استشعار
الاستغناء عن الخلق
محمد
محمد الأسطل
إن الله
خلقنا، وهو أعلم بنا مِنَّا، فلما أوحى لنبينا أن من تمام عبوديتنا ألا نسأل الناس
شيئًا، وقد نص في كتابه أنه لم يكلف نفسًا إلا وسعها، علمنا أن الاستغناء عن الناس
أمرٌ مقدورٌ، وإن كان شاقًا معسورًا !
اضرع إلى اللـه لا
للنـاس
** واقنع بعزٍ ولو
كان في اليـاس
واستغن عن كل ذي رحـم
** فإن الغني من
استغنى عن الناس
أخي:
أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث ابن عمر م أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ( مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فَأعِيذُوهُ، وَمَنْ
سَأَلَ بِاللهِ فأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ
إلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا ما تُكَافِئُونَهُ بِهِ
فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَد كَافَأْتُمُوهُ ) سنن أبي
داود، رقم الحديث: (1672)، ص (258).
فقد جعل
النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء جزاءً يُكَافئ المعروف، وفي هذا إشارة لا تخفى
إلى أن العبد يُمكِنُه أن يستغنى عن الناس في كل حاجة حتى الدعاء، ولذا أطل علينا
ابن تيمية بعبقريته الفذة يقول:
إذا قال
الأخ لأخيه: ادعُ لي، فإن الأصل ألا يَقْصِدَ الاستفادة من دعاء أخيه؛ إذ التوجه
إلى الله أصلٌ عنده، وإنما يَقْصِدُ حصول الداعي بِمِثْلِ دعائِه؛ لقول النبي صلى
الله عليه وسلم: ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو
لأَخِيْهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ بِدَعْوَةٍ إِلَّا وَكَّلَ اللهُ بِهِ مَلَكًا
كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيْهِ بِدَعْوَةٍ قَال المَلَك: آَمِين وَلَكَ بِمثل )
وإن كان ينتفعُ باستجابة الله دعاء الداعي له [ابن تيمية / الرد على البكري
(1/219)] !
سَمِعَت
عائشةُ ل الحديث؛ فأثبتت أنها تعلمت رسالته جيدًا من زوجها النبي صلى الله عليه
وسلم، فكانت إذا أرسلت صدقة لقوم توصي رسولها بوصية نادرة قائلة:
اسمع ما
يدعون لنا به؛ لِنَدعُو لهم بمثل ما دَعَوْا لنا، ويبقى أَجرُنَا عَلَى الله!
الرضا
بما قدره الله لك!:
إن حقيقة
الرضا أن توافق ربك فيما ارتضاه لك، وأوصله إليك، ولهذا حُقَّ لي أن أسألك:
هَل
أَنْتَ رَاضٍ عَن رَبِّك؟!
فإن من
رَضِيَ عن ربه؛ رَضِيَ بما كَتبه عليه، واختاره له، ففرح به، وَسُرَّ له؛ إذ كيف يُنكِرُ
عقلٌ خلقه الله أمرًا على خالقه الذي فطره وسَوَّاه؟! فإن الخَيرٌ لا يعلم مَوضِعه
إلا الله!
ولذا
أمدك ابن الجوزي بخاطرة رقراقة من خواطره فقال:
ومن أراد
أن يعلم حقيقة الرضى عن الله عزَّ وجلّ في أفعاله، فليتأمل في أحوال رسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه رأى أنه مَالك، وللمالك
التصرف في مملوكه، وهو بحكمته لا يصنع شيئًا عبثًا، فَسَلَّمَ تسليمَ مَملوكٍ
لحكيمٍ، فَكَانت العجائب تَجْرِي عليه، دون أن يُوجَدَ منهُ تَغَيُّر، ولا من طبعه
تَأَفُّف! [ابن الجوزي / صيد الخاطر ص (98)]
فالسعيدُ
المُوَفَّقُ من وَطَّنَ نفسه على لُزومِ الرضا عن ربه، والاستغناء عن الناس، ولو
عاش بقليل المعاش!
واستغنِ بالشيء
القليل فإنـه
** ما صان عرضَك لا
يقال قليل
فأخوك مَنْ وَفَّرْتَ
ما في كفه
** ومتى علقت به
فأنـت ثقيـل
لا تشكو بليتك لمخلوق:
إذا
تأملت حال الناس وجدت أكثرهم يعلن الشكوى، فالفقير يشكو، والغني يشكو، والموظف
يشكو مديره، والمدير يشكو موظفيه، وكلاهما يشكو رُتْبَته، والأعزبُ يشكو عزوبيته،
والناكح يشكو زوجته، وهي تشكوه، والجار يشكو جاره، فالكل يشكو من الكل، فالمصائب
تَحِل، ولا ندري ما الحل؟!
وكلهم
عند التأمل يشكون قدر الله فيهم ! ولذا؛ فقد أخرج الفضيل بن عياض سياط غضبه لما
رأى رجلًا يشكو حاله لأخيه فقال له:
يا هذا،
أتشكو من يرحمك، إلى من لا يرحمك؟!
ومن قبله
زين العابدين بن الحسين رضي الله عنه ألبس تذمره من هؤلاء ثوب النصيحة الشعرية
فهتف قائلًا:
وإذا بليت بِعُسرةٍ
فاصبر لهـا
** صَبْـَر الكريـم
فإن ذلك أحـزم
لا تشكونَّ إلى
الخلائق إنمـا
** تشكو الرحيم إلى
الذي لا يرحم
[بهاء
الدين العاملي / الكشكول (1/57)]
وإن أحاط
بك همٌ، وسَربَلكَ غَمٌ، وأردت مالًا فلم تجد، وانتظرت مددًا فلم يأت أحد، فانتظر
الليل بفارغ صبرك، وانصب قدميك بين يدي ربك؛ لتعلن شكواك، بعد أن يسمع نجواك،
ويصعد إليه بكاك !
وليكن لك
قدوة خير في الشيخِ المَكُّوديّ الذي قال:
إذا عرضت لي في
زمانيَ حاجةٌ
** وقد أشكلت فيها
عليَّ المقاصدُ
وقفت بباب الله
وقفـةَ ضـارعٍ
** وقلت: إلهي إنني
لك قاصـدُ
ولست تراني واقفاً
عند باب مَنْ
** يقول فتاهُ: سيديْ
اليومَ راقـد
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول