إن لي نفساً تواقة

إن لي نفساً تواقة

محمد عبد الرحيم

 

يسعى الإنسان إلى استخدام المكملات الغذائية إذا كانت مفقودة في غذائه ويسعى إلى تكميل ما يصيب بصره أو سمعه من نقص عن طريق استخدام نظارة أو سماعه هذه الرغبة في الكمال رغبة إنسانية ومطلب إسلامي، فهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: إن لي نفساً تواقة ما نالت شيئاً إلا وتاقت لما هو أعلى منه هذه النفس الكبيرة التي تتوق إلى الدرجات العلا من الكمال ما وصلت إلى منزلة إلا وتطلعت إلى المنزلة الأعلى منها هذه النفس كم حققت من الخير للناس كم غيرت من أحوال متردية إلى الأفضل وهكذا كل نفس متطلعة للكمال تتقدم للعلى وتصلح وتعمر والسبب في هذا الشوق المستمر والشغف بالكمال هو اتساع الرؤية ونفاذ البصيرة فالإنسان إذا رأى نفسه في أعلى المراتب كيف سيتحرك؟ إذا اعتقد الإنسان أنه في القمة وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان كيف سيسعى للكمال؟؟ّ!

 

الدعوة للكمال:

حثنا الله تعالى على طلب الكمال حين مدح أهله بأنهم الذين هداهم الله وبأنهم أولو الألباب قال سبحانه {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] ففي الكلام حق وباطل وهدى وضلال وسخف وسفاسف تسرق عقولنا وأعمارنا، يختار أهل الكمال أحسن الكلام فيتبعونه فيوصلهم إلى الخير في الدنيا والآخرة.

وحب الكمال يدفعهم إلى الاستزادة من الفضل والإحسان قَالَ صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الجَنَّةُ). [أخرجه الترمذي في سننه وقال: هذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ]

في سعي المسلم للكمال سيسمع الخير وسيسير في طرق الخير حتى يقف على باب الجنة لن يقول يوماً كفاني ما قدمته سيستمر في ذلك حتى يلقى الله.

ومن الكمال، الكمال العقلي والخلقي وكمال الغاية التي يسعى الإنسان لها

الكمال العقلي لأن العقل مناط التكليف العقل الذي لم يكتمل كيف يفهم مراد الله في قرآنه ومراد نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته ثم يفيدنا الفهم أيضا في كيفية تنفيذ أمر الله حسن الادراك مرتبط بالعقل فالتذكر لا يحدث إلا لأولي الألباب {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] والاعتبار لا يقوم به إلا أولو الأبصار {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وكيف يحقق المسلم عمارة الأرض ويحسن التعامل مع نعم الله عليه ويستطيع تلافي المشاكل أو يخرج منها بأقل الخسائر وكيف يحسن تحقيق العبودية لله وعمارة الأرض

الكمال الخلقي: ترتبط الأخلاق بالإيمان ارتباطاً وثيقا فوجود كل منهما دليل على وجود الآخر، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ» [مصنف ابن أبي شيبة]

الكمال في الغايات:

كان الصحابة رضوان الله عليهم يبحثون عن الكمال في العقل والخلق ويبحثون كذلك عن أكمل الغايات قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه سلني فقال: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» [ صحيح مسلم] هذا الرجل الذي اكتمل عقله فاتسعت رؤيته للحياة وقال بينه وبين نفسه: فَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ زَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَكْفِينِي وَيَأْتِينِي [مسند أحمد] لماذا تتوقف انظارنا عند الدنيا فحسب وهي ستنتهي بحلوها ومرها وهي على أي حال دار نقص

 

سعي حثيث للكمال:

كان الصحابة رضوان الله عليهم يستشعرون من أنفسهم النقص فيشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدلهم على الكمال وطرقه ومن ذلك، أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ» [ أمالي ابن بشران أورد ابن بشران اسم الراوي عن ابي هريرة وبذلك يندفع حكم من ضعف الحديث لجهالة الراوي عن أبي هريرة ] إن السعي للكمال يحتاج إلى صبر وجلد فطريقه طويل و المؤمن منذ أن ينطق بالشهادتين يسعى للكمال،قال ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة. [صفة الصفوة] عشرون عاما يجاذب الشيطان ويجاذبه الشيطان عشرون عاما يغلب الوساوس وتغلبه الوساوس عشرون عاما يريد أن يدرك لذة الصلاة وحلاوة مناجاة الله تعالى لكن تهرب منه هذه النعمة ويلاحقها يريد أن تكون الصلاة قرة عينه كما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرمه الله بهذه المنزلة رجل يحب الكمال ويسعى له وإن طال الطريق مع توفيق الله تعالى ومع صبره ينال الحالة الأكمل للصلاة

التوبة سعي للكمال وإصلاح ما أفسدته النفس الأمارة بالسوء وشياطين الإنس والجن ورفقاء السوء وطلب المغفرة من الله والمسامحة ممن أخطأت بحقهم كل ذلك خطوات مشكورة نحو الكمال.

 

السعي للكمال مع الرفق بالنفس:

نحن متفقون أن السعي للكمال يحتاج إلى جهد لكن هل معنى ذلك أن تخرج النفس عن حدود الوسط حتى تصل إلى الملل والغلو في الدين مما يؤدي إلى الانحراف عن طريق الكمال ويقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن المنبت لا أرض قطع ولا ظهرا أبقى" ذلك المتعجل الذي يشق على نفسه ويشق على الدابة التي تحمله يضغط عليها فتهلك منه قبل أن يصل إلى وجهته لم يستطع الوصول إلى وجهته ولا المحافظة على دابته وبالتالي عرض نفسه للهلاك بسبب محاولته الخاطئة للكمال

 

أهل الكمال وأهل النقص:

بنيت الدنيا على النقص وأهل الكمال والساعون له يدركون ذلك تماما ومن شكرهم لنعمة الكمال إحسانهم في التعامل مع أهل النقص وتقديرهم للعجز البشري وسعيهم إلى أن يصعد الناس مدارج الكمال وأن يرتقوا باستمرار لذلك تراهم أهل إحسان وحلم وتفهم لتصرفات أهل النقص وحكمة في التعامل معها إنهم يقدرون أن الكمال عزيز وأن الإنصاف عزيز ويدركون كذلك قول القائل وأي الناس تصفو مشاربه وكفى بالمرأ نبلاً ان تعد معايبه فهم يلتمسون الأعذار ويتجملون بالعلم والحلم.

بنيت الدنيا على النقص فإذا كبر الأبناء واحتجت إليهم وجدتهم يسيرون في طرق الحياة سعيا للرزق فلا تلقهم إلا بعد أيام أو أعوام وهكذا تأتي نعم وتزول أخرى ويبقى المؤمن بين الشكر والصبر حتى ينادى عليه: "إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَتَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَتَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَتَنْعَمُوا فَلَا تَبْؤُسُوا أَبَدًا"، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] [الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد]

 

وختاماً:

السعي الدائم للكمال رسالة الإنسان في هذه الدنيا يكمل ما ينقصه في الشعائر التعبدية لتكون الصلاة أكثر خشوعاً والصيام أكثر تحقيقاً للتقوى والزكاة تعمل عملها في تطهير النفوس والحج بداية لمرحلة جديدة يرتفع فيها الإنسان على آلامه وأخطائه وشهواته

السعي الدائم للكمال رسالة الإنسان على ظهر هذه الدنيا ليفهم طبيعة الحياة ويحسن التعامل معها ويكتسب مهارات وخبرات ومعارف تعينه على تحقيق العبودية بمفهومها الشامل وهو كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فكلما رأيت نقصا في جانب من جوانب عبوديتي سارعت إلى استكماله

يحتاج الكمال إلى همة عالية تغرس في النفوس من الطفولة مع العمل على تهيئة البيئة التي تساعد على الكمال وتقدم الحوافز للمجتهدين فكم من بذرة طيبة تلفت بسبب البيئة الفاسدة وعلى ذلك فواجب محبي الكمال والساعين له أن يتواصوا فيما بينهم على الثبات على طريق الكمال ومواصلة السير لبلوغ أقصى الغايات إذا ساعد كل منهم الآخر بقوا على طريق الكمال وتقدموا بخطوات واسعة ثابتة إذا قصروا في مسألة تثبيت بعضهم البعض أصابهم الوهن وتشتتوا

ليس هناك خيار للمسلم أن يسعى للكمال أو يكون من الخاملين الخمول معناه التملص من شعائر الإسلام فالله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها وقد أحسن ابن القيم حين سمى كتابه مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين وهي دعوة إلى مواصلة السعي في طريق الكمال فكلما وصلت إلى درجة من العبودية نظرت إلى الأعلى منها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين