استعادة المبادرة في ظل المؤامرة 2

 

محاولة للفهم والفعل

خلال الحرب العالمية الأولى تمكنت القوات البريطانية واليونانية من محاصرة عاصمة الخلافة العثمانية الآستانة (إسطنبول)، ما دفع آخر الخلفاء محمد وحيد الدين إلى إعلان الاستسلام حفاظا على البلاد والعباد. لكن الضابط المتحدر من يهود الدونمة مصطفى كمال رفض الاستسلام، ومع أن قواته لم تكن لتفعل شيئا أمام الحلفاء إلا أن القائد البريطاني هارنغتون سحب قواته على الفور مفسحا الطريق لكمال كي يطارد اليونانيين ويخرج من المعركة منتصرا كالأبطال. وهكذا أطلق على نفسه لقب "أتاتورك" أي أبو الترك، واستكمل مهمة إنهاء الخلافة وتمزيق العالم الإسلامي إلى قوميات متصارعة.

تكررت هذه المسرحية عدة مرات في عالمنا الإسلامي الذي لم يُفق بعد من صدمة سقوط الخلافة، وكانت الشعوب تبتلع الطعم كل مرة تحت وطأة الافتقار إلى البطل المخلّص.

ففي التاريخ المصري ثمة حقائق أخرى تخالف الرواية الرسمية، بدءا من انتقال الحاخام الأكبر حاييم ناعوم من تركيا بعد استكمال مهمته إلى مصر لدعم ثورة يوليو، ومرورا بصناعة الضابط المغمور جمال عبد الناصر في حارة اليهود بالقاهرة خلال طفولته، ووصولا إلى إبرازه -عبر العدوان الثلاثي- بطلا قوميا يتجاوز حدود مصر والعالم العربي إلى العالم الثالث كله تحت مسمى حركة عدم الانحياز.

لكن هذه الزعامة الأممية لم تكن سوى فقاعة، إذ ينقل محمد حسنين هيكل عن صديقه عبد الناصر قوله للكاتب البريطاني ريتشارد كروسمان إنه لا يشغل نفسه بإسرائيل وإنما يركز على التنمية الداخلية في مصر، مبررا بذلك قراره خفض ميزانية القوات المسلحة.

المشهد ذاته تكرر مؤخرا، وذلك بالرغم من أن غبار الثورات العربية لم ينجل بعد، وحتى مع الانتشار الواسع لوسائل الإعلام الجديد والأقمار الصناعية، إذ تُرك وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي ليقوم بمهمة إعادة مصر إلى ما قبل الربيع العربي بعقود، ولكن تحت مسمى تخليص المصريين من "مؤامرة أخونة الدولة"، وفي صورة البطل القومي الذي يستعيد أمجاد عبد الناصر.

استئصال الهوية

في التجارب الثلاث السابقة، نجد أن هذه القوى كانت تعمد بعد تسلطها على الفور إلى الاستئصال السريع والعنيف لكل ما يمت إلى الإسلاميين بصلة، ففي تركيا الكمالية كان الماسونيون يسابقون الزمن لاستغلال حالة الفوضى بعد سقوط الخلافة وإجراء تعديلات عميقة يصعب التراجع عنها لاحقا، فتم على نحو غير مسبوق استبدال حروف اللغة بحروف أمم أخرى، وحُظرت كل مظاهر الإسلام وعباداته مع فرض التتريك والعلمنة بقوة السلاح والدستور والقانون، فضلا عن قوة مناهج التعليم ووسائل الإعلام.

وفي مصر أرسل رئيس المحافل الماسونية تهنئة للرئيس عبد الناصر بوصوله إلى الحكم وتلقى ردا مماثلا، ثم وظفت الصحافة والدراما والجامعات معظم طاقاتها للسخرية من العلماء والمحجبات واللغة الفصحى، ولوحقت مظاهر التدين بدعوى التخلص من "الرجعية"، فضلا عن الحرب المعلنة وغير المسبوقة التي شنها النظام على الإسلاميين ليؤسس ظاهرة التعذيب والإعدام الجماعي في السجون.

ولا يخفى على المتابع استحضار هذه التجارب في مصر الحالية مجددا، فلا يكاد يمر أسبوع منذ الانقلاب العسكري الأخير دون أن نسمع عن خبر أكثر غرابة من سابقه، بدءاً بحرق ونهب مقرات الإخوان واعتقال كل قيادات الإسلاميين –عدا المؤيدين- ووصولا إلى مهازل تعديل الدستور وخنق الإعلام وملاحقة أي رياضي أو فنان أو طالب مراهق يرفع شعار رابعة.

مرحلة التراخي

بالرغم مما عاناه المسلمون في تركيا من صدمة سقوط الخلافة وتبعاتها العنيفة، فقد برزت محاولات عديدة لمقاومة الإرهاب الفكري والسياسي، لكن السلطات التي رفعت شعارات الحداثة والديمقراطية لم تتحرج في المقابل من إعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس عام 1960 بمحاكمة هزلية لمجرد اجترائه على استعادة بعض مظاهر الإسلام، كما قام الجيش بأربعة انقلابات عسكرية لقطع الطريق على كل المحاولات التي بذلها الإسلاميون لاستعادة هوية الأمة.

وبعد نجاح تجربة أردوغان في سحب البساط من تحت خصومه، كُتبت عشرات الأبحاث والتحليلات في رصد سياسة التدرج التي انتهجها حزب العدالة والتنمية وصولا إلى التمكين. لكن التحليل قد لا يكتمل دون تسليط الضوء على الخلفية العلمانية للحزب بالرغم من عمقه المحافظ، وعلى الاعتزاز بأصالة الهوية القومية –تحت مسمى الوطنية- الذي يبديه الحزب وسط تأييد واسع من الشعب والمعارضة.

إذن فقد أدت العلمانية المتطرفة -التي كرسها الكماليون- مهمتها الأساسية بنجاح خلال ثمانية عقود من احتكار السلطة، وهي نزع الانتماء الإسلامي واستبداله بالقومية التركية، أما مظاهر الإسلام من الحجاب والأذان وبقية الشعائر فلا يمانع الماسونيون في نهاية المطاف من إعادتها، بل هي مظاهر شائعة في كل الدول العلمانية الأوربية التي لا تضم سوى أقليات صغيرة من المسلمين.

وهذا التراخي قد طُبق أيضا في الدول العربية والإسلامية التي رزحت ردحا من الزمن تحت وطأة الإرهاب الفكري العلماني، فبعد النفوذ العلني للماسونية في مصر تراجعت إلى الصفوف الخلفية لتؤدي أدوارها بعيدا عن الإعلام، فأغلقت محافلها وصحفها ونواديها وتوسع هامش الحرية للدعاة في المجال الوعظي بعيدا عن السياسة.

والأمر ذاته يقال عن سورية التي تسللت إليها الماسونية عام 1920 في ظل الاحتلال الفرنسي، ثم عرفت أبشع أشكال الإرهاب الفكري والأمني والعسكري منذ الانقلاب البعثي عام 1963، لتصل أخيرا إلى مرحلة التراخي بعد أن تراجع الإسلام بين صفوف المجتمع من مستوى الهوية إلى دائرة التقاليد.

وفي ضوء هذا التحليل، تبرز تحديات كبرى أمام الإسلاميين وسط زوبعة الثورات العارمة، وخصوصا بعد انتقال الثورة السورية إلى دائرة الصراع الطائفي المفتوح، وانكشاف رؤية القوى الدولية الكبرى لهذا الصراع بعيدا عن كل ما نادى به الثوار طويلا من شعارات الحرية والكرامة، ما يستدعي التوقف عند بعض النقاط المؤجلة إلى المقال القادم. 

 

يُتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين