استغفار يحتاج إلى استغفار إلا العملي

 

في الوحيين دعوتان إلى طلب المغفرة من الله تعالي إحداهما قولية والثانية عملية ،ومن النصوص الداعية إلى طلب المغفرة قوليا في القرآن الكريم "وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً"[1]

 

"وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ"[2] وعن أَنَس بْن مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً "[3]

 

 والأخطر في الأمر أن يتم أو يقع الاستغفار القولي مع التفريط في  الاستغفار العملي أو أن يقع الاستغفار القولي بينما صاحبه مقيم على المعاصي لا يبرح ، وعلي هذا يحمل الأثر الموقوف "الْمُسْتَغْفِرُ بِلِسَانِهِ الْمُصِرُّ بِقَلْبِهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ» وقول الضحاك: (ثلاثة لا يستجاب لهم: فذكر منهم: رجل مقيما على امرأة زنا كلما قضى منها شهوته قال: رب اغفر لى ما أصبت من فلانة، فيقول الرب: تحول عنها وأغفر لك، وأما ما دمت عليها مقيما فإنى لا اغفر لك، ورجل عنده مال قوم يرى أهله فيقول: رب اغفر لى ما آكل من فلان فيقول تعالى: رد إليهم ما لهم وأغفر لك، وأما ما لم ترد إليهم فلا أغفر لك) قال بعض السلف: (من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب فى استغفاره)  وكان بعضهم يقول: (استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير) .وفى ذلك يقول بعضهم:

 

استَغفِرُ اللهَ مِن اَستَغفِرُ اللهَ ... مِن لَفظَةٍ بَدَرَت خالَفتُ مَعناها

 

وَكَيفَ أَرجُو إِجَابَاتِ الدُّعَاءِ وَقَد ... سَدَدتُ بِالذَّنبِ عِندَ اللهِ مَجراها

 

(قال الفضيل- رحمه الله تعالى-: «استغفار بلا إقلاع توبة الكذّابين؛ ويقاربه ما جاء عن رابعة العدويّة: استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير»[4] ) . (وعن بعض الأعراب أنّه تعلّق بأستار الكعبة وهو يقول: «اللهمّ إنّ استغفاري مع إصراري لؤم، وإنّ تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لعجز، فكم تتحبّب إليّ بالنّعم مع غناك عنّي، وأتبغّض إليك بالمعاصي مع فقري إليك، يا من إذا وعد وفّى، وإذا توعّد تجاوز وعفا، أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الرّاحمين» ) [5]* .وقد ورد الوعيد علي الإصرار على الذنوب كما في صحيح الأدب المفرد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ارْحَمُوا تُرحموا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، ويلٌ لِأَقْمَاعِ القولِ وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ؛ الَّذِينَ يُصرّون عَلَى مَا فَعَلُوا وهم يعلمون".وجاء في وصف المتقين عدم إصرارهم على الذنوب "  وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ "[6] ومع الكثير من صيغ الاستغفار المأثورة عن صفوة الخلق إلا أن الاستغفار الذي لا يحتاج إلى استغفار هو الجانب العملي من شعب الإيمان والتي يسلك بها صاحبها نفسه في عداد من وعدهم  الله تعالي مغفرته ووعده حق لا يتخلف ومن هذه الشعب والأعمال التي يستأهل صاحبها عون الله ومغفرته ما يأتي (التوبة + الإيمان العملي + العمل الصالح ( العقائدي والبدني والمالي )"وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى"[7] ومن ذلك الجانب الأخلاقي بكافة أشكاله " إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً"[8] ومن ذلك الجهاد في سبيل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"[9] ومن ذلك القرض الحسن "إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ"[10] ومن ذلك (وجل القلوب  عند ذكره تعالي إجلالا له + زيادة الإيمان بتلاوة آياته + حسن التوكل على الله + إقامة  الصلاة + إيتاء الزكاة) "إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ*أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ"[11]  ومن ذلك المتابعة الكاملة والشاملة للمصطفي صلوات الله وسلامه عليه "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "[12] ومن ذلك تقوى الله في كل شأن وعلي كل حال فما من مسلك من مسالك البشرية، إلا وورد الأمر فيه بتقوى الله حتى العلاقة الحميمية "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ"[13] وكانت التقوى بشمولها واشتمال كل أمر إلهي عليها ، هي كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «التَّقوَى: الخَوفُ مِنَ الجَلِيلِ، وَالعَمَلُ بِالتَّنزِيلِ، وَالقَنَاعَةُ بِالقَلِيلِ، وَالاِستِعدَادُ لِيَومِ الرَّحِيلِ». ولهذا رصد الله الجائزة عليها بالمغفرة وكان" اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ"[14] "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"[15] هذا وللحديث صلة بحول الله وقوته

 

[1] النساء: 110 مدنية

[2] الأنفال: 33 مدنية

[3] حديث رقم: 4338 في صحيح الجامع

[4] الأذكار (481)

[5] الأذكار (482)

[6] آل عمران : 135-136

[7] طه: 82 مكية

[8] الأحزاب :35

[9] الصف: 10-12

[10] التغابن: 17 مدنية

[11] الأنفال: 2- 4 مدنية

[12] آل عمران: 31 مدنية

[13] البقرة :223

[14] المدثر : 56

[15] الأنفال: 29 مكية

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين