ارتباط السلوك بالإيمان بالله تعالى

أذيع من محطة دمشق في مساء الخمس بعد المغرب 4 من رمضان المبارك سنة 1381، جعله الله خالصاً لوجهه الكريم ونفعني به ومن سمعه، بمَنِّه وفضله.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فعنوان حديثي اليوم: لمحة عن ارتباط السلوك بالإيمان بالله تعالى

جاء الإسلام الحنيف ديناً للناس جميعاً، يؤاخي بينهم، ويُنظِّم لهم شؤون الحياة والمعاش، ويرسم لهم طريق المحبة والأخوة، ليكونوا إخوة متحابين، تسودهم الألفة والوئام، ويغمرهم التعاطف والوفاء.

فرسم لهم أول ما رسم الإيمان بالله تعالى، لأنه عماد جميع الأعمال الحسنة والمعاني الخيرة والسلوك الطيب، وهو منها بمنزلة الرأس من الجسد، وبعد أن تتحلَّى النفس الإنسانية بالإيمان بالله تعالى رباً وخالقاً ومُشرِّعاً تلتزمُ ما أمر به وتنتهي عما نهى عنه، أداءً لحقه سبحانه، فتفعل الخير وتدع الشر ابتغاء رضوان الله تعالى، ويكون لها من هذا السلوك أطيب الثمرات عليها وعلى البشرية جمعاء، ولهذا ربط الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم، هذه المعاني الخيرة كلها بالإيمان بالله تعالى، حينما سأله الصحابي الجليل سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه عن جوامع الخير وأبوابه، فقال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "قل آمنت بالله ثم استقم".

فأفاد هذا الجواب الجامع الوجيز من النبي صلى الله عليه وسلم أن سلوك الإنسان خاصاً كان أم عاماً، مع الصديق أو العدو، يجب أن يرتبط بالإيمان بالله تعالى، لأن رباط الإيمان ملازم للإنسان لا ينفك عنه في خلواته وجلواته، ويرافقه في كل تصرف وسلوك، ويجعل منه على نفسه حسيباً ورقيباً، فيفعل الخير بدافع إيمانه بالله، ويَدَعُ الشر بدافع إيمانه بالله، وكلما ترعرت جذور الإيمان ونمت في قلبه، ترعرع خيره وعم نفعه على الناس والمجتمع.

وقد خط الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه مبدأ عاماً لنظام الحياة المطمئنة الوادعة الكريمة بين أفراد الأمة، فقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". فعلَّقَ تحققَ الإيمان على المساواة في التعامل والتعايش بين الإنسان وأخيه، وإنه لمبدأ سامٍ نبويٌّ عظيم، وحينما يحققه الناس فيما بينهم تنتفي أمراض المجتمعات وعللها المعضلة، ويحيون الحياة المثلى التي ينشُدُها كل فرد.

وأضاف الرسول الكريم إلى هذا المبدأ العام الشامل أوامرَ وتوصيات تتعلق بالخُلُق والسلوك، ولها أكبر الأثر في استقرار الحياة، ورَبَطَ كلَّ تلك الأوامر والتوصيات بالإيمان بالله تعالى، فقال فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "من كان يؤمِنُ بالله واليوم الآخر فليكرِمْ ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصِلْ رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". فإكرام الضيف يغرس المودة في النفس، ويقوي أواصر المجتمع، وصلة الرحم تمتِّنُ روابط القرابة في الأسرة وتزيدها حباً وتماسكاً، وقولُ الخير والإعراضُ عن اللغو واللَّغْطِ من أجمل ما تتحلى به شخصية الإنسان ويحافظ به على محبته في قلوب الناس، وكل هذه الأعمال والسجايا مردُّها الأخلاقي فيما يتعلق بالدنيا تنظيمُ الحياة والسلوك بين الناس وتحبيب بعضهم ببعض، أما مردُّها فيما يتعلق بالآخرة فهو الثواب الجزيل والأجر الكريم.

وهكذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يربط بالإيمان بالله كل خُلُق وسلوك يكثر تماسُّهُ بالناس وينبني عليه انسجامهم ووئامهم، وتتحقق به سعادتهم في الدنيا والآخرة، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمِنُ بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره. وروى مسلم عن أبي شُريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحسِنْ إلى جاره". وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقه". أي غوائله وشروره، وروى الطبراني والبزار بإسناد حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي من باتَ شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم". كلُّ هذه الأحاديث جاءت تربط بين خُلُقِ حُسْنِ الجوار والإيمان بالله تعالى، لما في استقرار الحياة بالجوار السعيد وشقائها بالجوار السيئ.

وكذلك ربط الرسول الكريم بين الإيمان بالله تعالى وبين خُلُق آخر من أهم الأخلاق التي ترتكز عليها حياة بني الإنسان وسلامتهم وحسن صلات بعضهم ببعض ألا وهو خُلُق الأمانة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له". فنفى الإيمان عن غير الأمين، وبيَّن أن الأمانة، وهي تتناول جوانب الحياة كلها، عنوانُ الإيمان بالله وترجمانه، فحيث توجد الأمانة يوجد الإيمان بالله، ومن فقدها فقد فَقَدَ الإيمان.

بل قد أرشد الرسول صلوات الله عليه وسلامه إلى أنَّ من صفات المسلم أنَّ كل تصرفاته في هذه الحياة إنما تصدر عن إيمانه بالله تعالى، فقال وهو يشير إلى أحكام الشريعة وتكاليفها العديدة: الإيمانُ بِضعٌ وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. فأفاد بهذا الحديث الشريف أن جليل الأعمال ويسيرها كإماطة الأذى عن الطريق، إنما يصدر من المسلم بدافع إيمانه بالله تعالى.

ولما كان شيوعُ المنكر وتركُ القضاءِ عليه يُضِرُ بالأخلاق ويُفسِحُ المجال للتقاطع والتباعد بين صفوف الأمة، ويَهُدُّ من كيانها ويُضعِفُ شخصيتها أمر الرسول بإنكار المنكر، ورَبَطَ بينه وبين الإيمان بالله تعالى، فقال: من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.

فيا أيها المؤمنون بالله، استمسكوا بهذا الإيمان العظيم، وأوثقوا الصلة بينه وبين أعمالكم وتصرفاتكم، واعلموا أنكم في موطن القيادة من العالم، وإنَّ العالم الذي يتخبط في صراع دائم ونزاع مستمر لا ينجيه من ويلاته وشقائه إلا الإيمان بالله الذي حلاَّكم الله به، فأعطوا هذه القيادة حقها، واعرفوا موقع الإيمان بالله من هذا الوجود، واصدُقوا القيام بعرض هذا الإيمان بالله، لتكونوا خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله. والسلام عليكم ورحمة الله.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين