استعادة المبادرة في ظل المؤامرة -1-

 

 

 

محاولة للفهم والفعل

 

في عام 1773 دعا المصرفي الألماني اليهودي آمشل باور روتشيلد اثنا عشر يهوديا من كبار صيارفة العالم، وأطلعهم على خطته لابتزاز العالم اقتصاديا وسياسيا، والاستفادة من أخطاء ثورة كرومويل التي دمرت بريطانيا قبل ذاك التاريخ بنحو مئة سنة على يد اليهود، وذلك لإنجاح الثورة الفرنسية على نحو أفضل وبمكاسب أكبر.

يقول ضابط المخابرات الكندي الراحل وليام كار في كتابه "أحجار على رقعة الشطرنج" إن روتشيلد الذي لم يزد عمره آنذاك عن الثلاثين لم يكن هو صاحب الخطة التي تهدف إلى سيطرة اليهود على العالم بعد حروب عالمية ثلاث، وإنما كان يستعرض الصورة النهائية للمخطط الشيطاني الذي سبق أن نشرته حكومة بافاريا الألمانية بعد انكشافه لمخابراتها بالصدفة قبل أكثر من مئة سنة، وهو المخطط الذي لم يقتنع آنذاك أحد بمقاومته مما سمح له بإطلاق شرارة الثورات.

عاد المخطط للظهور مجددا في كتاب نشرته المخابرات الروسية تحت مسمى "بروتوكولات حكماء صهيون"، لكن عدم الاكتراث سمح له مرة أخرى بالنجاح في دق الطبول لحربين عالميتين، أسفرتا عن قتل وجرح عشرات الملايين وإسقاط الخلافة وإنشاء إسرائيل، فضلا عن إعادة ترتيب قوى العالم وتوزيع مخزون الذهب بما يحقق مصالح اليهود.

لم يتطلب وضع المخطط معجزة عبقرية، فالإفساد لا يحتاج إلى ما هو أكثر من استغلال غرائز السلطة والمال والجنس والتحرر، وقد تعلم واضعو المخطط من كتابهم المقدس أن يهوديا واحدا يمكنه أن يدمر أمة كاملة عبر التركيز على رأس السلطة واللجوء إلى الخداع والخبث وتحفيز الشهوات، كما فعل اليهودي مردخاي مستغلا ابنة أخيه أستير لإغواء وغسيل دماغ إمبراطور الفرس أحشويرش، ثم استخراج ولي عهد بمواصفات مناسبة من سلالته والسيطرة عليه، لتحقيق مصالح بني إسرائيل على حساب الفرس.

المبادئ

ابتدأ روتشيلد خطته الشيطانية بمبدأ بسيط يفترض أن معظم الناس يميلون للشر أكثر من الخير، ما يعني سهولة تنفيذ المؤامرة إذا بُنيتأنظمة الحكم على العنف وأُشيعت بين العوام شهوة التحرر من الاستبداد وسهولة التخلص منه، ولم يتخوف هذا الشيطان من تحقق الحرية السياسية طالما أنها ستبقى مجرد نظرية. 

كان روتشيلد محقا، فالديمقراطية الفرنسية -والغربية عموما- لم تحقق سوى تداول السلطة بين أحزاب متفق عليها مسبقا، وإذا كان البيت الأبيض قد استقبل أخيرا رئيسا أسود مرضيا عنه فإن فرنسا لم تحظ حتى الآن بنائب أسود، ولم يفكر أي مسلم بالترشح لرئاسة دولة غربية مهما كانت ثقافته، وإذا ترشح هو أو غيره ممن لا يُحقق رضا السلطة الخفية فستتكفل وسائل الإعلام ومصادر التمويل وجماعات الضغط التي تحتكرها تلك السلطة بإسقاطه.

أكد روتشيلد لأصدقائه أن الجماهير ستبقى تحت سلطتهم طالما ظلت مصادر الخمور والمخدرات والجنس والمصارف في قبضة اليهود، ولم يترك لليأس فرصة للتسلل إلى قلوب مستمعيه عندما ذكرهم بسهولة إشعال شرارة الحرب بين شعوب أوربا وطوائفها، تمهيدا لإبقاء الفوضى قائمة وعجلةَ الاقتراض وصناعة السلاح دائرة. وهو الدور الذي وصفه القرآن الكريم بوضوح في قوله {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله}، كما سجّلته السنة في موقف اليهودي ساش بن قيس الذي حرّض الأوس والخزرج على بعضهم في ساعة واحدة، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا ليتساءل {أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟}.

كان واضعو الخطة من كتمة الوحي (التوراة) يعلمون أن مبادئ الثورة من الحرية والإخاء والمساواة ليست سوى أحلام طوباوية تُخدع بها الشعوب لتنتفض من أجلها، وكانوا يراهنون على الدهماء التي لم تنشأ على نور الوحي فتردد شعارات التحرر كالببغاوات، فأكد روتشيلد لعصبته الشيطانية أن نظام الحكم الطبقي القائم على أرستقراطية النسب لا يمكن إسقاطه إلا بشعارات الديمقراطية الشكلية، وأن النظام البديل سيقوم في جوهره على "أرستقراطية الثورة" التي تُشترى بالمال وسطوة الإعلام.

راهن روتشيلد أيضا على "خيبة آمال الشعوب"، فبعد أن تُملأ رؤوس العوام بشعارات الحرية والرخاء سيجدون أن تطبيقها مستحيلا، ونحن نرى اليوم أن حرية النقد في الغرب يُسمح بها في حق الأديان والمقدسات وأصحاب السلطة الظاهرية والمتداولة فقط، لكن هذه الحرية تقف عند حدود المقدسات الجديدة التي فرضتها السلطة الخفية، فلا يُسمح لأحدبانتقاد الشذوذ الجنسي، ولا بتناول كل ما يمس مصالح اليهود مثل الهولوكوست.

ثوراتنا

يثير فتح باب المؤامرة في سياق الربيع العربي الكثير من اللغط لما يستحضره من الاتهامات التي أطلقها الطغاة ضد خصومهم منذ انطلاق الشرارة الأولى، مما يجعلنا -نحن مؤيدي الثورات- نتخذ موقفا قد يجنح أحيانا إلى الإنكار المسبق لهذا الطرح جملة وتفصيلا.

ونظرا لجلاء الحق والباطل في طرفي الصراع، وهما الشعب والطغاة، فإن أي طرح لخط ثالث لم يحظ خلال السنوات الثلاث الماضية بأدنى قدر من المصداقية، خصوصا وأن حكومات الربيع العربي التي صعدت على أنقاض عروش الطغاة عبر الانتخابات النزيهة حظيت بغلبة إسلامية واضحة، مما بدا للكثيرين أنه أشبه باكتمال حلم ظل المسلمون يتشوقون إليه منذ سقوط الخلافة.

لكن نشوة الانتصار سرعان ما تبددت مع اكتمال دورة السنة الأولى في مصر، لينفرط عقد المؤامرة وتنكشف فصولها المدبرة منذ وصول مرسي إلى الحكم، وهي فصول كادت أن تنجلي أيضا في تونس التي مازالت ترزح تحت وطأة الدولة العميقة، بينما تتضارب التحليلات بشأن الوضع الليبي المضطرب.

وإزاء ذلك، تعود إلى الذاكرة تلك الشواهد الكثيرة التي حشدها أنصار مبارك والقذافي على تورط السلطة العالمية الخفية في المؤامرة ضد الطاغيتين. 

لكن الغاية تبدو اليوم مختلفة في محاولة فهمنا لمساعي أقطاب المؤامرة إلى الزج بهذه البلاد في صراع يخرج منه الجميع خاسرين، وليس بأي حال من الأحوال إسقاط طغاة كانوا في الماضي حلفاء لهذا العدو والسماح للإسلاميين بخلافتهم على الحكم.

إن هذا الطرح لا يعني إطلاقا التراجع أو التنازل عن شيء من مراحل الثورة السورية أو مكتسباتها، ولا حتى التوجس من أي عدو خفي، فنحن أولى باستكمال الثورة وما بعدها مهما تجلت لنا مصالح اليهود في انطلاقها واستمرارها، والمأمول الآن هو إعادة النظر في المنجَز والمأمول أملا في إعادة ترتيب أوراق المرحلة وفق هذا المنظور، وبأقصى قدر من الحذر وأقل ما يمكن من العاطفة، وهو ما سنحاول مناقشته في مقالات قادمة.

 

يُتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين