ابك بكاء النساء

تشعر هذه الأيام أنك كإنسان لا حول لك ولا قوة، لا حيلة بيدك، لا سلاح تملكه إلا اثنين: الدعاء بأن يكشف الله الكربة، ويزيل الغمة، وينتقم من الظلمة، أو السلاح الذي استخدمه آخر ملوك الأندلس للدفاع عن ملكه، إنه البكاء، بكاء النساء، حين قالت له أمه: ابك بكاء النساء على ملك لم تدافع عنه دفاع الرجال. وعزاؤنا الوحيد أنه ما زال بالإمكان اتعادة الحقوق، قبل أن نبكي عليها دما لا دموعا.

تشعر أنك في حاجة لأن تخلو بنفسك بعيدا عن الناس، وتشاهد هذه المشاهد التي يقشعر لها البدن، وتتضعضع فيها النفس، وتتقطع عليها نياط القلب، وتبذل العين منها الدمع هتانا. تشاهدها بما يليق بها من جلال.

وأي قلب قُدَّ من جلمود صخر يتحمل مشهد بكاء الطفل الذي قتلت أمه أمام عينه، ويحاول المحيطون به أن يبعدوه عنها، أو يصرفوا عينيه عن النظر إلى جسدها المسجى بلا فائدة، وهو يصرخ ويبكي ويتأوه، وقد تركته وحيدا في دنيا لا ترحم الكبار، فكيف بها معه؟ يناديها فلا ترد، ويصرخ فلا تسمع، ويطالبها أن تصحو فلا تجيب، ويناشدها الله ويقسم عليها أن ترحم حزنه وتقوم. في مشهد تختلط فيه الدموع بالدماء بالكلمات.

وأي عين لا تفر منها دمعة، وهي ترى صورة شاب يحمل بيده مخ صاحبه، الذي كان يتسامر قبل قليل معه، وقد غدرت به رصاصات قناصة الخسة والخيانة، ففجرت رأسه حتى خرج المخ من الجمجمة، وصديقه ذاهل لا يصدق ما يرى، يحمل المخ في يده، وينادي على الناس بأعلى صوته: مخ أخوكم (أهو)، مخه (أهو). 

ترى أي لذة لمطعم أو مشرب يتناولها هذا الممسك بالمخ بيده بعد ذلك، وأي رغبة في مصافحة شركاء الوطن، ومنهم من قتل أو فوض بالقتل، أو حرض أو رضي بالقتل. 

مشاهد اليتامى والثكالى والأرامل وهم يحتضنون فحم أحباءهم لا جثثهم، إذ لم يكتف السفاح بقتلهم، بل حرق جثثهم، بل أجهز على جرحاهم ثم تركهم للنار، بل أشعل أجساد بعضهم وهم أحياء. وكأنه قد استكثر على ذويهم أن يودعوا حبيبهم بنظرة، أو يكرموا ميتهم بدفنه، أراد أن يذلهم أحياء ففشل، فهو ينتقم منهم أمواتا، والله منتقم جبار. 

وصورة طفل قد اكتسب صفة يتيم مؤخرا، ينام والدموع لا تفارق عينيه، بعد أن فقد من كان يلاعبه ويداعبه، ويربت على كتفه ويكلمه، ويأخذ بيده ويعلمه. يبحث الصغير عن أثر والده  فلا يجد إلا صورته فيحتضنها. ترى أي عبقري يستطيع عن أن يجيب عن سؤال ذلك الصغير: لماذا قتلم والدي أيها المجرمون؟ 

آه، وما أشد هذه الآهات، آهات أعمق من أن تخرج من الحلق، تخرج من كيان الإنسان كله، لكأنما كل خلية من خلايا الجسد صارت لسانا، ونطقن جميعا: آه. 

أطفال في مقتبل العمر، وبنات في ميعة الصبا، وشباب في عمر الزهور، أزواج خلفوا وراءهم زوجات وأبناء، وزوجات تركن أسرهن من غير وداع، دعاهم جميعا داعي الموت فلبوا، ولا اعتراض على أمر الله، عشرات، مئات، آلاف، ولكل واحد منهم قصة، ما أحزنها من قصة. 

لا يبالي قاتلهم بهم، فهم مجرد أرقام، إنه فقط يجادل: هل هم ألف أم آلاف؟ وكأنهم ليسوا بشرا، وكأنهم قططا أو كلابا، أو أدنى من الكلاب. والله لو أن مجنونا قتل (1000) قطة أو كلبا، لاستحق أن يعاقب أشد العقاب على قسوته وساديته، وقد دخلت امرة النار في هرة حبستها حتى ماتت.

وقد قال الله: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].

وأخبرنا رسوله أن الله قد عاتب نبيا من أنبيائه في إحراق قرية نمل إذ قرصته نملة، وأوحي إليه: "هلا كانت نملة واحدة". نمل مجرد نمل - يا عالم - يُعاتَب فيه نبي، فكيف بما فوق النمل؟ وأخبرنا أن العصفور الصغير يجأر يوم القيامة شاكيا إلى الله: "يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلنى لمنفعة". فكيف بإنسان، فكيف بعشرة أناسي، فكيف بمائة، فكيف بألف، فكيف بخمسة آلاف. 

لمثل هذا يذوب القلب من كمد * إن كان في القلب إسلام وإيمان

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين