استعادة المبادرة في ظل المؤامرة -4-

عندما اندلعت الثورة السورية على هيئة مظاهرات سلمية تنادي بشعارات التحرر والديمقراطية، ومع شيوع مظاهر التضحية وتوالي سقوط الشهداء وتصاعد الروح البطولية في العقل الجمعي، لم نكن نجرؤ -إلا نادرا- على استفزاز هذا "العقل" اللاعقلاني بدعوات التعقل والتفكر والتصويب، خصوصا مع تخلف النخب الدينية والثقافية عن اللحاق بركب الجموع النضالية، ما أفقد هذه الجموع الكثير من احترامها السابق لبعض مبادئ الدين والثقافة.

وكما هي عادة الثورات، صعدت إلى السطح نخب جديدة للقيادة، قد لا يملك معظمها شيئا يذكر من المؤهلات العلمية والفكرية والعسكرية، غير أنها تتمتع بقدر وافر من صفات البطولة ومواهب التحفيز والتجييش. 

وسرعان ما أشاعت هذه النخب في الأوساط الثائرة من الأساطير ما يشبع نهم العوام للتعويض عن الكرامة المسلوبة، وما يشبع أيضا نهم النخب لاحترام الجماهير. وهكذا آمن السوريون فجأة بأنهم أعظم شعوب الأرض، وأنهم ورثة حضارة تمتد لأكثر من عشرة آلاف سنة، وأن ما عاصروه من الاستبداد لم يكن سوى نكسة عابرة في تاريخهم المجيد وقد أوشكوا على رميها إلى مزبلة التاريخ. 

لم يكن من المقبول الإشارة إلى أي خطأ يقع فيه الثوار طالما كان هناك طاغية يخرق كل قواعد الأخلاق، ولم يكن مسموحا حتى التفكير بوجود لصوص وانتهازيين ومخطئين بين صفوف الثوار، فالطاغية وحاشيته وزبانيته أصلا لم يكونوا في عرف الثورة من السوريين، بل هم -حسب الخطاب الثوري- مجرد عائلة نزحت من إيران واختطفت الطائفة الكريمة، وسرعان ما سيصحوا أتباعها وينتبهوا إلى كونهم جزءا من "الشعب العظيم" الذي لا يمكن أن يقتل بعضه بعضا!

حلم الانتصار السريع

آمنا آنذاك بأن المظاهرات الغنائية والعصيان المدني والضغط الخارجي من الغرب "الديمقراطي المتحضر" هي عوامل كافية لدفع الأسد للتنحي كما فعل صاحباه في تونس والقاهرة خلال بضع أسابيع، بل اعتقد البعض أن تطبيق شريعة غاندي والخروج إلى الشبيحة –المنتمين إلى الشعب العظيم- بلافتات الحب ثم وضع الزهور في بنادقهم سيدفعهم إلى الانشقاق عن الطاغية بمشاهد رومنسية. وعندما اضطر الثوار أخيرا للدفاع عن أنفسهم بالسلاح اعتقدنا أن الغرب -الذي فاجأنا بعدم تحضره- سيسارع إلى خلع الطاغية واسترضائنا خشية نهوض قوتنا على تخوم إسرائيل.

حيكت الأساطير حول بطولات الجيش الحر الذي لا يُقهر، وحورِب إعلاميا كل من يجرؤ على ذكر تجاوزات مقاتليه. كانت لدينا آمال كبيرة في الحصول على السلاح النوعي من الحلفاء العرب وفقا لما تسرب لنا عن مصادر موثوقة، واعتقدنا أن العرب لن يخذلونا -كما فعل الغرب- حفاظا على مصالحهم وعروشهم على الأقل، وتوقعنا أن نشهد زحفا عسكريا كبيرا لقوات الجيش الحر على حلب ودمشق بالتزامن مع عمليات اغتيال نوعية لقادة النظام حتى يتخلخل من الداخل.

لم يتحقق شيء من تلك الوعود والأحلام، وسادت شريعة الغاب في مناطق كثيرة، كما بذل المخلصون جهودا مضنية لتصحيح المسار وقطع يد المتسلقين والعابثين. لكن المشهد اليوم يؤكد أن النظام تمكن من رسم حدود دولته من لواء إسكندرون إلى السويداء، وأن معامل الدفاع ومخازن السلاح الكبرى والمواقع الاستراتيجية ما زالت بعيدة عن يد الثوار، وأن النظام الخبير في ألاعيب المخابرات تمكن من اختراق الكتائب المتطرفة لاختراق صفوفنا وضربنا بأيدينا، وأن هناك كتائب معارضة تفضل تخزين السلاح على استخدامه، وأن جيلنا الحالي يحتاج إلى عقود من التربية والتدريب حتى يفهم ويطبق المبدأ القرآني {واعتصموا}، وأن العرب والغرب معاً -بما لديهم من طائرات بدون طيار وعملاء- لن يسمحوا أبدا بظهور دولة إسلامية في سورية، وأنهم مستعدون لإنفاق 13 مليار دولار لإسقاط مرسي بحكومته المدنية المعتدلة بدلا من إنفاق معشارها لإسقاط الأسد وتمكين ثوارنا الذين يطالبون جهارا بدولة إسلامية لا مدنية، فلماذا يصر الكثير من صناع القرار الثوري على تحدي العالم؟

ما هو المطلوب؟

قيل لي مؤخرا إن إحدى كبريات التشكيلات الثورية اختارت قائد جناحها السياسي بناء على معيار واحد هو "التشدد"، وليس الحنكة ولا الخبرة. وإذا كانت السياسة هي فن الممكن فمن المؤسف أن ينظر إليها الثوار من زاوية المستحيل، وألا يهتموا أصلا بقراءة التاريخ واستشارة الخبراء.

لقد تعلم قادة حركة حماس أن قصر وجودهم على ميدان القتال وإخلاء الساحة السياسية لخصومهم لم يكن في صالحهم، وبالرغم من تحالف خصومهم مع عدوهم لإسقاطهم سياسيا فما زالوا يقدمون نموذجا إسلاميا ناجحا للعمل السياسي المحترف، وبما يمنع الطرف الآخر من الاستئثار بالقرار، وهو أمر لم ينتبه إليه كثير من ثوارنا عندما قرروا الانسحاب من مؤتمر جنيف2.

وقد تعلم حزب العدالة والتنمية التركي أن حرق المراحل يعني حرق المشروع كله، فتدرج في سلم العلمانية والقومية واسترضاء الغرب وإسرائيل قبل أن يكسب أجهزة المخابرات والإعلام والجيش لصالحه.

علينا أن نتخلى أولا عن العقلية التي ترى في "الجهل" فضيلة، فتخاذل بعض المثقفين والمشايخ لا يعني إدانة العلم نفسه، وأن نقرأ التاريخ وعلوم السياسة وفنون التفاوض الدبلوماسي قبل أن نحكم على أنفسنا بأن الثورة لا يمكن حسمها إلا بالقوة.

لنتخلى أيضا عن خطاب تقديس "الشعب العظيم" الذي يخالف منهج الأنبياء في تقريع أقوامهم عندما يخطئون، ولنكاشف أنفسنا بالأخطاء الكارثية التي أفشلتنا مرارا، دون أن نتخلى عن رفع الروح المعنوية للناس.

ولندرك أخيرا أن التملص من المؤامرة اليهودية-البروتستنتية العالمية لن يتم إلا بمؤامرة مضادة تملك المقومات نفسها، وتُحاك بالدهاء ذاته، وتنظر إلى الصراع من منظور يتسع للعالم كله ويمتد لقرون قادمة، وتستند إلى مقاصد الشرع بالتدرج عند الضرورة، وتدرك أن الإعلان عن دولة إسلامية سنية في أي قطر على الأرض اليوم سيدفع العرب والغرب لإفشالها قبل أن تنضج.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين