استقلال مالي

 

حدث في الثلاثين من ربيع الأول

 

في الثلاثين من ربيع الأول من عام 1380 الموافق 22 أيلول/سبتمبر 1960 أعلن الرئيس المالي موديبو كيتا استقلال مالي بعد أن استعمرتها فرنسا قرابة 60 سنة، منذ سنة 1896.

 

جاء الاستعمار الفرنسي إلى مالي في إطار الاستعمار الأوروبي للقارة السوداء، والذي تنافست فيه فرنسا مع بريطانيا في سباق شديد الوتيرة، وإن لم يخرج عن قواعد المنافسة الرياضية الشريفة، وتنافست الدولتان على احتلال ساحل السنغال ما يزيد على مئة سنة، ثم اتفقتا هما ودول أوروبية أخرى على تقاسم المستعمرات في معاهدة باريس لعام 1814، ومن ثم بدأ التوسع الفرنسي في داخل السنغال ومنها إلى مالي، وكان هدفهم الأوسع هو السيطرة على حوض نهر النيجر والاستفادة من الموارد الطبيعية التي فيه ويمكن نقلها عبر النهر، وكان من مخططاتهم بناء سكة حديدية من داكار في السنغال إلى نهر النيجر، ومنه إلى الدول الواقعة على ضفافه، ولكن دولة التُكرور التي كان يقودها الحاج عمر تالّ كانت عقبة رئيسة في وجه ذلك المخطط.

 

وكان الحاج عمر بن سعيد تالّ، ويقال له عمر الفوتي، قد ولد حوالي سنة 1212=1797 في قرية حلوار، وهي اليوم قرب حدود السنغال مع موريتانيا، ودرس على والده العلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم ودرس البخاري ومسلم وغيرها من علوم الشريعة على يد مشايخ الطريقة التيجانية الصوفية، ثم ترك مسقط رأسه وعمل مدرساً في مدينة ساتينا البعيدة، قد ذهب للحج سنة 1828 وعاد منه في سنة 1830، وأمضى سنوات في السنغال وغينيا ونيجيريا، وتزوج في صقوطو بنيجيريا ابنة سلطانها محمد بللو بن عثمان فودي، ثم أعلن الخلافة ورفع لواء الدعوة إلى الجهاد في سنة 1850 تعضده شبكة من مساجد ومشايخ الطريقة التيجانية في غرب أفريقيا.

 

وكان الفرنسيون في تقدمهم من السنغال قد وصلوا إلى شرق مالي، وأقاموا في سنة 1855 حصنا في موقع يسمى المدينة على نهر النيجر، وتكونت حاميته من 64 جندياً، فهاجمه الحاج عمر في سنة 1857، وحاصر قرابة أربعة أشهر قبل أن تصل القوات الفرنسية وتنجد المحاصرين.

 

وأعاد الحاج عمر الكرة في سنة 1859 فهاجم موقعاً فرنسياً في ماتام، وهي اليوم مدينة في شرق السنغال على حدود موريتانيا، وحشد جيشاً كبيراً تألف من حوالي 15.000 جندي، ولكن الفرنسيين صدوا الهجوم وأوقعوا بجيش الحاج عمر خسائر فادحة، فانسحب إلى الجنوب وبنى في منطقة تدعى جيومو بهدف عرقلة التجارة الفرنسية في نهر السنغال، وهاجم الفرنسيون الحصن بعد أشهر من تأسيسه ودمروه بحيث لم يعد يشكل تهديداً لهم.

 

وبعد هذا لم يعد الحاج عمر الكرة فقد اقتنع بتفوق الفرنسيين في السلاح والخطط، وهكذا ترك الفرنسيين واتجه لإنشاء دولة إسلامية واسعة في المنطقة، وهزم مملكتي كارتا وسيقو التابعتين لقبائل بمبارا الوثنية، والتي أسلمت كلها فيما بعد، وتوج ذلك بهزيمتهم هزيمة حاسمة في معركة سيقو التي جرت في 10 آذار/مارس سنة 1861، وجعل مدينة سيقو Segou‏ عاصمة لدولته، وفي السنة التالية توجه لإخضاع الدويلات الإسلامية الصغيرة، فأناب ابنه أحمدو تالّ واتجه شمالا إلى دلنا النيجر للاستيلاء على أراضي دولة مَسّينا الزراعية الخصبة، التي تنتمي لعرق الفولا، وخاض معهم 3 معارك ضارية سقط فيها أكثر من  70.000 قتيل، ولكنه في الأخير أسقط دولتهم في معركة حاسمة جرت في 16 آذار/مارس 1862 واستولى فيها على عاصمتها مدينة حمد الله.

 

وبعد سيطرته على أواسط النيجر، اتجه الحاج عمر شمالاً لفتح مدينة تُنبكتو الهامة، ولكنه تخلى عن محاولته بعد هزيمته في سنة 1863 على يد جيش تكون من الطوارق الملثمين والمغاربة وقبائل الفولا، ووقع تمرد في حمد الله بقيادة ابن عم الملك السابق الذي انتهز فرصة انشغال الحاج عمر في الشمال، وحقق التمرد نجاحاً اضطر معه الحاج عمر للعودة لقعمه، وفي أثناء المعارك والمناوشات لقي الحاج عمر مصرعه في سنة 1864 من جراء انفجار بارود في مخازن جيشه، وتقدر المصادر التاريخية عمره عند وفاته بحوالي 70 سنة.

 

وعلى الرغم من نجاحه المتميز إلا أنه ينبغي أن نشير أن الحاج عمر لم يتمكن من أن يقيم دولة يسلم لها زعماء المنطقة القبليين الذين اعتبروه منافساً لهم دون أن يستوعبوا الخطر المصيري الذي يتهددهم به التوسع الفرنسي، ولذا كان عليه أن يقاتل على جبهات عديدة، وهو ما حال بينه وبين أن تكون دولته ذات طابع شامل للبلاد، وهي ظاهرة تكررت مع كثير من المصلحين والمجاهدين، وقديماً قال أبو الطيب المتنبي لسيف الدولة الحمداني:

 

وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ ... فعلى أي جانبيك تميل؟

 

وخلف الحاج عمر ابن أخيه التيجاني الذي جعل عاصمة التكرور في باندياجارا، وبقي أحمد ابن الحاج عمر يحكم في سيقو متغلباً على مؤامرات الأقارب والمحاولات الانفصالية من حكام المدن الخاضعين له، وفي سنة 1890 استطاع الفرنسيون الاستيلاء على سيقو بعد تحالفهم مع قبائل بمبارا، وهرب أحمد إلى منطقة مَسّينا ولما سقطت في يد الفرنسيين سنة 1893 هرب منه إلى صقوطو في نيجريا، وانتهت بذلك دولة التكرور، وتابع الفرنسيون استيلاءهم على حوض نهر النيجر واتجهوا شمالاً فاستولوا في سنة 1893 على تُنبكتو التي كانت قد خبا منذ زمن بريقها التجاري والعلمي، وإن كانت لا تزال إلى اليوم عاصمة العربية والدين في مالي رغم الإهمال التنموي والاقتصادي الذي لحقها.

 

ولم تكن دولة التكرور الدولة المسلمة الوحيدة في المنطقة فقد كانت هناك دولة الواصلو، ولعلها من الواصلين بالعربية، والتي أسسها الإمام سامور العافية توريه في غينيا سنة 1867، منتهزاً الفراغ الذي أحدثه مقتل الحاج عمر تالّ في سنة 1864، فقد أسس توريه دولة لها جيش مدرب ومزود بالأسلحة النارية، وكان رجلاً صاحب نظرة اقتصادية فتوسع في مناطق التجارة والتعدين وبث فيها الأمان وشجع فيها الأنشطة التجارية، وتحالف مع القبائل والمدن من حوله، وتعاون مع البريطانيين مستفيداً من تنافسهم مع الفرنسيين، فباعوه كميات كبيرة من الأسلحة، استطاع بها مواجهة الفرنسيين وهزيمتهم في عدة مواقع، ولما أدرك أنه لا يستطيع مواجهتهم وجهاً لوجه لجأ إلى محاربتهم بالمناورة والالتفاف، ولكن بريطانيا توقفت عن بيعه السلاح والذخيرة بعد اتفاق بروكسل لعام 1890 مع فرنسا، فاستطاع الفرنسيون الاستيلاء على عاصمته في سنة 1892، وبعد مقاومة لم تتوقف استطاع الفرنسيون أسره في آخر سنة 1898 ونفوه إلى الغابون حيث توفي في الأسر في سنة 1900 ، وهو جد الرئيس أحمد سيكوتوري أول رئيس لغينيا بعد الاستقلال.

 

وبحلول سنة 1900 كانت الدول الأوروبية قد استعمرت بطريقة أو أخرى بلدان القارة الأفريقية، ولم ينج من الاستعمار إلا إثيوبيا وليبريا، وكان لفرنسا النصيب الأكبر من القارة، ففي الشمال كانت قد احتلت الجزائر وتونس، وفي أفريقيا الاستوائية استولت على الجابون وبعض الكونغو والسودان الأوسط الذي نعرفه اليوم باسم تشاد، والصومال الفرنسي الذي نعرفه اليوم باسم جيبوتي، وإلى جانبهم جزيرة مدغشقر، أما في غرب أفريقيا فقد شكلت فرنسا إقليم أفريقيا الغربية الفرنسية من موريتانيا، والسنغال، ومالي، وغينيا، وساحل العاج، وفولتا العليا التي تدعى اليوم بوركينا فاسو، وداهومي التي تدعى اليوم بِنِين، والنِيجِر، وكانت عاصمة الإقليم مدينة داكار في السنغال، وفي سنة 1920 فصل الفرنسيون السنغال ومالي وأسموهما السودان الفرنسي وجعلوا عاصمته باماكو.

 

وفي سنة 1905 منع الفرنسيون تجارة الرقيق وأعلنوا تحرير العبيد، وانتهت بذلك إحدى التجارات التي كانت رائجة في مالي فترة طويلة، والتي بقيت آثارها لليوم من حيث أن بعض الأرقاء فضلوا العمل بعد تحررهم مع ساداتهم إما بحكم العادة أو لكونهم  لا يستطيعون الاعتماد على أنفسهم في المعيشة، ولا يزال المجتمع المالي يعتبر الأرقاء وذراريهم في الطبقات الدنيا من المجتمع.

 

وفي سنة 1945 منحت الحكومة الفرنسية المؤقتة إقليمَ غرب أفريقيا الفرنسية 10 مقاعد في الهيئة التأسيسية الجديدة التي ستصوغ الدستور الفرنسي الجديد، على أن تكون مناصفة بين الفرنسيين والأفارقة، وفي أواخر سنة 1946 أعلن دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة وأعيد تسمية غرب أفريقيا الفرنسية باسم الاتحاد الفرنسي، ومع هذا الدستور أصبح لكل منطقة جمعية عمومية أشبه بالبرلمان المحلي، ولكنها ذات طابع استشاري لا تشريعي، وذات صلاحيات محدودة، ويتم اختيار أعضاء الجمعية العمومية بالانتخابات التي كانت تجري لأول مرة، وفي آخر سنة 1956 تم منح حق الانتخاب لكل السكان المحليين، وبعده بشهور جرت انتخابات الجمعية العمومية في كل الأقاليم، وكانت على أساس حزبي، ومنح رؤساء الأحزاب التي فازت في الانتخابات منصب نائب رئيس الإقليم، مع احتفاظ الحاكم العام الفرنسي بمنصب الرئيس.

 

ولما جرى تغيير الدستور الفرنسي في سنة 1958 فيما يعرف بالجمهورية الفرنسية الخامسة، تغيرت معه ترتيبات الحكم في المنطقة، وجرى حل الاتحاد الفرنسي ليحل محله ما سمي بالجماعة الفرنسية، وأصبحت كل منطقة منها دولة تحت الحماية الفرنسية يرأسها مندوب سام تعينه الحكومة الفرنسية ولها مجلس استشاري يدعى الجمعية الوطنية ينتخب رئيس حكومة تلك الدولة.

 

وفي سنة 1960 وعلى إثر فشل فرنسا في حربها في الهند الصينية، والتي تشكل اليوم 3 دول: فيتنام، ولاوس، وكمبوديا، وبسبب تدهور الوضع الأمني في الجزائر من جراء الثورة المتصاعدة، قامت حكومة الرئيس ديغول بإعادة النظر في السياسات الفرنسية الاستعمارية وقررت أن من الأفضل لفرنسا التخلي عن المستعمرات التي تريد الاستقلال، لأن قمع الثورة فيها سيكون باهظ التكاليف، ولذا جرى تعديل الدستور الفرنسي ليسمح للدول الأعضاء في الجماعة الفرنسية بأن تعدل دساتيرها دون الرجوع للعاصمة الفرنسية باريس، فقامت ساحل العاج والنيجر وفولتا العليا وداهومي بتشكيل اتحاد لم يطل الأمد به أسمته: اتحاد ساحل بنين، وغيرت اسمه فيما بعد إلى مجلس الوفاق، أما السنغال والسودان الفرنسي فشكلتا: اتحاد مالي في 20 تموز/يوليو 1960.

 

وما لبثت السنغال أن تركت الاتحاد بعد شهرين فأعلنت مالي استقلالها بحكومة هيمن عليها حزب التجمع الأفريقي الديمقراطي، والذي كان رئيس مالي الجديد موديبو كيتا، المولود سنة 1915، يشغل منصب أمينه العام.

 

وسار موديبو كيتا بالبلاد في طريق الاشتراكية الماركسية والاستبداد وهيمنة الحزب الواحد على كل مناحي الحياة من اقتصاد وتجارة وعلم وثقافة، وفي سنة 1967 دخلت البلاد في طور ثوري جديد حين علق الرئيس موديبو كيتا الدستور وألف لجان الدفاع عن الثورة وشكل ميليشا شعبية، وجاء هذا بعد أن تردت أحوال مالي الاقتصادية تردياً نتج عنه تدهور قيمة الفرنك المالي، وظهور الاضطرابات في البلاد، وفي آخر سنة 1968 قام الجنرال موسى تراوري بانقلاب على موديبو كيتا ليموت في السجن عام 1977.

 

وسار تراوري بالبلاد على طريق الاستبداد كذلك مع ترك بعض السياسات الاشتراكية التي كان عليها سلفه، فمنع الأنشطة السياسية في البلاد، وأدار مالي بشبكة واسعة من الجواسيس والمخبرين، وأسس في سنة 1976 حزب الاتحاد الديمقراطي للشعب المالي، ومنع تشكيل نقابات عمالية باستثناء النقابة الحكومية المسماة الاتحاد الوطني لعمال مالي، ونجح تراوري مرتين بنسبة 99% من الأصوات في انتخابات رئاسية كان هو المرشح الوحيد فيها، ولما كان الدستور لا يسمح للرئيس بأكثر من ولايتين جرى تعديل الدستور في سنة 1985، وبالطبع كان الوضع الاقتصادي يزداد فساداً وسوءاً، وفاقم في أثره الجفاف الذي لم يسبق له مثيل وعانت منه مالي من سنة 1968 إلى سنة 1974 ثم في سنتي 1984-1985، وفي سنة 1985 دخلت مالي في نزاع مسلح مع بوركينا فاسو على منطقة غنية بالمعادن خرجت منه ظافرة، وفي أوائل سنة 1991 خرجت مظاهرات ضخمة في باماكو تطالب برحيله، فقمعها بالنار، وبعد 4 أيام من المظاهرات قام رئيس الحرس الجمهوري بانقلاب عسكري وأودع موسى تراوري السجن.

 

وهنا نتوقف لنقول إن مالي مَثلُها مثل أغلب الدول الأفريقية تتكون من أعراق وقبائل مختلفة، ويشكل العرقين الكبيرين فيها الطوارق في شمالها والسودان في جنوبها، وفي سنة 1990 بدأ الطوارق في التمرد على الحكومة، وهو التمرد الذي أثمر حركة أزواد التي كانت تهدف لانفصال الطوارق بالشمال عن الجنوب ثم تنازلت فصارت تطالب بالحكم الذاتي.

 

وأنشأ الرئيس الجديد أحمدو توماني توري اللجنة الانتقالية للخلاص التي قامت بالإعداد لنظام ديمقراطي في مالي، وجرت بعد سنة انتخابات حرة شارك فيها عدد من الأحزاب فاز فيها الرئيس ألفا عمر كوناري، والذي بقي رئيساً لفترتين؛ حتى سنة 2002، حين انتخب رئيساً أحمدو توماني توري الضابط السابق الذي قاد انقلاب 1991، وفي تلك الفترة استمرت القلاقل المسلحة في شمال البلاد بين أطراف ثلاثة هم الطوارق والعرب والسونغاي، ووقعت الحكومة اتفاق سلام معهم بوساطة جزائرية، وهو أمر تكرر بين التمرد وبين الاتفاق عدة مرات عبر السنين بسبب الانشقاقات في صفوف المتمردين أو تمرد فئات جديدة، واستمرت الأمور بين شد وجذب حتى أول سنة 2112 حين قامت حركة التمرد الطوارقية؛ الحركة الشعبية لتحرير أزواد، بمهاجمة واحتلال مواقع في شمال البلاد.

 

وانتهت المرحلة الديمقراطية في مالي في آذار/مارس سنة 2012 حين جرى انقلاب عسكري أطاح بحكومة الرئيس أحمد توماني توريه وألغى الدستور، وجاء بحكومة عسكرية ترأسها أحمدو هايا سانوغو، فانتهز ذلك متمردو الطوارق وجبهة أنصار الدين، والتي تمثل تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، فاستولوا على تنبكتو وأعلن الطوارق قيام دولة أزواد المستقلة، ولكن جبهة أنصار الدين نحَّت هؤلاء جانباً وأعلنت قيام دولة إسلامية في تنبكتو لم تدم أكثر من 7 أشهر فقد استنفرت فرنسا قوات التدخل السريع وساندت حكومة مالي واستعادت المدينة في أول سنة 2013 دون أن تلقى مقاومة تذكر، ولكن بعد أن هدمت جبهة أنصار الدين كثيراً من معالمها وأضرحتها الأثرية، وجرت انتخابات رئاسية في آخر سنة 2013 فاز فيها إبراهيم أبو بكر كيتا، والذي دخل كذلك في مفاوضات مع مجموعات التمرد التي كثر عددها ودخلت البلاد بسببها في مرحلة انعدام الاستقرار والأمن، وانتهى الأمر بمالي أن أصبحت دولة هامشية فقيرة بعد أن كانت من أغنى دول غرب أفريقيا.

 

تبلغ مساحة مالي قرابة 1.200.000 كيلومتر مربع، ولنقارن ذلك بمساحة مصر التي تقرب من مليون كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها قرابة 15 مليون نسمة، تبلغ نسبة المسلمين فيهم 80%، وهي دولة لا حدود لها على البحر، وتحدها سبع دول: الجزائر من الشمال وموريتانيا من الشمال والغرب، والسنغال وغينيا من الغرب، أما الجنوب فيحدها فيه من الشرق إلى الغرب: النيجر ثم بوركينا فاسو ثم ساحل العاج ثم غينيا، ويمر في مالي نهران كبيران هما نهر السنغال ونهر النيجر.

 

عرفت مالي في التاريخ الإسلامي باسم بلاد التكرور إلى جانب اسمها الحالي، ودخلها الإسلام في حدود سنة 400 فقد ذكر ابن حزم في كتابه جوامع السيرة أنه بلغه: في سنة 430 أنه أسلم أهل سِلّا وتكرور، وهما  أمتان عظيمتان من بلاد السودان أسلم ملوكهم وعامتهم، ولله تعالى الحمد كثيراً.

 

ودخل الإسلام مالي عن طريق التجار المسلمين القادمين إليها من المغرب العربي وشمالي أفريقيا، وكان ملوكها في ما يبدو أول الداخلين فيه، وبدخول مملكة التكرور في الإسلام أصبحت امتداداً للحضارة الإسلامية في المنطقة، وارتقت في سَمْتها لتأخذ صبغة حضارية مبنية على العلم والمعرفة، وسافر كثير من أبناء بلاد التكرور وما حولها في طلب العلم إلى المراكز العلمية في المغرب ومصر، ثم أصبحت مالي مركزاً علمياً أساسياً في غرب أفريقيا يقوم عليه علماء فطاحل يذكرون بنسبة التكروري أو التنبكتي أو الغاني، ولذا رأينا في القاهرة حياً كاملاً يحمل اسمهم: بولاق التكرور، وكذلك رواقاً لطلبتهم في الجامع الأزهر.

 

وللتدليل على ازدهار العلم في المنطقة نذكر ما أورده الأستاذ الزركلي في الأعلام في ترجمة أحمد بابا بن أحمد التُنبكتي، الفقيه المالكي، المولود سنة 963=1556 والمتوفى سنة 1036= 1627، والذي عارض السلطان المغربي المنصور السعدي أحمد بن محمد، المولود سنة 956 والمتوفى سنة 1012، في غزوه لتُنبكت، فقبض عليه وعلى أفراد أسرته واقتيد إلى مراكش سنة 1002، وضاع منه في هذا الحادث 1600 مجلد، ويذكر أن هذا العالم الجليل لما التقى السلطان المنصور سأله: لم أرسلت جيشك وغزوت بلادنا ونحن مسلمون؟ فقال: لكي أوحد بلاد المسلمين. فقال له الشيخ: فلم لم تغزو الترك في تلمسان، وهم أقرب إليكم منِّا؟ فقال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: اتركوا الترك ما تركوكم. فقال له الشيخ أحمد بابا: هذا الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتحمل دار الكتب والمخطوطات في تنبكتو اسم هذا العالم الجليل رحمه الله تعالى.

 

وكانت مالي مشهورة في التاريخ بالثراء الغامر لتوفر مناجم الذهب السطحية فيها، وكذلك لكونها مركزاً تجارياً تعبره القوافل التجارية بين غرب أفريقيا وبين شمالها، وكانت هذه القوافل تحمل الذهب والملح والرقيق الأسود، ويذكر ابن خلدون أن أمير بسكرة قال له في سنة 754: اجتاز بنا هذا العام سفر من تجار المشرق إلى بلد مالي كانت ركابهم اثني عشر ألف راحلة!  ولما انتشرت أخبار ثروتها وذهبها صارت مقصداً لعدد لا بأس به من تجار المسلمين وعلمائهم، من هؤلاء النحوي علي بن أحمد الأنصاري الوادي آشي الأندلسي، والد المحدث المشهور ابن الملقن، فقد خرج الوالد من بلده بالأندلس إلى مالي في أواخر القرن السابع فعلم أهلها القرآن الكريم فأنعموا عليه بدنيا طائلة وارتحل إلى القاهرة فاستوطنها، وولد له ابنه فيها سنة 723.

 

وننقل هنا ما قالته مصادر تاريخية معاصرة عن ملكها عند مروره بالقاهرة في طريقه إلى الحج: وفي سنة 724 قدم إلى القاهرة في طريقه إلى الحج موسى بن أبي بكر سالم التكروري ملك التكرور، وأُدخل إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون، فامتنع من تقبيل الأرض وقال: لا أسجد لغير الله. فأعفاه السلطان وقربه وأكرمه، وبسبب من وجوده كثر الذهب في أيدي الناس وانحط سعر الدينار، وسار إلى الحجاز في ركب بمفرده، وكان مهاباً في قومه فلا يخاطبه أحد إلا ورأسه مكشوف، واقترض من التجار لما رجع مالاً كثيراً فسار معه جماعة إلى بلاده لقبض أموالهم، وكان عفيفاً ديناً اشترى جملة من الكتب، وهو فقيه مالكي، ويقال أن جملة ما كان معه من المال مئة جمل فأنفقها في طريقه حتى استدان، ولما رجع وفى جميع ما عليه، وأرسل لجماعة ممن رافقه في الحج من أكابر المصريين حتى والي مصر إنعامات كثيرة، وكانت هديته إلى السلطان خمسة آلاف مثقال؛ 40.000 دينار، وكان كثير المروءة جداً، وقدم للخزانة السلطانية شيئاً كثيراً من التبر المعدني الذي لم يصنع، ولما رجع بعث للسلطان من هدايا الحجاز شيئاً كثيراً وجامله بالجميل والألطاف والمبلغ له ولأصحابه ولم يدع هو أميراً ولا صاحب وظيفة سلطانية حتى وصله بجملة من الذهب، وبقي موسى في مملكته خمساً وعشرين سنة واستقر ابنه فيها أربع سنين ثم تملك عمه سليمان.

 

وصاحب هذه المملكة هو المعروف عند أهل مصر بملك التّكرور، ولو سمع هذا أنِفَ منه لأنّ التكرور إنما هو إقليم من أقاليم مملكته، والأحبّ إليه أن يقال: صاحب مالي لأنّه الإقليم الأكبر، وهو به أشهر. وهذا الملك هو أعظم ملوك السودان المسلمين وأوسعهم بلادا، وأكثرهم عسكرا، وأشدّهم بأسا، وأعظمهم مالا، وأحسنهم حالا، وأقهرهم للأعداء، وأقدرهم على إفاضة النّعماء.

 

وكان شاباً مليح الشكل حسن الوجه، له رغبةٌ في العلماء، وهو فقيه مالكي المذهب، وقيل: إنه كان معه تقدير عشرة آلاف تكروري، وحدّثني خلق من تجار مصر والقاهرة عمّا حصل لهم من المكاسب والربح عليهم، فإنّ الرجل منهم كان يشتري القميص أو الثوب أو الإزار وغير ذلك بخمسة دنانير وهو لا يساوي دينارا واحدا، وكانوا في غاية سلامة الصّدر والطّمأنينة يجوّز عليهم مهما جوز عليهم، ويأخذون كلّ قول يقال لهم بالقبول والصّدق، ثم ساءت ظنونهم بأهل مصر غاية الإساءة لما ظهر لهم من غشّهم لهم في كلّ قول، وفي تزاحمهم المفرط عليهم في أثمان ما يباع عليهم من الأطعمة والسّلع حتى لو رأوا اليوم أكبر أئمة العلم والدين، وقال لهم إنّه مصريّ امتهنوه، وأساؤوا به الظنّ لما رأوا من سوء معاملتهم لهم.

 

وزار ابن بطوطة بلاد مالي في سنة 753، وذكرها بهذا الاسم، وأقام فيها 7 أشهر تحدث عنها مطولاً في رحلته، ومما قاله عن أهلها: فمن أفعالهم الحسنة:

 

قلة الظلم فهم أبعد الناس عنه، وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه.

 

ومنها شمول الأمن في بلادهم، فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاصب.

 

ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم من البيضان، ولو كان القناطير المقنطرة، إنما يتركونه بيد ثقة من البيضان، حتى يأخذه مستحقه.

 

ومنها مواظبتهم للصلوات، والتزامهم لها في الجماعات، وضربهم أولادهم عليها، وإذا كان يوم الجمعة، ولم يبكر الإنسان إلى المسجد، لم يجد أين يصلي لكثرة الزحام، ومن عادتهم أن يبعث كل إنسان غلامه بسجادته، فيبسطها له بموضع يستحقه بها، حتى يذهب إلى المسجد، وسجاداتهم من سعف شجر يشبه النخل، ولا ثمر له.

 

ومنها لباسهم الثياب البيض الحسان يوم الجمعة، ولو لم يكن لأحدهم إلا قميص خَلِق غسله ونظفه وشهد به الجمعة.

 

ومنها عنايتهم بحفظ القرآن العظيم، وهم يجعلون لأولادهم القيود إذا ظهر في حقهم التقصير في حفظه، فلا تفك عنهم حتى يحفظوه، ولقد دخلت على القاضي يوم العيد، وأولاده مقيدون، فقلت له: ألا تسرحهم؟ فقال: لا أفعل حتى يحفظوا القرآن. ومررت يوماً بشاب منهم حسن الصورة، عليه ثياب فاخرة، وفي رجله قيد ثقيل، فقلت لمن كان معي: ما فعل هذا؟ أقتل؟ ففهم عني الشاب وضحك، وقيل لي: إنما قُيِّدَ حتى يحفظ القرآن.

 

صفحة من تاريخ شعب عريق مسلم في غرب أفريقيا أسس دولته وبنى مجتمعه على الإسلام، يجهل هذه الصفحة كثيرون، وأنا منهم، ولذا أعتذر عن ما قد وقع من أخطاء في الأسماء والأحداث، فالمراجع متضاربة متفاوتة، ونختم ببيتين للعالم الكبير أحمد بابا كانا يزينان مدخل دار الكتب في تُنبكتو:

 

أيا قاصداً كاغو فعج نحو بلدتي ... وزَمْزِم لها باسمي، وبلغ أحبتي

سلاماً عطيراً من غريب وشائق ... إلى وطن الأحباب؛ رهطي وجيرتي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين