احتواء لا إقصاء
نبيل المقدسي
ليست ظاهرة على خارطة البشر جديدة ، بل هي طبيعة وجدت مع الإنسان الأول حين وجد وبقيت معه تتطور بتطوره وتنمو بنمائه وأخذت أشكالها تتنوع حسب الطبائع والبيئات المحيطة بها، ولكنها ورغم تنوع أشكالها بقيت محافظة على حضورها الدائم.
بعضهم يدعي أن لها نتائج ايجابية وبعضهم يغرقها بالسلبية المحضة، ولكن حقيقة الأمر غير هذا وذاك، وإنما ينظر إلى كل حالة على حدة لأن لكل ٍ منها حيثياتها الخاصة المختلفة عن غيرها والتي يتم عليها بناء السلوكيات الواجب تتبعها والنتائج المأمول تحقيقها.
إن استيعاب جوانب هذه القضية من كل نواحيها وأطرافها أمر يطول ويحتاج إلى العديد من المقالات والأبحاث، ولكني في هذه العجالة سوف أسلط الضوء على جانب واحد، عشت تجربته ورأيت آثاره.
إنها ظاهرة إقصاء الدعاة عن دعوتهم إذا ما سُجِّلت عليهم بعض الأخطاء وبعض السقطات، وكأن ذنب الداعية أمر لا يمكن غفرانه، وهم بذلك يقصون عن دعوتهم قصرا ً أو إجبارا ً دون استيعابهم واحتوائهم ليصححوا ما فات، وليبقوا محافظين على مواقعهم ولا ينتكسون إلى الوراء.
إن المتأمل إلى روح الإسلام المتمثلة بنصوص الكتاب الكريم وسيرة خير المرسلين ومن تبعه من صحابته المكرمين يجد أن المقدم في التعامل هو الاحتواء لا الإقصاء، فنحن نجد أن الله تبارك وتعالى – وهو الحليم الكريم – يمهل المؤمن العاصي بدل المرة الواحدة مرات ومرات ويبقى باب التوبة أمامه مشرع على مصراعيه حتى لا يقطع حبل الرجاء دونه عن الرجوع والأوبة إليه، ويأتي هذا صيحا ً في كتابه حيث يقول : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ً إن الله غفور رحيم) ، وفي حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أن عبداً أصاب ذنباً فقال: يا رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب.. قد غفرت لعبدي، ثم عاد وأذنب ذنبا فقال: يا رب أذنبت ذنبا فاغفره لي، فقال الله: لقد علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب.. قد غفرت لعبدي، فليفعل عبدي ما يشاء ما دام يستغفرني ويعود إلي). فانظر إلى رحمة الله في الاحتواء المتمثلة في مغفرته الواسعة، فلو أن أحدهم أذنب مرة واثنتين وثلاثة ثم أغلق أمامه باب التوبة وأوصدت في طريقه دروب الأوبة لاسترسل - حين فقد الأمل- في أهوائه ولبغى وطغى لا يدفعه إلى ذلك غير اليأس والقنوط من رحمة الله، وهذه حال الإنسان حين يفقد الأمل فيفقد معه اتزانه وينطلق من غير عقل لفعل ما يشاء، وعلى هذا فلن نجد من ينجو إلا النزر اليسير، فقد جُبل ابن آدم على النقص فهو كثير الخطأ كثير النسيان.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء يخبره أن امرأة قد خرجت من المدينة تقصد مكة حاملة ً في عقصتها رسالة ً إلى أهل مكة تخبرهم بوجهته – عليه الصلاة والسلام- إليهم في حربهم، فبعث عليه الصلاة والسلام رجلين من صحابته الكرام ليأتيانها ويستخرجا منها الرسالة ويستنطقانها عن الذي أوعز إليها بالمسير، فأشارت إلى أنه حاطب بن أبي بلتعة الصحابي البدري الجليل، وعندما وصل الخبر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وبجانبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثارت ثائرته وقال: مرني أقطع رأسه يا رسول الله فقد خان الله ورسوله. ولكن رسول الرحمة أمهل عمر وردَّ عليه بهدوء العظماء وقال: (دعه يا عمر فلعلَّ الله اطلع على أهل بدر وقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، ثم سأله بتلطف عن السبب وراء فعلته هذه، فبرر رضي الله عنه بأنه أقدم على ذلك محبة ً بأن يكون له يدٌ عند قريش يحفظون له عياله لو حدث مكروه ما في مكة.
هذا رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام رأيناه لم ينطق بالحكم حتى سمع من المذنب أولا ً ثم لما رأى حقيقة نواياه عفا عنه وقال الخير الذي قال في حقه فلم يعنفه ولم يطلق في حقه سيولا ً من الشتائم ولم يجلده بسوط السباب.
قد يرى البعض أن في فعل حاطب رضي الله عنه خيانة كبرى تستحق الإعدام، ولكن لا يفوتنا أن فعل الخيانة الذي يستحق العقاب الشديد هو المنعقد عن عزم وقصد ولكن إن صدر هذا الفعل دون ذلك فهو مجرد خطأ يُعفى عنه أو يعاقب على قدره مع مراعاة الدافع عليه ، إن الحكم العدل لا يتحقق إلا بالنظر إلى جميع الحيثيات والسماع إلى كل الأطراف ودراسة النوايا والخبايا حتى لا يضيع علينا الميزان الحق، وهنا ندرك كيف أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد احتوى حاطب بالصفح عنه ولم يبعده.
وهذا الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه يمر في طريقه على رهط من الرجال يضربون رجلا ً بعد أن أوقعوه أرضا ً، وعندما سألهم عن سبب فعلهم هذا قالوا: إنه رجل شرب الخمر. فقال لهم: أرأيتم إن وجدتموه في بئر أكنتم مخرجوه؟ قالوا: بلى. قال: فمثل ذلك ففعلوا معه ولا تكونوا عونا ً للشيطان عليه.
ما ظنّ هؤلاء الرجال حين ينتهون من ضرب ذلك الرجل؟ أتراه سيكف عن شرب الخمر أم أنه سيلعن ضاربيه؟ أم تراه سيقلع عن شرب الخمر ويستقيم سلوكه؟ أن تراه سيبقى على اعوجاجه؟ إن هذا التصرف منهم لن يأتي بخير وإنما نرى أثر الكلمة الطيبة التي قالها أبو ذر قد فعلت فعلتها وقلبت حياة هذا الرجل ليعلن من حينها توبته ويقسم بالأيمان المغلظة أنه لن يعود.
هذه ثلاثة نماذج نتعلم منها كيف يكون الاحتواء لا الإقصاء. علينا أن ندرك هذه القضية في إطار أن الإنسان خلق من عجل وأنه خلق هلوعا ً وأنه خلق ضعيفا ً، إن مخلوقا ً بهذه الصفات لا بد له من الخطأ المعتمد على نقصه فليس هو ملك لا يخطأ ولا هو شيطان لا يصيب وإنما هو يخطئ مرة ويصيب مرات، والنظرة الايجابية إلى الأمور تدفعنا للنظر إلى الجانب المشرق منه والذي يحوي حسناته ونغض الطرف عن سيئاته إلا في حدود المراجعة البناءة لتصحيح هذه الأخطاء، فلو أننا نلجأ إلى الإقصاء عند كل هفوة وعند كل خطأ لما استقام لنا على الطريق أحد، فمن الذي تحمد كل سجاياه؟! إن أكمل ما يمكن أن نتصرف به هو أن ننظر إلى هذه الأخطاء بعين الناقد البصير الحريص على مصلحة الفرد والجماعة معا ليصف لها العلاج المناسب، ومن ثم يستخرج الدروس والعبر حتى يتعظ الغير ولا يقع بمثل هذه الأخطاء مرة أخرى، وهكذا نكون قد صنعنا من الحجارة صرحا ً عامرا ً .
إن أسلوب الإقصاء افقدنا كثيرا ً من الأشخاص ذوو الكفاءات العالية والطاقات الهائلة كانت الدعوة في حاجة إليها لكي تقفز قفزات بعيدة نحو أهدافها، وأعتقد أنه حان الوقت لاستدراك ما فات ونصحح الأخطاء بإيجابية ونلغي من قاموس الدعوة مصطلح الإقصاء ولنعلم جميعا أن كل بني آدم خطاء وخير الخاطئين التوابون.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول