اطمأنّ إلى القوة


عبد العظيم عرنوس
 
انطلقتُ بذاكرتي في أغوار الزمان صوب السنن الكونية الثابتة الهادية، أستنطقها عن أحوال الغابرين الهالكين الذين اغتروا بالقوى المادية وركنوا إليها، وجعلوها أكبر همهم ومبلغ علمهم، فبادرتني بالإجابة عن علّة هلاكهم لتكون معلماً لكلّ من سوّلت له نفسه أنه القوة التي لا تقهر، أو القدرة التي لا تعجز، فوجدتُ عجباً.. وجدتُ أنّ كل من اطمأن إلى قوّته وجبروته وقهره ناسياً قوة الله كان عطبه وهلاكه في اطمئنانه الزائف ... ومن ثمّ استنبط الداعية الحكيم مصطفى السباعي رحمه الله حكمته التي صوّب شعاعها نحو أولئك البائسين المغترين ( من اطمأنّ إلى القوة فهو مغلوب).
 
 
وما كان بي من حاجةٍ أن أسرد وقائع التاريخ لأوكد صدق هذه الحكمة، إنما هو من باب الاستئناس والتذكرة فقط، فكم رأينا من اغتروا بقوّتهم المادية، فإذا بهذه القوة هي عين الضعف والعجز والهلاك، ولعل عاداً قوم هود هم مثل السوء الأبرز في هذا المجال ، فقد بلغوا من القوة أشدها ( أتبنون بكلّ ريعٍ آيةً تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين ) و ( ألم ترَ كيف فعل ربّك بعاد ، إرم ذات العماد، التي لم يُخلق مثلها في البلاد) حتى بلغت بهم القِحة أن قالوا : ( من أشدّ منا قوة )، فاطمئنوا إلى قوّتهم وجبروتهم ، ونسوا : ( أنّ الله هو أشدّ منهم قوّة ) وهو جلّ جلاله واهبُ القوى للناس ، فحقّت عليهم كلمة الله وسنته ، فإذا هم ضعاف مهازيل لم تدفع عنهم قوّتهم شيئاً : ( كذّبت عادٌ فكيفَ كان عذابي ونُذُر ، إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يومِ نحسٍ مُستمر، تنزِع الناسَ كأنّهم أعجازُ نخلٍ منقعر ) (وأما عادٌ فأهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية ، سخّرها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍ حسوما، فترى القومَ فيها صرعى كأنهم أعجازُ نخلٍ خاوية ، فهل ترى لهم من باقية ) أين هذه القوّة التي امتلكوها وتبجحوا بها، وهل أغنت عنهم شيئاً أمام جنديّ الريح، والريح من الهواء اللطيف الخفيف، فإذا بالهواء الذي فيه الحياة رجزٌ ( وريحٌ فيها عذابٌ أليم ، تُدمّر كلّ شيئٍ بأمرِ ربها ) .
 
 
وأما فرعون، وما أدراك ما فرعون ، فقد سخّر كل ما يمتلكهُ من قوى وقدرات ، لتثبيت ملكه، وقهر بني إسرائيل وإذلالهم وسلبهم حريّتهم حتى بلغ من الغرور أقصى ما يمكن أن يبلغه إنسان فقال : أنا ربكم الأعلى ، واستعان بكلّ ساحرٍ عليم ليبطل دعوة الحق، فكان تدميره في تدبيره، فأتاه الله من حيث لا يحتسب، من الجهة التي أمِنها والتي سخّرها لغلبة موسى وهارون عليهما السلام ، فإذا بالسحرة جنود من جنود الحق، ( فغُلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وأُلقي السحرة ساجدين ، قالوا آمنا بربّ العالمين ، ربّ موسى وهارون).
 
 
إنّ القوة الحقيقية في الكون كلّه هي قوّة الله، قوّة الحق التي من استند إليها فقد ركن إلى الركن الركين ، ولقد وضع ابن عطاء الله المعيار الدقيق لاستجلاب هذه القوة فقال: ( تحقّق بأوصافك يُمدّك بأوصافه، تحقّق بذلّك يُمدّك بعزّه ، تحقق بعجزِك يُمدّك بقدرته ، تحقّق بضعفك يُمدّك بحوله وقوّته) .
 
ما الذي يملكه العبيد الضعاف المهازيل من القوّة ، إنها قوةٌ واهمةٌ إذا لم تستند إلى قوّة الله بل هي هباء، وعندما رأى حافظ إبراهيم مدينةً من مدن اليابان أصابها زلزال وبركان اهتزّت أحاسيسه وعبّر عن مشاعره بقوله :
خسفت ثم أغرقت ثم بادت ،،، قُضي الأمر كلّه في ثوان
بغتِ الأرض والجبال عليها ،،، وطغى البحر أيّما طغيان
فتجيبُ الأرضُ رجماً وقذفاً ،،، بشواظٍ من مـــارج ودُخان
وما لي أذهب بعيدا ألم نر بأم أعيننا ذهاب ريح شاه إيران، وزوال سلطان تشاوشيسكو، وهلكة القذافي المتكبر، وإيداع مبارك في السجن، وهروب حاكم تونس في برهة خاطفة من الزمن كأنها أضغاث أحلام. 
 
حتى إذا يمّمنا شطرَ نظام العصابة السوري ممثلاً بالأحمق المغرور بشار ، ومن قبله المقبور حافظ، اللذين شيّدا أقسى وأقوى نظامٍ استبداديٍ ديكتاتوري، وأحكموا سلسلة حلقاته بمراكز أمنيةٍ قوية بلغت في شراستها المدى، لكنها القوة المُسخّرة على رقاب الشعب الأعزل، لإذلاله وقهره واستعباده. ولما اصطدمت هذه القوة الهائلة بإرادة الشعب الذي عزم على استرداد حريّته ، بدا عجز هذه العصابة وضعفها، وبددت عزيمة الشعب الأعزل سوى من الإيمان جُدُر النظام التي احتمى بها، فإذا بهذه الجُدُر تتهاوى واحداً تلوَ الآخر، اطمأن الأسد الصغير، ومن قبله الأسد الكبير المقبور إلى القوة فإذا به مغلوب مقهور مدحور منبوذ أمام شعبٍ أعزل ، وتهاوت أركان قوّته أو ما يسمى خلية الأزمة برميةٍ من جنود الله، ( وما رميتَ إذ رميت ولكن الله رمى وليُبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً ) ، وقد مكروا مكرهم ، فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذابُ من حيث لا يشعرون !! ما كنا نتصوّر أن نرى أكابر المجرمين الأقوياء الأشداء الذين غفلوا عن قوة الله أن نراهم في ضربة ورميةٍ واحدة مقهورين مجندلين مقتولين مغلوبين.
 
وما كان الله ليخذل أولياءه أو يُشمت بنا الأعداء ، أو يضيع أنّات الثكالى ، وتوجعات الأيامى ، وصرخات الأطفال ، واستغاثات الأحرار، وعويل الأيتام، وآهات وزفرات المساجين ، ودماء الشهداء سُدى.
 
إن سنة الله لا تتخلّف، ولا يمكن للباطل أن يغلب الحق أبداً، ولقد وعد الله المؤمنين بالغلبة والنصر ، والله لا يُخلف الميعاد . وإنا لننتظر واثقين الضربة القاضية، والأخذة الرابية لرأس الشر والجريمة بشار الذي يظنّ أنه بمنأى عن أخذ العزيز المقتدر. ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، وكانوا أشدّ منهم قوّة ، وما كان الله ليُعجزه من شيءٍ في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً)
 
لقد استعدّ بلال للأذان، فأصيخي يا دنيا ، واسمعي صوته النديّ يجلجلُ في الآفاق يوقظ النيام ، ويذهب النعاس عن الوسنان ، صعد بلال ليعلن النصر في أبهى صوره، النصر المدوي بعد التخاذل المعيب المريب من الصديق قبل العدو، اعتلى بلال المنارة ليعلن انتصار الروح على المادة، وانتصار الإيمان على الفتنة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان ، ولا تنسوا بعد انتهاء الأذان الصلاة والسلام على خير الأنام. وقيل بعدا للقوم الظالمين.. وأثنوا على الله وقولوا: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين.
 
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين