اغتنام وقت السحر ـ 2 ـ 3 ـ - الأسباب المؤدية إلى اغتنام وقت السحر

اغتنام وقت السحر ـ 2 ـ

الشيخ : أحمد شريف النعسان

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
مقدِّمة الدرس:
فقد عرفنا في الدرس الماضي بأنه ينبغي علينا أن نستغلَّ وقت السحر, هذا الوقت العظيم المبارك الذي غفل عنه أكثر الناس, هذا الوقت الذي ينزل فيه ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا في كل ليلة في الثلث الأخير منها, وهو الغني, الغني عن عباده وعباداتهم, الغني عن العالمين, ينادينا من قدسه الأعلى: (مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ, مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ). ينادي هذا العبدَ الفقير العاجز السقيم المسكين بتلك الكلمات.
ولكن هذا العبد الفقير العاجز المسكين نائمٌ غافل, كأنه مستغنٍ عن مولاه, كأنه ليس بحاجة إلى الله تعالى, مع أن الله تعالى خاطب الجميع بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد}.
السجود سبب من أسباب دخول الجنة:
علينا أن نستغلَّ هذا السحر بقيام الليل بصلاة التهجد, لأن الله تعالى يكون أقرب ما يكون من عبده في الثلث الأخير من الليل, فلتكن أنت قريباً منه في هذا الوقت, كن ذاكراً لله تعالى, وعلى رأس الأذكار الصلاة, قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}.
أكثر من السجود في هذا الوقت لأنه سبب من أسباب دخولك الجنة, فقد روى الإمام مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ, فَقَالَ لِي: (سَلْ), فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ, قَالَ: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ)؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ, قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ).
وروى الإمام مسلم عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ, أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ, فَسَكَتَ, ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ, ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ, فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً, وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً). قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ.
هذه السنة المهجورة ينبغي علينا أن نحييها وأن نجاهد أنفسنا للالتزام بها, فهي سر من أسرار سعادتنا في الدنيا والآخرة.

فوائد صلاة قيام الليل:

نعم لصلاة قيام الليل فوائد عظيمة لا تعد ولا تحصى, من جملة هذه الفوائد:

أولاً: فيها تشبُّه بالصالحين:

من كلام الشافعي رحمه الله تعالى: .
لا خير فيمن لا يتشبَّه بالصالحين, ولا خير في حياة لا سَحَر فيها, كلُّ واحد منا يقلِّد آخر, فإذا كنت مقلِّداً فقلِّد الكُمَّل من الرجال, قَلِّد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, قَلِّد التابعين الذين اتبعوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ}. اتبعوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام بشهادة الله عز وجل حيث قال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.
إن لم تكونوا مثلَهم فتشبَّهوا   ***   إنَّ التَّشَبُّه بالكرام فلاح
روى الإمام الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ, فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ, وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ, وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ, وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ). وفي رواية: (وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ).
هذا الحديث الشريف ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوائد عدة من قيام الليل:
1ـ هو دأب الصالحين.
2ـ هو قربة إلى الله تعالى, ومن أصبح قريباً من الله تعالى صار مُسَدَّداً بسمعه وبصره ويده ورجله, وصار دعاؤه مستَجاباً كما جاء في الحديث الصحيح: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ, فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ, وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ, وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا, وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا, وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ, وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) رواه البخاري.
3ـ هو منهاة عن الإثم: قيام الليل ينهاك عن الآثام في المستقبل, لأن العبد الذي يقف بين يدي ربه عز وجل عند كل فريضة, وهو محافظ على السُّنن القبلية والبعدية والنوافل ويتوِّج ذلك بصلاة قيام الليل, ثم بصلاة التهجُّد كيف يجترئ على معصية الله عز وجل, لذلك صدق الله القائل: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون}.
4ـ وهو مُكفِّر للسيئات, لأن العبد قد يقول: إذا كان قيام الليل منهاة عن الإثم هذا في المستقبل, أما فيما مضى من العمر وهو مليء بالآثام, فما علاجه؟ يبيِّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قيام الليل تكفير للسيئات الماضية, فهو إذاً أمان لك بإذن الله في المستقبل بأنه ينهاك عن الإثم, ومكفِّر لسيِّئاتك الماضية.
5ـ وهو مطردة للداء عن الجسد, فهو صحة وعافية لجسدك.
ثانياً: هي أفضل صلاة بعد الفريضة:
صلاة قيام الليل والتهجُّد أفضل صلاة بعد الفريضة, السنن كثيرة بعد الفرائض وقبلها, ولكن أفضلها هي صلاة القيام والتهجُّد, وذلك لما رواه مسلم عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ, وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ).
فهل نحافظ على أفضل صلاة بعد صلاة الفريضة؟ اللهم وفِّقنا لذلك.
ثالثاً: هي سبب من أسباب دخول الجنة:
هي سبب من أسباب دخول الجنة, ومن منا لا يحتاج إلى جنة عرضها السماوات والأرض؟ ومن منا لا يحتاج إلى نعيم ما رأته عين وما سمعته أذن وما خطر على قلب بشر, من منا لا يحتاج إلى نعيم خالد؟ ومن منا لا يحتاج إلى نعيم مُتوَّجٍ بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة}؟
هذا النعيم يحتاج إلى ثمن, فمن ثمنه صلاة قيام الليل وصلاة التهجُّد, أحدُنا يستقيم على عمله ويحافظ عليه لينال بعض الدريهمات لعمارة دنياه, أفلا يستقيم على صلاة قيام الليل والتهجُّد لعمارة آخرته.
لو نظرت إلى الموظَّف وإلى العامل, في كل يوم يجاهد نفسه بالالتزام بأوقات العمل صباحاً ومساءً صيفاً وشتاء صحةً ومرضاً, لينال شيئاً من حُطام الدنيا, أفلا نجاهد أنفسنا للالتزام بصلاة قيام الليل والتهجُّد في أنفاس حياتنا لننال هذا الأجر العظيم, لننال جنةَ الله تعالى؟
وترى الواحد منا إذا قصَّر في عمله قدَّم اعتذاراً لصاحب العمل حتى لا يفوت عليه أجره, فهلاَّ قدَّنا اعتذارنا لله تعالى إن قصرنا؟
النبي صلى الله عليه وسلم يؤكِّد لنا في حديث الشريف بأن صلاة قيام الليل سببٌ من أسباب دخول الجنة, روى الترمذي عن سيدنا عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ, وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَيْهِ, فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ, وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ: أَفْشُوا السَّلامَ, وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ, وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ, تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ).

من فوائد هذا الحديث الشريف:

1ـ لنعلم أن الطاعة لها أثر في وجه العبد, كما أن المعصية لها أثر في وجهه, لقد سمعنا بأن سيدنا عثمان رضي الله عنه قال لرجل دخل على مجلسه وقد نظر إلى امرأة: يدخل عليَّ أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه, أما علمت أن زنا العينين النظر؟ لتتوبنَّ أو لأعزِّرنَّك, فقال: أوَحْيٌ بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا, ولكن بصيرة وبرهان وفراسة صادقة [أوردها الغزالي في إحياء علوم الدين].
نعم السريرةُ إذا صَفَتْ ترى النورَ في وجه الطائع, والظلمةَ في وجه العاصي, ولا تستغرب من ذلك, فلقد قال صاحبا سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام لسيدنا يوسف عليه السلام بعد أن حدَّثاه عن الرؤيا التي رآها كلُّ واحد منهما: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِين}, أثر الإحسان ظاهر في وجهه, أثر الطاعة لا يمكن إخفاؤه كما لا يمكن إخفاء رائحة الطيب.
لا تستغرب من رؤية أثر الطاعة في وجه العبد, أما سمعنا عن أول سفير للإسلام سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليعلِّم الناس القرآن العظيم, فكان يأتيه الرجل المشرك بوجه مظلم يريد قتله, فإذا جلس إلى سيدنا مصعب رضي الله عنه وسمع منه دخل نور الإيمان إلى قلبه, فيرجع إلى قومه, فينظرون إليه ويقولون: والله لقد رجع إليكم بوجه غير الوجه الذي ذهب به.
هذا إذا كان في حق أهل الطاعة, فكيف إذا كان النظر إلى وجه سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم؟
لذلك قال سيدنا عبد الله بن سلام ـ وكان حبراً من أحبار اليهود ـ: فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ.
2ـ من فوائد هذا الحديث الترغيب في إفشاء السلام بيننا, لأن السلام سبب من أسباب التحابب بيننا, الذي هو سبب من أسباب دخول الجنة, ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا, وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا, أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ) رواه مسلم.
ليكن المسلم سليماً من يدك ولسانك, كلُّ المسلم على المسلم حرام, كما جاء في الحديث الشريف: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) رواه مسلم.
3ـ ومن فوائد هذا الحديث الترغيب في إطعام الطعام, وخاصة في شهر رمضان, لا تكن بخيلاً, فمن يبخل فإنما يبخل عن نفسه, كن جواداً كريماً كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث كان أجود ما يكون في رمضان. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ, وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ, وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ. فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) رواه البخاري ومسلم.
4ـ ومن فوائد هذا الحديث الشريف الترغيب في قيام الليل الذي هو موضوع درسنا في هذا اليوم.

خاتمة نسأل الله حسنَها:

فمن فوائد صلاة قيام الليل والتهجُّد أنها تجعلك تتشبَّه بالصالحين, وتقربك إلى الله عز وجل, وتحفظك من الآثام, وتكفِّر عنك السيئات, وتطرد الداء عن جسدك, وهي أفضل صلاة بعد الفريضة, وسبب من أسباب دخولك الجنة.
لنحافظ على صلاة قيام الليل, وأقلُّها ركعتان, وأكثرها ثمان ركعات, وهي بعد صلاة العشاء وقبل الوتر, ولا حرج من صلاتها بعد الوتر, أما صلاة التهجُّد فأقلُّها ركعتان وأكثرها اثنتا عشرة ركعة. حافظ عليها وحوِّل الناس إليها إذا أردت لهم السعادة.
أسأل الله تعالى أن يوفِّقنا للمحافظة على صلاة قيام الليل والتهجُّد ولو على أقلِّها, وأن نحوِّل الناس إلى باب الله عز وجل الذي ينادي عباده كل ليلة: (مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ, مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اغتنام وقت السحر ـ 3 ـ

الشيخ : أحمد الشريف النعسان


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:

مقدمة الدرس:

فقد ذكرنا في الدرسين الماضيين بأن من آداب الصائم اغتنام وقت السحر بأمرين اثنين, الأمر الأول بطعام السَّحور, والأمر الثاني بصلاة القيام صلاة التهجد.

أعط لكل ذي حق حقه:

ربنا عز وجل خلق الإنسان من روح وجسد, وجعل ربُّنا عز وجل لجسدنا غذاء ولأرواحنا غذاءً, فغذاء الجسد من طعام وشراب, وغذاء الأرواح والقلوب من ذكر وصلاة وقيام وتلاوة للقرآن العظيم وذكر لله عز وجل, وطَلَبَ منا ربُّنا عز وجل أن نعطي كلَّ ذي حق حقه.
أمرنا بالطعام والشراب لنعطي الجسد حقه, وأمرنا بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن والعبادات بجميع أنواعها لنعطي الروح والقلب حقه, فقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}. هذا غذاء للجسد, وقال جلَّت قدرته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}. هذا غذاء للروح.
لو دقَّقنا في الآيتين الكريمتين, الآية التي تأمرنا بإعطاء الجسد حقه, قال فيها تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}. قيَّد ذلك بعدم الإسراف, لماذا؟

الفارق بين الطعام في الدنيا والآخرة:

تناول الطعام والشراب في الدنيا قيَّده الله تعالى بعدم الإسراف, لأن الإسراف فيهما مضرَّة للجسد, والسبب في ذلك هو: أن طعام الدنيا وشرابها إنما هو في الحقيقة دواء لداء اسمه الجوع, ولا يجوز للإنسان أن يأخذ من الدواء إلا بمقدار, فإن زاد انقلب الدواء إلى داء, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بِحسْبِ ابن آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبُهُ، فإِنْ كَانَ لا مَحالَةَ، فَثلُثٌ لطَعَامِهِ، وثُلُثٌ لِشرابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ, بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ, فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ, وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ, وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) رواه الترمذي.
فعندما كان الطعام في الدنيا دواء لداء قيَّده ربنا عز وجل بقوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ}.
أما الطعام في الآخرة فليس لداء اسمه الجوع, لأن العبد المؤمن في الجنة لا يجوع فيها ولا يعرى, ولا يظمأ فيها ولا يضحى كما قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى}.
الطعام في الآخرة نعيم وليس دواء لداء الجوع, يأكل الإنسان ويشرب, ولا يبول ولا يتغوط, كما جاء في الأحاديث الشريفة عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ, قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ, يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ) رواه مسلم. فعندما كان طعام أهل الجنة نعيماً, قال الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}. لم يقيِّد ذلك بقوله: {وَلاَ تُسْرِفُوا}. لأنه نعيم, فأكثر من طعام الجنة ما شئت لأنه نعيم, ولا تكثر من طعام الدنيا وشرابها لأنه دواء, فخذ منه بمقدار حاجتك.

وقت السحر غذاء للروح والجسد:

لذلك وجدنا السَّحر وقتاً لغذاء الروح والجسد, أما غذاء الجسد فهو السَّحور, وهو غذاء مبارك, كما جاء في الحديث الشريف, عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِغِذَاءِ السَّحَرِ, فَإِنَّهُ هُوَ الْغِذَاءُ الْمُبَارَكُ) رواه أحمد.
وأما غذاء الروح فهو القيام, هو صلاة التهجد, هو ذكر الله تعالى, هو الاستغفار, هو تلاوة القرآن العظيم, هو الصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فخُذْ لغذاء الجسد لُقَيْمات ولا تكثر, وخُذْ لغذاء الروح الكثير, وأكثر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً, لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}.

كيف حالنا في هذين الغذاءين؟

ولكن العجيب فينا نحو هذين الغذاءين أننا في الذي أُمِرْنا أن لا نسرف فيه أَسْرَفْنا, وفي الذي أُمِرْنا أن نُكْثِرَ منه أقللنا, حياتنا في تناقض, ما يؤذينا نُكثِر منه, وما ينفعنا نُقلِّل منه, في طعام الجسد نكثر حتى نصل إلى حد الإسراف, كما كان يقول شيخنا سيدي الشيخ عبد القادر عيسى رحمه الله تعالى: تأكل بالأرطال, وتشرب بالأسطال, وتنام الليل مهما طال, وتزعم أنك من الأبطال, هذا كلام بطَّال.
وفي طعام الروح والقلب نقلِّل حتى يكاد أحدنا أن يهلك, فلا تبقى عنده طاقة لفعل الطاعة, ولم تبق عنده طاقة لترك المعصية, ضعف الإيمان حتى هانت المعصية وثقلت الطاعة, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بل الأكثر من ذلك شاع بين كثير من المسلمين: لا تكثر من ذكر الله وتلاوة القرآن الكريم والتسبيح والتهليل حتى لا تجنَّ (بتروِّح عقلك, بتصير أجدب, بتسيح, بتصير بهلول) يا سبحان الله, ربنا يقول: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}. والبعض يقول: لا, يذهب عقلك بكثرة ذكر الله, نعم لقد ذهبت عقولنا بسبب قلة ذكرنا لله تعالى, كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير}.

اغتنم وقت السحر بالقيام بعد السَّحور:

فالمؤمن يغتنم وقت السحر بلُقَيْمات يقيم فيها صلبه, ويغتنم الوقت في القيام, وقد عرفنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّضَنا على قيام الليل, وكلما نشطت الروح خفَّ البدن للطاعة, وهذا ما يراه الإنسان إذا كان حاجَّاً أو معتمراً, طعام قليل وطاعة كثيرة.

تتمة فوائد صلاة قيام الليل:

وقد عرفنا في الدرس الماضي بعض فوائد قيام الليل, والتي منها, أن القائم يتشبَّه بالصالحين, وأنه يتقرَّب إلى الله تعالى بالقيام, وأنه يحفظ نفسه من الوقوع في الآثام, وأنه تكفَّر ذُنُوبه بإذن الله تعالى, وأنه يطرد الداء عن جسده بهذا القيام, وبه يدخل الجنة بإذن الله تعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: هي سبب لدخول الجنة بغير حساب:
كل مؤمن يطمع بدخول الجنة, بل يطمع أن يدخل جنة الله عز وجل بدون حساب, ولذلك عندما يسمع أحدنا بأن فلاناً مبشَّرٌ بدخول الجنة بغير حساب يغبطه ويتمنى أن يكون معه.
روى الإمام البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ, فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ, وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ, وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ, وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ, وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ, فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ هَؤُلاءِ أُمَّتِي؟ قَالَ: لا, وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ, فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ, قَالَ: هَؤُلاءِ أُمَّتُكَ, وَهَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ, قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانُوا لا يَكْتَوُونَ, وَلا يَسْتَرْقُونَ, وَلا يَتَطَيَّرُونَ, وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ, قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ, ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ, قَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ)
فما من مؤمن إلا ويطمع بدخول الجنة بغير حساب, ومن صدق منا في طلبه هذا فعليه بقيام الليل, لأن أهل القيام بالأسحار يدخلون الجنة بغير حساب, كما روى البيهقي عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الناس في صعيد واحد يوم القيامة, فينادي مناد فيقول: أين الذين كانوا تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب, ثم يؤمر بسائر الناس إلى الحساب).
خامساً: هي سبب لأن يكتب عند الله من الشاكرين:
نعم قيام الليل يجعل صاحبه عند الله من الشاكرين, فقد جاء في الحديث الصحيح عن السيدة عائشة رضي الله عنها أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ, فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: (أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا) رواه البخاري ومسلم.
والشاكرون قِلَّة من الناس, كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور}. لذلك نرى القليل ممن يقوم الليل.
العاقل هو الذي يقابل نعمة الله تعالى بالشكر, والذي من مظاهره القيام بالليل, والأحمق هو الذي يقابل نعمة الله تعالى بالظلم وكفران النعمة, وصدق الله تعالى القائل: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار}.
من لم يشكر الله تعالى على نعمه ظلم نفسه وكفر بنعمة الله عز وجل, وهذا هو الخاسر, أما الشاكر فهو الرابح في الدنيا والآخرة.

سادساً: هي سبب لاستجابة الدعاء:

من فوائد قيام الليل أن القائم يكون دعاؤه مستجاباً بإذن الله تعالى, كما جاء في الحديث الشريف عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ, وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ) رواه مسلم.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
بعد هذا أقول: فوائد القيام كثيرة وكثيرة جداً تجلب لك خير الدنيا الفانية وخير الآخرة الباقية, فهل أنت راغب في القيام أم لا؟ كم رغَّبنا النبي صلى الله عليه وسلم في القيام؟ فلماذا لا نستجيب؟ فوائد القيام كثيرة, فكم هو قيامك في شهر رمضان؟
وأريد منك أن تعرِّفني على فوائد كثرة الطعام ما هي؟ هل كثرة الطعام لها فوائد أم مضار؟ لا شك مضارُّها كثيرة, ومع ذلك نكثر منه, وفوائد القيام لا تعدُّ ولا تُحصى ومع ذلك نقلِّل منه, لماذا؟
نعم أيها الإخوة علينا أن نجعل من شهر رمضان دورة تدريبية لنا للقيام بالأسحار من أجل سعادتنا في الدنيا والآخرة, اللهم أكرمنا والحاضرين والمسلمين عامة بذلك. آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين