلاقي، عاداته وتقاليده، مثله وفلسفته التي دارت حولها أشكال التعبير الفكري والإبداع الأدبي والفني التي تضمنتها الفنون التشكيلية منها والقولية، والفردية منها والشعبية.

وينبغي أن نلاحظ أن النتائج والآثار الثقافية للحروب الصليبية لم تظهر بسرعة، ولم يواجهها المجتمع العربي في الوقت الذي كان يتصدى للآلة العسكرية الصليبية. فمن المؤكد أن النتائج والآثار الفكرية والثقافية التي تنتج عن الحروب في مجتمع ما لا تظهر بين عشية وضحاها، كما أنها لا تختفي حالما تضع الحرب أوزارها. ولكن هذه المؤثرات تتخذ شكل تيار اجتماعي – ثقافي خفي ولكنه مستمر وصاعد، بحيث يتبلور من خلال الأفكار السائدة في المجتمع، ومن خلال إبداعات أبناء هذا المجتمع في فنونه وآدابه، سواء منها الإنتاج المكتوب، أو ذلك التيار الشعبي مجهول المؤلف الذي يُعبر عنه عادة بالآداب والفنون الشعبية.

لقد اقتضت المواجهة العسكرية ضد الصليبيين بذل الجهود لتوحيد الجبهة العربية الإسلامية. واقترنت هذه الجهود بجهود أخرى على المستوى الثقافي لإعادة نشر المذهب السنّي وتأسيس المدارس لدعمه. وكان فشل الخلافة الفاطمية الشيعية في فهم حقيقة الحركة الصليبية من ناحية، ثم إخفاق هذه الدولة في جهودها العسكرية ضد الفرنج الصليبيين من ناحية أخرى، من أهم عوامل بروز الجهود السنّية على محور الموصل – حلب.

وأسس صلاح الدين الأيوبي المدارس السنّية في بيت المقدس، وبلاد الشام وفي القاهرة والإسكندرية لدعم المذهب السنّي، ثم قرن ذلك بتقريب علماء السنّة الذين كان عليهم عبء شحن روح الجهاد والحماسة في نفوس المسلمين من أجل الدفاع عن بلادهم وحضارتهم ضد العدوان الصليبي.

ومن بين هؤلاء العلماء خرج “أرباب الأقلام” الذين تولوا الوظائف العليا في إدارة الدولة الأيوبية، وخرج القضاة والمدرسون الذين كانوا يعقدون حلقات دروسهم في أروقة المدارس السنّية التي انتشرت في كل مكان. ويغلب على الظن أن الدولة كانت تقرب أولئك العلماء بسبب نفوذهم الواسع على عامة الناس. بل إن صلاح الدين الأيوبي نفسه كان شديد الولع بعلوم الدين، وكان يذهب بنفسه لسماع الدروس من أفواه أشهر العلماء. وكانت حاشية السلطان صلاح الدين الأيوبي تضم عدداً من العلماء منهم: القاضي الفاضل، والعماد الأصفهاني، والقاضي بهاء الدين بن شداد وغيرهم. فقد كان صلاح الدين مهتماً بإعادة نشر المذهب السنّي في ربوع دولته المترامية الأطراف، ومن ثم فإنه قاوم أية محاولة تصور أنها يمكن أن تعوق حركته في هذا الاتجاه، الذي كان يعتقد أنه طريق التعبئة المعنوية اللازم لضرب الوجود الصليبي على الأرض العربية. وربما يمكن تفسير قتل الفيلسوف “السهروردي المقتول”، بأمر من صلاح الدين وبفتوى من علماء حلب، في ضوء حماسة هذا السلطان الغامرة للمذهب السني، كما يمكن أن نفسر بيع مكتبة القاهرة الفاطمية بالأسباب نفسها. وذكر المؤرخ أبو شامة الروضتين، ح1، ص268 بأنه تم تخصيص يومين في الأسبوع لبيع الكتب في القصر بأرخص الأثمان، وذكر أن عددها كان يربو على مئة ألف كتاب، “وكان فيها من الكتب الكبار وتواريخ الأمصار، ومصنفات الأخبار، ما يشتمل كل كتاب على خمسين أو ستين جزءاً، إذا فقد منها جزء لا يخلف أبداً..”.

وعلى رغم أن البعض يلتمس العذر لصلاح الدين الأيوبي في هذين الإجراءين، فإن ذلك لا ينفي أن ما فعله السلطان كانت له آثار بعيدة المدى في جنوح الحياة الفكرية والثقافية إلى المحافظة ونبذ روح التجديد والإبداع.

وهكذا، كانت النشاطات الفكرية والثقافية في القرن السادس الهجري – الثاني عشر الميلادي مرآة صادقة تعكس حال الحضارة العربية الإسلامية آنذاك. ذلك أنه باستثناء الإمام الغزالي، لم يشهد ذلك القرن مفكراً مبدعاً من الطراز الذي عرفته القرون السابقة في تاريخ الثقافة والفكر العربي- الإسلامي، بل إن الغزالي نفسه كان دارساً للفلسفة، بيد أنه استخدم دراسته في هدم الفلسفة، على حد تعبير أحد الباحثين.

وعموماً كان الاتجاه العام للتيارات الفكرية في ذلك الحين يسير نحو تأمل ما أنجزه السابقون ومحاولة شرحه أو تجميعه.

وفي تقديرنا أن هذا كان يعكس حال حضارة وصلت إلى أقصى نمو وتطور، وعندما بدأت تستقر لتجني ثمار انجازاتها الثقافية والفكرية فوجئت بهجوم الصليبيين الذين كانوا يمثلون حضارة أخرى يهددون وجودها ذاته. ولذلك صار النشاط الفكري والثقافي في القرن السادس الهجري موجهاً نحو الحفاظ على التراث الرائع لهذه الحضارة أكثر منه نحو المشاركة في إثراء هذا التراث. ولم تبد في هذا القرن بادرة حقيقية تدل على الإبداع والتجديد اللذين ميّزا الحركة الثقافية العربية الإسلامية قبل هذا القرن، وبعده، مؤلفات ضخمة ذات طبيعة موسوعية، أو شروح وتفسيرات جامعة، أو كتب تبسط العلوم وتشرحها وتختصرها مثل: تفسير القرآن الكبير للفخر الرازي، وكتاب “المبسوط” للسرخسي، و”بدائع الصنائع” في الفقه للكاشاني، وما إلى ذلك.

ومثلما ورث سلاطين المماليك مُلك الأيوبيين ومسؤولياتهم العسكرية والسياسية في التصدي للصليبيين، ورثوا عنهم الاتجاه الفكري والثقافي. إذ ازداد اعتماد أولئك السلاطين على أهل العمامة من الفقهاء والعلماء باعتبارهم واجهة الشرعية للحكم، وتزايد الاتجاه المحافظ في الفكر والتأليف والثقافة رسوخاً. بل إن مفكراً سلفياً مثل “ابن تيمية” تعرض للكثير من المحن والشدائد، وعانى مرارة السجن والنفي، لأنه أراد الرجوع بالفكر الإسلامي إلى بساطته الأولى، ولم يكن يطرح اتجاهاً فلسفياً أو عقلياً جديداً في مواجهة تيار المحافظة والاجترار الذي أدى في نهاية الأمر إلى الجمود. وتمثلت النتيجة النهائية في تصاعد الاتجاه الاجتراري والتبريري.

بل إن مجالس السلطان الغوري، في نهاية عصر سلاطين المماليك، تكشف عن مدى عقم الحياة الفكرية نتيجة لتيار المحافظة والجمود الذي بدأ منذ أيام صلاح الدين الأيوبي، إذ كان الفقهاء يتبارون في حل مسائل فقهية مستحيلة على سبيل إثبات قدرتهم وتمكنهم من صناعتهم وكأنهم فرغوا من حل مشاكل عصرهم المتأزمة، وكان فقهاء ذلك الزمان يرون في اجتهادات أئمة السنة الأربعة مخزناً لا ينضب لحلول تقليدية في أمور ومسائل غير تقليدية.

وكان حصاد هذا الاتجاه الثقافي السلبي الخطير أن تصاعد التأليف الاجتراري، والتجميع والشروح، والمبسطات وشروح الشروح. وهي ظاهرة ثقافية سلبية غالبا ما تكون علامة على التوقف الفكري والجمود الثقافي الذي يعتري حضارة من الحضارات الإنسانية.

وعلى رغم أن الموسوعات والمؤلفات الشاملة التي أنتجها عصر سلاطين المماليك، مثل “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” للعمري، و”نهاية الأرب في فنون الأدب” للنويوي، و”صبح الأعشى في صناعة الإنشا” للقلقشندي، وغيرها، حفظت لنا تراثاً فكرياً مجيداً في شتى نواحي الحياة الثقافية، فإن هذا النمط من التأليف التجميعي، الذي لا يقوم على الابتكار، كان انعكاساً لظروف الحضارة العربية الإسلامية في طورها الأخير وهي تحاول الدفاع عن نفسها في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وضد الهجوم الكاثوليكي المستمر في الأندلس، ثم ضد محاولة الالتفاف حول العالم الإسلامي من خلال المشاريع الصليبية المتأخرة في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي.

كانت هذه الموسوعات، والمعاجم التي جمعت مفردات اللغة العربية مثل “لسان العرب” لابن منظور، و”القاموس المحيط للفيروز أبادي” بمثابة تعبير عن الرغبة في حفظ الذات الحضارية والهوية الثقافية التي يتهددها الهجوم من كل جانب، فقد كان هدف هذه الموسوعات والمعاجم جمع شتات الانجازات العلمية والفكرية للحضارة العربية الإسلامية بقصد حفظها من الضياع، إذ كانت الحضارة العربية الإسلامية في حال الدفاع عن الذات وأراد أبناؤها جمع تراثها وحفظه.

وفي هذا العصر، أيضا، تجسد مفهوم “السلف الصالح” مفهوماً اجتماعياً / ثقافياً بحيث بات البحث في تراث السلف الصالح فضيلة من الفضائل الثقافية التي تحظى بقبول اجتماعي وأخلاقي واسع، وربما كان هذا ناتجاً عن سيادة الاتجاه الثقافي والفكري المحافظ الذي تجلى واضحاً في التأليف التجميعي والاجتراري الذي أشرنا إليه في السطور السابقة. وفي عصر سلاطين المماليك صارت مصر والشام المعقل الأخير للحضارة العربية الإسلامية، ولذلك توافر عليها اللاجئون من العلماء والفقهاء الفارون من الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، بيد أن الغالبية من أولئك العلماء اتجهوا إلى جمع الموسوعات الضخمة التي لم تترك صغيرة ولا كبيرة من دون ان تسجلها وتحفظها.

وعلى رغم هذا كله، وربما بسببه، ازدهرت حركة التدوين التاريخي بحيث بات تراث عصر المماليك في الكتابة التاريخية بمثابة معرض حي لتطور الكتابة التاريخية عند المسلمين، ووصلت الكتابة التاريخية إلى أرقى مستوى عرفته الثقافة العربية الإسلامية في تاريخها. إذ تعددت أنماط التدوين التاريخي، بل ظهرت اتجاهات فلسفة التاريخ على يد عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة، كما تبلورت اتجاهات التأليف في تاريخ الكتابة التاريخية، فضلا عن الأشكال الأخرى المتعددة من أشكال الكتابة التاريخية.

بيد أن هذا التوهج الأخير للتاريخ في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية شابته ظاهرة “الذيول”، أي تأليف كتاب استكمالاً لكتاب آخر مشهور، وهي ظاهرة ليست مقصورة على الثقافة العربية الإسلامية وحدها على أي حال. وربما كان السبب في ذلك أن مؤلفي هذه “الذيول” كانوا يرغبون في ضمان الرواج لمؤلفاتهم بنسبتها إلى كتاب مشهور، وربما كان الاتجاه المحافظ الذي ساد الحياة الفكرية والثقافية وراء اتساع نطاق ظاهرة “الذيول” التي عكست جانباً مهماً من جوانب الروح المحافظة والسمة التجميعية السائدة في تلك العصور.

من ناحية أخرى، فشل المفكرون الرسميون والشعراء والأدباء المرتبطون بدوائر الحكم في الاستجابة للتحدي الثقافي الذي طرحته الحروب الصليبية. ولأن المستقلين من هؤلاء انصرفوا إلى حفظ التراث وجمعه وشرحه واختصاره وتكراره، على حين كان آخرون جعلوا من أنفسهم كتبة السلطان بحيث صاروا من أبواق الدعاية والتبرير، فقد فشل هؤلاء وأولئك في الإجابة عن تساؤلات كثيرة طرحها عامة الناس عن عجز الحكام ونجاح الصليبيين الذين كانوا أدنى في المستوى الحضاري وأقل عدداً وعدة من المسلمين، والذين كان المفهوم الشعبي يراهم أقل شأناً ولا يستحقون النصر الذي حققوه.

وراودت أذهان الناس تساؤلات تقول: “أليس المسلمون هم أتباع الدين الحق؟، فلماذا كانت الهزيمة من نصيبهم وكان النصر لمصلحة الفرنج الكفرة؟.

وعندما فشل الحكام ودعاتهم في تبرير هذا التناقض، وفشل الأيوبيون بعد صلاح الدين في القضاء على الوجود الصليبي طوال هذه السنوات الطوال، تبلورت تيارات ثقافية شعبية تعبر عن رؤيتها الوجدانية للتاريخ وتفسيرها النفسي/ التعويضي لأحداثه. ومع مرور الوقت بدأ الأدب الشعبي والفنون الشعبية تطرح نفسها بديلاً عن التيار الرسمي الذي أصابه الجمود وناله التدهور، وقدّم الأدب الشعبي الإجابات الوجدانية التعويضية على ما طرحه الناس من تساؤلات محيرة مضنية. ومن خلال الشعر والأزجال والسيرة الشعبية والحكاية والنوادر تجلّت الرؤية الشعبية لتاريخ تلك الفترة.

وعلى رغم أن المسلمين نجحوا في طرد الصليبيين نهائياً من المنطقة العربية بعد قرنين من الزمان تقريباً، فإن الثمن الذي دفعته الجماهير كان فادحاً، إذ إن النظام الإقطاعي العسكري، الذي كان بمثابة الإفراز السياسي للحروب الصليبية، أدى دوره التاريخي في التصدي للصليبيين والقضاء عليهم، ولكنه فشل بعد ذلك في حكم المجتمعات العربية على أساس مدني، وسرعان ما تحول إلى نظام متسلط تجمعه بالرعية علاقة نهبية مستبدة. وأدى ذلك في النصف الثاني من عصر المماليك إلى تمرد الناس على سلطة المماليك، وتصاعدت مقاومتهم لممارسات المماليك، وكان الأدب الشعبي والفن الشعبي من أهم أسلحتهم في المقاومة، وكانت مشاعر الناس تجاه سلاطين المماليك مزيحاً من الكراهية السياسية والعداء الاجتماعي من ناحية، والولاء الديني للحكام الذين استندوا إلى واجهة شرعية صورية من ناحية أخرى.

لقد كانت نتائج الحملة الصليبية الأولى أول هزيمة كبرى للمسلمين في تاريخهم، كما أن سكان المنطقة العربية صمدوا عندما أدركوا أن الصليبيين القادمين من أوروبا الكاثوليكية قدموا إلى المنطقة بقصد البقاء والاستيطان، وكان على المنطقة العربية أن تكرس مواردها طوال قرنين من الزمان للنضال ضد هذا الخطر الاستيطاني وظهيره الأوروبي المساند.

ونتيجة لهذه الصدمة شاعت أنباء الرؤى والأحلام التي يرى فيها النائم الرسول عليه الصلاة والسلام أو الخضر، أو أحد أولياء الله الصالحين. وغالبا ما كانت هذه الرؤى والأحلام مرتبطة بالحرب والجهاد ضد الصليبيين، وتزف البشرى للمسلمين بالنصر وتعدهم بدحر الفرنج الغاصبين، ومن ناحية أخرى، كان تداول أنباء هذه الأحلام والرؤى المقدسة تعبيرا عن الآمال والتطلعات التي تجيش في صدور الناس وتمور في وجدانهم ونفوسهم حيال الواقع المحبط والمرير.

وأخذ المتعلمون يتحدثون عن القيامة وعلاماتها، ويتناقشون حول عذاب القبر، ويجادلون حول الجنة ونعيمها في الحياة الآخرة، في زمن كان حاضره تعساً ومستقبله غير واضح المعالم، وفضلاً عن ذلك ازداد تأثير الدراويش والمجاذيب في الحياة العامة وثقافة المجتمع، فشاعت أخلاقيات الحزن والاستسلام، والاعتقاد في الخوارق والمعجزات التي تنسب إلى الصوفية الدراويش، وهو ما تكشف عنه تلك الطائفة الكبيرة من أخبار الكرامات والمعجزات والخرافات التي تداولها مؤرخو تلك الفترة باعتبارها من حقائق التاريخ.

لقد بثّ الناس همومهم وأحزانهم في أنماط عديدة من أنماط الأدب الشعبي الذي كان متنفساً لأمانيهم وأحلامهم، وإطاراً لرغباتهم وطموحاتهم. ففي مجال الشعر الشعبي ظهرت القصائد المطولة التي عرفت باسم “النبويات” والتي كتبت في غرض كان جديدا على الحياة الثقافية، وهو الاستغاثة بالرسول والتوسل إليه برفع المعاناة. ومن ناحية أخرى، تجلّت هذه الظاهرة أيضا في مجال القصص الشعبي الذي كان الرواة يلقونه على الناس في مجالسهم ومحافلهم وأنديتهم، وكان الرواة يقومون بذلك الدور الاجتماعي الثقافي الذي تقوم به السينما والإذاعة والتلفزيون في عصرنا.

إذ كان الإطار الفني لهذه القصص يقدم نوعاً من التعويض الوجداني والنفسي للسامعين. وكان الناس يطربون لما تحمله هذه القصص في ثناياها من أحداث وشخصيات تجسد الحلم الذي يحلم به الناس، وتحمل لهم التعويض عن واقعهم البائس، وتفتح أمامهم باب الأمل والرجاء، فضلا عن إنها كانت تنتقم لهم من رموز الظلم والعدوان.

وحكايات “ألف ليلة وليلة” تحمل أصداء هذه التأثيرات التي تركتها الحروب الصليبية على الحياة الثقافية في العالم العربي. إذ تتضمن “ألف ليلة وليلة” ثلاث حكايات تدور على مدى أكثر من مائتي ليلة وهي: “حكاية الملك النعمان وولديه شركان وضوء الزمان”، و”حكاية علي نور الدين ومريم الزنارية”، ثم “حكاية الصعيدي وزوجته الفرنجية”.

وفي هذه الحكايات نرى التفاعل بين الفن الشعبي والتاريخ، إذ إن الفنان الشعبي قدم التعويض اللازم للناس عندما تجاوز الواقع المؤلم بحدوده المكانية وأطره الزمانية، صوب اللا محدود زماناً ومكاناً لكي يقدم للناس رؤية فنية تعويضية للحدث التاريخي. ومن خلال هذه الحكايات الثلاث التي تشكل خُمس ليالي “ألف ليلة وليلة” تجسد البعد البطولي والبعد الديني للبطل الشعبي من ناحية، وتجسدت الكراهية تجاه الفرنجة الصليبيين باعتبارهم عدواً كافراً من ناحية ثانية، كما تبلورت آمال الناس ورؤيتهم لتاريخهم من ناحية ثالثة.

وما يصدق على “ألف ليلة وليلة” يصدق أيضا على “سيرة الظاهر بيبرس” التي تسرب إليها بعض أحداث الحروب الصليبية ووقائعها. لقد كان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري بطل السيرة من أهم أبطال تاريخ تلك الحقبة، إذ لعب الدور الأكبر في دحر الصليبيين وهزيمتهم في المنصورة، وبعدها بعشر سنوات كانت له اليد الطولى في هزيمة المغول في عين جالوت، ثم قاد جيوشه في حرب دائمة ضد الصليبيين طوال فترة حكمه بحيث انحسر اللون الصليبي عن خريطة المنطقة العربية، ومهد الطريق أمام المنصور قلاوون وابنه الأشرف خليل للقضاء نهائياً على الوجود الصليبي في نهاية القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، ومن ثم، كان طبيعياً أن يحتفي به الخيال الشعبي ويعيد صياغة شخصيته.

ومن ناحية أخرى، احتفت السيرة احتفاءً بالغاً بكل من الصالح نجم الدين أيوب وزوجته السلطانه “شجرة الدر”، وأعاد الفنان الشعبي بناء شخصية كل منهما بشكل يكشف عن مدى تقدير الناس لهذين الزوجين اللذين توليا قيادة الحرب ضد حملة لويس التاسع على المنصورة بالشكل الذي أدى إلى تدمير الجيش الصليبي وأسر الملك الصليبي وقادة جيشه جميعاً.

وتجاهلت “سيرة الظاهر بيبرس” الأيوبيين الأواخر بسبب سياستهم المتخاذلة ضد الفرنج الصليبيين، كما أغفلت أي ذكر للسطان الكامل الأيوبي بسبب تنازله عن القدس للإمبراطور فردريك الثاني، وهو الأمر الذي لم يستطع أحد أن يغفره لهذا السلطان.

هذه هي الخطوط العامة للتطورات التي جرت على الحياة الثقافية والفكرية في المنطقة العربية بسبب تأثيرات الحروب الصليبية. وعلى رغم أن تلك التأثيرات اتخذت شكلاً سلبياً في معظم الأحوال، وعلى رغم أنها كانت من أهم عوامل الجمود الفكري والثقافي الذي عانت منه المنطقة العربية زمناً طويلاً، فإنها على المستوى الشعبي خلقت لنا فناً جميلاً وتركت بصماتها الواضحة على التراث الشعبي لهذه المنطقة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين