استشعار المسؤولية في القرآن الكريم (2)

"من تحقيقِ المناط إلى ارتفاعِه"

المبحث الثاني

الأسُس النظرية للمسؤولية

1- المسؤولية والأخلاق:

الأخلاق هي أفعال اختيارية تصدر عن الْمُكلَّف ويُناط بها المدح أو الذم، وبذلك ندرك علاقة الأخلاق بالمسؤولية نظريًّا من ثلاثة أوجه:

الأول: ثبوت الاختيار للإنسان، وهذا وصف مشترك بين المسؤولية والفعل الأخلاقي، فما يصدر عن الْمُكرَه لا يتحمل الشخصُ مسؤوليَّته ولا يُعدُّ مذمومًا عليه أخلاقيًّا.

الثاني: التَّكليف وهو شرط تحمُّلِ المسؤولية ويندرج تحت القدرة، وهو شرطٌ أيضًا لتحمل مسؤولية الفعل الأخلاقيِّ، فإذا انتفى التَّكليفُ لعارضٍ من عوارضه كالجنون والصِّغر انتفت المسؤولية وانتفَى الفعلُ الأخلاقيُّ.

الثالث: المدحُ على الفعلِ والذمُّ على الترك، وهما ملازمان للفعل الأخلاقي، فقول الصدق وأداء الحقوق وترك القبائح مسؤولية وهو في الوقت نفسِه فعل أخلاقي يُمدَح فاعله، والقتل ظلمًا وإهدار الحقوق يُذم مرتكبه لأنَّه أخلَّ بالمسؤولية، وهو فعل غير أخلاقي أيضًا؛ لذا لا تدخل المباحات كالنوم والشرب في مسمَّى المسؤولية ولا في الفعل الأخلاقي إلا إذا تجاوزت المباحات حدودها وأثَّرت في غيرها، عندئذٍ تثبت المسؤولية ويُوصف الفعل بأنه غير أخلاقي، ومنه السهر والإفراط في النوم المؤديان إلى التفريط بالحقوق من صلاة أو وظيفةٍ ونحوهما.

وعمليًّا ثمَّة ارتباط بين المسؤولية والفعل الأخلاقي، والآيات في هذا من الكثرة بمكان، من ذلك قول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36].

2- المسؤولية والتكريم الإلهي:

الإنسانُ الْمُكرَّم هو الإنسان المسؤول، وأساس ذلك العقل قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] يقول الشيخ ابن عاشور: (فَأَمَّا التَّكْرِيمِ فَهِيَ مَزِيَّةٌ خَصَّ بِهَا اللَّهُ بَنِي آدَمَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ...، وَالتَّكْرِيمُ: جَعْلُهُ كَرِيمًا، أَيْ نَفِيسًا غَيْرَ مَبْذُولٍ وَلَا ذَلِيلٍ فِي صُورَتِهِ وَلَا فِي حَرَكَةِ مَشْيِهِ وَفِي بَشَرَتِهِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانِ لَا يَعْرِفُ النَّظَافَةَ وَلَا اللِّبَاسَ وَلَا تَرْفِيهَ الْمَضْجَعِ وَالْمَأْكَلِ وَلَا حُسْنَ كَيْفِيَّةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَا الِاسْتِعْدَادَ لِمَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعَ مَا يَضُرُّهُ، وَلَا شُعُورَهُ بِمَا فِي ذَاتِهِ وَعَقْلِهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ فَيَسْتَزِيد مِنْهَا وَالْقَبَائِحِ فَيَسْتُرهَا وَيَدْفَعهَا). 

3. المسؤولية والجزاء بين النية وفعل الجوارح:

الجزاءُ الإلهيُّ في الدنيا والآخرة سواء أكان تكريمًا أم تعذيبًا، والجزاء الدنيوي العادل في الدنيا سواء أكان عقوبة أم تكريمًا؛ كلاهما مرتبط بأداء المسؤوليات، فمن قام بمسؤولياته حق القيام استحق الثواب، ومن أخلَّ بالمسؤولية استحق العقاب، ويربط القرآن الكريم أداء المسؤولية بفعل الجوارح والنية، فحُسْن النية مثلا ومحبة الخير للمسلمين جزء من المسؤولية، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور:19] ولكن القيام بالفعل وحده دون طلب الثواب من الله تعالى يُسقط المسؤولية وإن كان المكلف مقصِّرًا لتفريطه بالثواب، فلو ترك الإنسان القتل والزنا وشهادة الزور مثلًا خوفًا من الناس لا يُثاب على هذا الترك وإن امتثلَ لمقتضى المسؤولية؛ ذلك أنَّ المقصود بتحمُّل المسؤولية هو الجانب الدنيوي الذي يعود نفعه إلى الغير، أما النية في مثل هذه الأحوال فيعود نفعها إلى الفاعل، ومن ذلك الإنفاق على الزوجة، فالمقصود هو كفاية من يعوله المكلَّف أما نيِّة الامتثال لأمر الله فهي للحصول على الأجر.

وبين المسؤولية والجزاء تلازم، فالتفريط بالمسؤولية يترتب عليه جزاء، وقد بيَّنت قواعد الشريعة أن العفو عن العقوبة الأخروية عند الإخلال بالمسؤولية إنما يكون في حقوق لله تعالى، وقد تسقط العقوبة الدنيوية أيضًا ما لم تكن حدًّا بلغَ القاضيَ خبره، أما حقوق الناس فإسقاط عقوباتها الدنيوية والأخروية مرهون بعفو أصحابها في الدَّارين، فمن مسؤوليات الشخص أن لا يقتل ولا يغتصب ولا يظلم، ومن فعل أخلَّ بمسؤوليته، فإسقاط الله لعقوبة هذه الجرائم رهنٌ بإسقاط أصحابها لها، وهذا المبدأ يُمثِّل أعظم حقٍّ إنساني متعارف عليه اليوم؛ فليس للرئيس أو الخليفة إسقاط عقوبة يتعلق بها حق لآدمي شرعًا.

4- المسؤولية والتكليف:

مصدر المسؤوليات عند أهل السنة هو الوحي، فما حسَّنه الشرع فهو حسن وما استقبحه فهو قبيح، وهذا هو مقتضَى التكليف، فالعقل مناطه وبعثة الرسل شرطه، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] خلافًا للمعتزلة الذين يرون العقل مُحسِّنًا ومُقبحًا، وتتسع دائرة الشرع في ضبط المسؤوليات لتشمل أغلب شؤون الحياة، ولا ننسَ أن مسؤوليات العرف مسؤوليات شرعية؛ فالعرف مصدر من مصادر التشريع.

5- المسؤولية والحكمة الإلهية:

التزام الناس بمسؤوليات شخصية وغيرية هو غاية الحكمة من الخلق وإلا صار خلق الناس عبثًا، وهو محال على الله، فالإنسان لم يُخلق سُدًى ولا عبثا بلا مسؤولية، يقول سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].

من مجلة ( مقاربات) التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري، العدد السادس

الحلقة الأولى هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين