اجتهاد في آية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...}

هذا بحث كتبه الدكتور محمد زكي عبد البر ونشره في مجلة الاقتصاد والقانون التي يصدرها أساتذة كلية الحقوق في العددين الأول والثاني من السنة الثامنة والأربعين، وطبعه مستقلًّا في مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي عام 1980 في 19 صفحة، وجعله في مقدمة وتمهيد استعرض فيه أقوال المفسرين، ثم ذكر اجتهاده في فهم الآية، وبين ثمرة هذا الاجتهاد، ثم الخاتمة، وقد اقتصرنا في هذا المقال على عرض اجتهاده وخاتمة بحثه، ونرجو أن يستفيد القراء من هذا المقال الذي ينشر بعضه لأول مرة في المواقع العلمية. 

المبحث الأول: عرض اجتهادنا 

نحن نقف - في هذه الآية الكريمة - عند كلمات أربع هي (تجارة) و (عن) و (تراض) وفقاً لترتيبها في الآية الكريمة ثم نرجع الى كلمة (بالباطل) السابقة عليها، فذلك أبين لمرادنا.

تجارة:

هي، على ما في لسان العرب: البيع والشراء. وفي الفقه _ قال الكاساني (7 :334): (التجارة هي معاوضة المال بالمال). وركنها: التراضي المتمثل في الإيجاب والقبول.

عن:

قال علماء اللغة أن من معاني (عن): (التعليل - نحو: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ﴾ [التوبة: 114]. ونحو: ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ﴾ [هود: 53] (راجع: الزمخشري، وابن هشام، والسيوطي، والصبان).

ونحن نؤثر فهم الآية على هذا المعنى، فيكون المعنى: (إلا أن تكون تجارة لأنها عن تراض) أي: لأن قوام التجارة التراضي. وبذلك تفيد (عن تراض) فائدة أخرى غير تكرار شرط التراضي المضمن في كلمة (تجارة) وهي بيان العلة. فيكون التراضي:

1- ركناً للتجارة لا توجد بدونه، فما لم يوجد التراضي لا تكون تجارة، وهو ما يقرره الفقهاء بقولهم أن التراضي ركن المبادلة (أي: التجارة) فلا تنعقد أي لا توجد اجتهاد بدونه 

و۲۔ علة لحل مالها، كقولنا (حرمت الخمر لشدَّتها) فالشدة صفة لازمة للخمر وعلة لتحريمها

تراض:

صيغة (تفاعل). وقد استعمل الله سبحانه وتعالى هذه الصيغة لأنها تحقق حصول المشاركة في الرضا صريحاً من الجانبين على قدم المساواة. ولم يستعمل، جل وعلا، صيغة المفاعلة (المراضاة) لأنها لا تحقق ذلك كله وإنما تحقق حصول الرضا من الجانب الأول صريحاً ومن الجانب الثاني ضمناً لا صریحاً - ومثال ذلك: إذا قلت (تراضى زيد وعمرو) (بصيغة التفاعل) دلَّ على وقوع المشاركة في الرضا من الجانبين صريحاً أي: على نسبة الرضا إلى زيد متعلقاً بعمرو صریحاً ونسبة الرضا إلى عمرو متعلقاً بزيد صريحاً أيضاً. أما إذا قلت: (راضى زيد عمراً) (بصيغة المفاعلة) فإنه يدل على نسبة الرضا إلى زيد متعلقاً بعمرو صريحاً وعلى نسبة الرضا إلى عمرو متعلقاً بزيد ضمناً، والضمني ليس في مستوى الصريح، لأن الصريح نص في وقوع الفعل ممَّن نُسب إليه بخلاف الضمني فليس نصًّا في ذلك.

وهي دقة لغوية وشرعية لا تستغرب على كلام الله سبحانه وتعالى.

(راجع في تفصيل بيان الفرق بين الصيغتين: ابن الحاجب، الشافية، وشروحها، ص 87 وما بعدها).

ونلاحظ أن صيغة (التفاعل) قد استعملت في أكثر من موضع من القرآن الكريم، قال تعالى:

- ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 232] ۰

۔ ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ [البقرة: 233] ۰

- ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ﴾ [النساء: 24].

كما نلاحظ أن النبي، عليه الصلاة والسلام، التزم الصيغة التي استعملها القرآن في أكثر من موضع فقال: (إنما البيع عن تراض) و (البيع عن تراض) (السیوطی، الدر المنثور، 2: 143)۰

وذلك، فيما نرى، إشارة إلى اشتراط الرضا صريحاً من كل من الطرفين على قدم المساواة مع الآخر، فذلك هو طيب النفس من كل منهما (1)..

بعد ذلك يرد الخلاف في التراضي: هل يتحقَّق بمجرد صدور القبول مطابقاً للإيجاب، أم لابدَّ من انفضاض المجلس أو التخيير. وهل يشترط له اللفظ أم تكفي الإشارة أو المعاطاة، وهل يؤثر الغبن أو لا يؤثر.. الخ ؟ على الخلاف بين المفسرين والفقهاء استناداً إلى أدلة خاصة بكل حالة أو أخذاً بمطلق التراضي هنا.

بالباطل:

ظاهر لنا من سياق الآية التقابل بين (الباطل) وبين (التراضي). فيكون المراد بالباطل عدم التراضي أي الأخذ عن غير تراض. والقول بهذا التقابل بين (الباطل) و (التراضي) أبين للمراد في مقام التشريع، وهو بذلك أليق بكتاب الله تعالى.

وبهذا التفسير يتَّسق الحكم مع الخطاب للمؤمنين فيما بينهم ومفهومه، ذلك لأنه يحرم على المؤمنين أخذ أموال المؤمنين بدون تراض، ويحل لهم أخذ أموال غير المؤمنين بدون تراض (عنوة) في بعض الحالات كالحرب، فيكون الخطاب خاصًّا بالمؤمنين والحكم خاصًّا بالمؤمنين أيضاً. 

أما على تفسير الباطل بمطلق (غير المشروع) فلا يتسق الحكم مع الخطاب ومفهومه. ذلك لأنه لا يحل للمؤمنين أخذ أموال المؤمنين ولا غير المؤمنين بطريق غير مشروع كالغش والخديعة والخيانة، فيكون الخطاب خاصًّا بالمؤمنين فيما بينهم والحكم عامًّا بالنسبة إلى المؤمنين وغير المؤمنين. واتساق الحكم مع الخطاب ومفهومه أدق وأحكم فهو أجدر بكتاب الله تعالى.

الخاتمة

-1-

تبيَّن ممَّا تقدَّم:

1- أن المقصود بالتجارة هنا معناها الحقيقي وهو: معاوضة المال بالمال، وركنها التراضي.

2 - أن المقصود بكلمة (عن) في قوله تعالى :﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29] هو التعليل، وهو أحد معانيها في اللغة، أي أن التجارة أحلَّت لأنها عن تراض.

3 - وبذلك يكون (التراضي) علة منصوصة: فيحل به التصرف المالي، تجارة أو هبة أو صدقة ۰۰۰ الخ، بنصِّ الآية الكريمة في التجارة، أما في غير التجارة فقياساً عند القائلين بالقياس وإلحاقاً أو قياساً عند نفاة القياس.

4- أن التراضي ورد بصيغة (تفاعل) وهي تفيد حصوله من الطرفين صريحاً مما يحقق حرية التعاقد للطرفين على قدم المساواة.

5 - أن المقصود بالباطل عدم التراضي، وهو ما يقابل التراضي.

- 2 - 

المقصود بالتراضي طيب النفس بالأخذ والإعطاء مبادلة (2). 

ولما كان طيب النفس أمراً باطناً لا يعلمه الا الله، فلابدَّ من إقامة مادة تدل عليه. وهذه العلامة هي التعبير عنه، وهو الإيجاب والقبول.

وفي توافر (التراضي) وعدمه يقوم الاختلاف بين الفقهاء:

- هل يكفي الإيجاب والقبول علامة عليه أم لابدَّ من الافتراق عن المجلس أو أن يُخير أحدهما الآخر فيختار؟ وهل يرجح القول الثاني حض رسول الله صلى الله عليه وسلم العاقد على قبول إقالة الطرف الآخر بيعته إذا استقاله بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة) (3) إذ في هذا الحديث الشريف، حرص على وجوب توافر طيب النفس ابتداءً وانتهاءً أي حتى بعد انعقاد العقد (انظر: السیوطي، الدر المنثور، ۲: 143 - 144) فضلاً عن الأدلة الأخرى الواردة في هذا الصدد.

- هل يشترط لتحقق الرضا صيغة الماضي أم تجزئ صيغة الحاضر، وما حكم صيغة المستقبل والأمر والاستفهام؟

- هل لابد من اللفظ في التعبير عن الرضا أم تكفي الإشارة والفعل (المعاطاة)؟

- هل يشترط استعمال لفظ معين أم أن أي لفظ يدل على الرضا يكفي؟

- هل يشترط التعادل بين ما يعطي كل من الطرفين، في المعاملة التبادلية، وما يأخذ، أم لا يشترط التعادل وانتفاء الغبن؟

۔ الإكراه والتدليس، والخيانة في عقود الأمانة، والنجش والهزل والجهل، ما أثرها في الرضا؟

۔ خيار الرؤية يثبت للمشتري الذي لم ير المبيع، لأن عدم رؤيته لا يفترض معه علمه به ورضاه، فهل كذلك البائع ألم ير المبيع؟

- التعليق والاضافة إلى المستقبل والاقتران بالشرط ما أثرها في الرضا؟ هل يتحقق معها فينعقد السبب (العقد) أم لا؟ وهل، إذا انعقد، ينتج أثره فوراً أم يتأخر؟

ويلاحظ أن القول بالرضا يفترض توافر الأهلية ووجود المحل، وهذه عموماً، أركان التصرف: الرضا الصادر عن الأهل في المحل.

-3-

وبعــــد:

فهذه الآية الكريمة من القرآن العزيز، تشرِّع دستور التعامل في الإسلام، وهو التراضي: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) (4). [رواه أحمد (20695)، وقال مخرجوه: صحيح لغيره مقطعًا. وأبو يعلى (1570)، والدارقطني في البيوع (2886)، عن عم أبي حرة الرقاشي].

وهذه الآية الكريمة الواردة في مجال التشريع: من تدَّبرها واستقام عقله وقلبه، ليدركن أنَّ هذا القرآن معجز، وأنَّه لا يمكن إلا أن يكون من لدن عليم حكيم، وأنَّ دور محمد، النبي الأمي، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن إلا البلاغ عن الله عز وجل.

وهذه الآية الكريمة تُعلي من قدر المسلم، إذ ترجع الحل في التعامل إلى إرادته وطيب نفسه، لا إلى الأشكال والرسوم والطقوس التي حَفل بها القانون الروماني وجعلها ركن التصرف، ملغياً، كلاً أو بعضاً، دور الرضا. ومن العجب أن يأتي بعد ذلك من يقول ويردد أن الشريعة الإسلامية مأخوذة عن القانون الروماني! سبحانك هذا بهتان عظيم.

وهذه الآية الكريمة تنشر الود والحب بين المسلمين، وتزيل من بینهم كثيراً من عوامل النزاع، ممَّا يوفِّر للمجتمع المسلم السلامة والأمن والتواد، ولا تخفى أهميَّة ذلك في قوة بنيان المجتمع.

اللهم زدنا إیمانا بك وبشريعتك، واجعل عملنا صالحاً وارفعه إليك، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

(1) الحطاب (4، 228): (والمقصود من التجارة إنما هو أخذ ما في يد غيرك بدفع عوض عن طيب نفس منكما) وانظر الهامش 1 ص 90 والهامش ۱ ص 92.

(2) انظر في معجم الفاظ القرآن الكريم: (رضي) (1:503) والهامش 1 ص86 و92.

(3)وفي ابن حجر، بلوغ المرام، دار الكتاب العربي بمصر (رقم 689 ص 124): (من أقال مسلماً بيعته أقاله الله عثرته - رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه ابن حبان والحاكم).

(4) قال تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئء أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه) رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما (ابن حجر، المرجع السابق، رقم 735 ص 133).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين