استعادة المبادرة في ظل المؤامرة -3-

عندما أعلن الرئيس الأميركي البروتستنتي وودرو ولسون بعد الحرب العالمية الأولى مبادئه الأربعة عشر التي حاز بها جائزة نوبل للسلام، كان يُعلن ضمنيا أن مفهوم المجتمع الدولي الحديث للعدالة يعني بالضبط تحقيق مصالح الغرب على حساب المسلمين، حيث يُعطى حق تقرير المصير "للشعوب الأخرى غير التركية التي تخضع لها"، أي تحديدا الأقليات اليهودي والمسيحية، بينما يعدّ الغرب العدة لاحتلال بقايا الدولة العثمانية وتهجير الفلسطينيين.

ومنذ أن أُلحق الرئيس جون كيندي بسلفه إبراهام لنكولن رميا بالرصاص، في حادثتين تتجه فيهما أصابع المطلعين إلى اليهود، بات واجبا على كل طامح إلى البيت الأبيض أن يجاهر بطقوس الولاء لسلطة دينية واحدة في العالم، مرتديا قبعة اليهود وخاشعا عند حجارة حائط البراق (المبكى) في القدس (أورشليم)، ولا فرق في ذلك بين كون المرشح جمهوريا أو ديمقراطيا، إنجيليا متشددا أو مؤيدا للشذوذ الجنسي.

يلتقط المحللون هذه الشواهد ثم تختلف نتائج تحليلهم بتباين المنطلقات والنوايا، وتنتهي غالبا بتنميط الخطاب السياسي في أطر المصالح المادية البحتة، وهو ما يحقق بالضبط مصالح السلطة الخفية التي أعاد مفكروها خلال ثلاثة قرون صياغة العقل الغربي وفق مناهج مادية سطحية.

وفي العالم العربي المُحتل فكريا منذ سقوط الخلافة، اعتمدت معظم وسائل الإعلام ومراكز البحث والجامعات المناهج المادية البحتة، حتى أصبح منهج الدكتور عبد الوهاب المسيري المرجع الرئيس لدراسة الصهيونية بالرغم مما يحمله من تناقضات وتجاوزات.

ويمكن للباحث الجاد أن يكتشف في مؤلفات المسيري سعيه الدؤوب لإعادة تفسير كل الأحداث والنصوص والتصريحات بما ينفي أي إدانة قد تلحق بالدين اليهودي أو أي ربط للصهيونية بالعقيدة، ثم صياغة هذه التفسيرات ضمن "منهج مركب" قائم كليا على الفكر الماركسي -اليهودي بامتياز- للتعامل مع المسألة اليهودية بصفتها مجرد نظرية عنصرية نشأت في الغرب الإمبريالي، واستغلت اليهود بصفتهم "جماعة وظيفية" مغلوب على أمرها لتأسيس "جيب استعماري" يحقق مصالح الرأسمالية (!).

وقد ساعدت عودة المسيري من الشيوعية إلى الإسلام في أواخر حياته على منحه الشرعية بين الإسلاميين أنفسهم، لاسيما مع صدور أعماله النقدية للغرب وللعلمانية الشاملة، دون أن ينتبهوا إلى أنه لم يرفض ما يسميه العلمانية الجزئية ولم يتخلّ عن منهجه التحليلي الماركسي!

لكن ثمة رؤية أخرى تستند إلى التاريخ المقارن لتكشف عن الأثر العقائدي اليهودي-البروتستنتي في الصهيونية والاستعمار، كما في مؤلفات الباحثة ريجينا الشريف. وهناك رؤية تذهب إلى ما هو أبعد باستنادها إلى وثائق التاريخ الخفية لتكشف عما وراء البعد العقائدي المعلن، كما في مؤلفات وليام جاي كار وليو تكسيل وشيريب سبيريدوفيتش. 

وهناك أيضا من جمع بين كل هذه المصادر وأعاد قراءتها في ضوء القرآن والسنة ليستدل على أن سيطرة السلطة الخفية على البيت الأبيض ليست إلا خطوة على طريق استعادة "هيكل سليمان" في القدس وحكم العالم منه، كما فعل د. بهاء الأمير وغيره.

ظواهر معلنة

منذ إسقاط الخلافة على يد الماسون وصعود يهود الدونمة إلى السلطة في عاصمتها، لم تغب عن عيون العقلاء أصابع اليهود في المؤامرة، فالأمير فيصل بن الحسين الهاشمي يعقد اتفاقية مع حاييم وايزمان لتحقيق وعد بلفور، والحاخام الأكبر في الدولة العثمانية حاييم ناحوم ينتهي من تمثيل تركيا في معاهدة لوزان ثم يتوجه إلى مصر لدعم ثورة يوليو، وعبد الناصر يحتكر السلطة ويسجن الإسلاميين.

ثمة مقالات وكتب منشورة على الإنترنت تسرد أدلة ووثائق عن الأصل اليهودي لعدد من قادة الدول العربية، كما يثبت بعضها نشأة عبد الناصر في حارة اليهود وتلقي صدام حسين وحافظ الأسد دعما وتدريبا على يد جهات غربية قبل وصولهما إلى الحكم. وعندما لا تبدو هذا الأدلة مقنعة، فسنجد في السلوك المعلن لمعظم هؤلاء القادة ما يكفي من البراهين، وسنجد أيضا في مقتل الملك فيصل آل سعود عام 1975 دليلا واضحا على المصير الحتمي لكل متمرد.

وقد أثبت العميل السابق لوكالة الأمن القومي الأمريكية جون بيركنز في كتابه "الاغتيال الاقتصادي للأمم" تورط أمريكا في ابتزاز قادة دول العالم الثالث اقتصاديا، ثم سعيها لتصفية كل من يتمرد منهم، كما أكد أوزوالدو دي ريفيرو في كتابه "خرافة التنمية الاقتصادية" حرص الغرب على عرقلة أي دولة نامية تسعى للحاق بالركب. وإذا كان هذان المؤلفان وغيرهما يثبتان تلك الجرائم من منظور مادي، فلنا أن نضيف إليها البعد العقائدي عندما يتعلق الأمر بحاكم إسلامي، وعندما ندرك الخلفية الصهيونية لصناع القرار في الغرب.

وتقدم لنا ولايتا جورج بوش الابن فرصة ذهبية لفهم الكثير من الأسرار المعلنة، ففي التقارير التي نشرتها آنذاك كل من وزارة الخارجية والكونغرس ومؤسسة راند ومعهد السلام الأمريكي وغيرها، تتجلى أبعاد الصراع مع أي مشروع إسلامي يهدف إلى الخروج عن سلطة واشنطن المحكومة من قبل العقل اليهودي بالمباشرة أو بالوكالة.

وإذا كان أنصار هذه الرؤية من أبناء جلدتنا يرون في إدارة أوباما بديلا فقد أسقطت دماء نحو مئتي ألف شهيد في سورية هذه الأسطورة، وخصوصا مع انتهاء مسرحية الضربة المنتظرة ضد النظام بدعوى تجاوز خط الكيماوي الأحمر والانتقال من محاسبة الجاني إلى نزع أداة جريمته، فضلا عن إمهاله سنين أخرى حتى يتحول المجني عليه إلى جانٍ مثله بتصعيد "الإرهاب" ومساواة الطرفين.

استعادة المبادرة

الثوار في سورية شاهدوا بأعينهم حقيقة السلطة الخفية دون أن يقرأوا شيئا عن بروتوكولات حكماء صهيون ووصايا روتشيلد، فقدموا في كل مناسبة رؤى قطعية لطبيعة الصراع الذي لم يعد يقبل التنازل عن شيء من المكتسبات لصالح أي خطة تآمرية، كما صاغوا في ميثاق الجبهة الإسلامية –على سبيل المثال- رؤية واضحة لمستقبل سورية الإسلامي.

لقد جردت هذه التجربة -بالاحتكاك المباشر مع أقطاب القوى العالمية- كل الرؤى التي كانت تفترض وجود ذرة من ضمير أو بقايا إنسانية لدى صناع القرار الخاضعين لإرادة بناة الهيكل، لاسيما بعد أن تجلت الوحشية الطائفية التي يُقتل ويُغتصب بها أطفال ونساء البلد على يد طائفة من أبنائه، وبعد أن توالت الشواهد على تواطؤ الغرب مع هذه الطائفة لمنع أي ظهور للقوى الإسلامية مهما كانت معتدلة.

إني لا أدعو إلى التشاؤم طبعا كما يتداعى إلى ذهن كل من يسوؤه التفكر في سوداوية هذا الواقع، لكن التفاؤل الساذج الذي يصر عليه كثير من المفكرين لم يجدِ نفعا في المقابل. والمطلوب هاهنا ليس تخويف الأمة من النهوض والبذل بإحباط همتها بل توجيه طاقاتها –المحدودة أصلا- نحو ما قد يؤدي في تراكمه النهائي إلى خلاصها بدلا من هدره في عالم نعلم مسبقا أن معظم سياقاته وعلاقاته تؤدي إلى المزيد من الفشل والضعف والهزيمة.

إن تجاهل حقيقة المؤامرة والانشغال بالمعارك الجانبية هو كتجاهل أصل المرض الذي يفتك ببدن المريض من الداخل والانشغال بتخفيف أعراضه، كما أن المغامرة بالتصدي لأصل المرض فجأة دون امتلاك لأدوات وخطة العلاج قد تؤدي إلى استفحال الخطر وتعجيله.

الحل إذن يبدأ بالوعي والانتباه والفهم لحقيقة المؤامرة وللأيدي التي تحركها في الخفاء، ثم وضع الخطط الشاملة وبعيدة المدى للتصدي لها، مع تجزئة المراحل لتحقيق أهداف قريبة ومتوسطة المدى بما يضمن تحقيق الهدف البعيد بفعل التراكم.

هذا الخطاب موجها للخاصة وصناع القرار قبل العوام في المجتمع، فعوام اليهود بدورهم منشغلون بأهداف مرحلية صغيرة تُرمى بين أيديهم ويُدفعون لتنفيذها كي يحققوا في النهاية مصلحة النخبة. وسواء صدقنا باجتماع خيوط اللعبة لتنتهي في يد اليهود، أم أصر بعضنا على وضعها في يد طغمة إمبريالية لا عقيدة لها، فإن النتيجة –خلال المرحلة الحالية على الأقل- واحدة، وقد لا يكون الخلاص منها ممكنا إلا باللجوء إلى المؤامرة المضادة.

 

يُتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين