إنسانية إسلامية ملتزمة مقابل وحشية استعمارية مفرطة

حدَثان تزامنا تاريخياً، لكنهما على طرفي نقيض:

الحدث الأول : الإفراج عن راهبات معلولا بتاريخ 10/3/2014 بعد ثلاثة أشهر من الاحتجاز.

الحدث الثاني : المذبحة البشعة والمستمرة في أفريقيا الوسطى.

أما الحدث الأول : إنني أقول ابتداء: لقد كان حجز الراهبات أو خطفهن عملاً خاطئاً ، وتصرفاً مداناً ، وفعلاً جباناً، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون في وصايا متكررة ومحذرة عن التعرض في جهادهم للرهبان  في الصوامع ، وعن هدم الكنائس والأديرة ، بل جعل القرآن الكريم من أهداف الجهاد وغاياته ضمان حرية الاعتقاد وحماية دور العبادة، فقال سبحانه : [وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحج:40}  أي : لولا أن الله الحكيم شرع الجهاد الذي يدفع به جند الحق والإيمان والتوحيد، شر أهل الشرك والوثنية والإلحاد، لَفُتِن الناس عن دينهم ولهُدِّمت دور العبادة على رؤوس أصحابها... والصوامع هي الأديرة، والبِيَع هي الكنائس، والصلوات هي أماكن عبادة اليهود.

فما بال هؤلاء المحسوبين على الجهاد في سورية يحتجزون أو يأسرون نسوة راهبات وهن لا ناقة لهن و لا جمل في الحرب ، ولا في العدوان ، ولا في القتال ، حتى ولو كُنَّ مقاتلات، فإن مروءة المجاهدين وشهامتهم  تأبى أن تستقوي على النساء تنفيذاً لوصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصايا الخلفاء الراشدين، والتي شدَّدوا عليها في أكثر من حديث وخبر وقد قال : (من ظلم معاهَداً أو انتقصه أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة). أي : أنا خصمه . وقال : (من آذى ذمياً فقد آذاني)

قد يقال : لم يتعرض لهن أحد بِشر ، ولم يمسهسن أحد بسوء بشهادتهن المعلنَة عبر أجهزة الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة ، وحتى بعد الإفراج عنهن ووصولهن إلى سوريا ، وقد رأيناهن عبر أجهزة التلفاز بكامل صحتهن وأناقتهن والصلبان في أعناقهن وعلى صدورهن .

وقد نشرت جريدة الحياة بتاريخ 11/3/2014 ص 11 تصريحاً لإحدى الراهبات المحررات : أكدت فيه أن أياً من المفرج عنهن لم تتعرض لسوء خلال فترة احتجازهن منذ مطلع كانون الأول الماضي ، وقالت : جميعنا الأشخاص الـ 16 الذين كنا هناك، لم نتعرض لأي مساس بنا أو سوء ، وأضافت : المعاملة كانت جيدة حسنة، حتى إن شخصاً يُدعى جورج حسواتي أحد وجهاء يبرود، وضع في تصرفنا كل البناية التي احتُجِزنا فيها... وسُئِلت الراهبة عن سبب عدم وضعهن الصلبان أثناء الاحتجاز : قالت : إن الخاطفين لم يطلبوا منا ذلك ، بل إن الراهبات فضلن عدم وضعه، لأنهن رأين أن وضعه لم يكن مناسباً نظراً لظروف الاحتجاز).

هذه التصريحات لم ترق للنظام المتوحش، ولا لإعلامه الفاجر، فشنَّ حملة عدائية على الراهبات ـ كما نشرت جريدة الحياة في نفس العدد ـ حيث ذكرت أنه بعد ظهور شهادات الراهبات عن الخاطفين على الهواء مباشرة، سارع مؤيدو النظام لانتقادهن ، واتهم بعضهم إحدى الراهبات بالخيانة.

غير أن دنيا الكنيسة في العالم كله، وعلى رأسهم البابا والفاتيكان، شنوا حملة تشويه وافتراء وأكاذيب على الخاطفين، و اتهموهم بشتى الاتهامات، رغم أن الصور التي كانت تعرض للراهبات في مختلف وسائل الإعلام منذ بدء الاحتجاز، والتي كانت تؤكد على سلامتهن وأمنهن، ثم إن الخاطفين صرحوا أكثر من مرة أنهم ما أرادوا بالراهبات سوءاً ، وإنما أرادوا حفظهن من كيد النظام وخبثه، وأنه قد يلجأ إلى عملية ماكرة بحقهن بقصد تشويه صورة المجاهدين والافتراء عليهم.

وأما الحدث الثاني : فهي المجازر المروعة التي ترتكبها العصابات المتوحشة في أفريقيا الوسطى ضد المسلمين فيها، برعاية الكنيسة وحماية الجيش الفرنسي المستعمر. وإنها لمَجازر تشبه في فظاعتها وهولها ما يجري في سورية بحق شعبنا المجاهد الثائر المطالب بالحرية والعدالة والكرامة ، ولكن الطغاة المستأسدين المتوحشين في سورية يأبون إلا أن يحرقوا الأرض والشجر والحجر بالبراميل التي تنزل حِمماً لاهبة محرِقة مدمِرة على رؤوس المدنيين الأبرياء العزل والنساء والأطفال والشيوخ الذين لا يستطيعون  حيلة ولا يهتدون سبيلاً، أي لا قدرة لهم على الهرب والفرار...

وإذا كان شعب سوريا الحر الأبي يتعرض لهذه الحرب الوحشية البربرية من أجل أنه قال : لا للظلم ، لا للطائفية ، لا للاستعباد ، لا للدكتاتورية ، فإن المسلمين في أفريقيا الوسطى يتعرضون للمذبحة الرهيبة من أجل أنهم مسلمون ، ومن أجل أنهم متفوقون في أعمالهم ، ومن أجل أن أرضهم التي يقيمون فيها مليئة بالخيرات والثروات وبما يسيل له لعاب الاستعمار الفرنسي وعصاباته التابعة له من المليشيات الصليبية البربرية المتوحشة هي الأخرى، مدعومة بالجيش الفرنسي الصليبي، وقد عرضت قناة الجزيرة لقاءً هاماً مع أحد قادة المسلمين في هذا البلد المنكوب ، أجرى اللقاء الإعلامي المتميز الأستاذ أحمد منصور حفظه الله تعالى ، وإنني لأتمنى على قناة الجزيرة إعادة بث هذا اللقاء لأهميته وضرورة أن يعرف المسلمون أي حرب صليبية عدوانية استعمارية تُشَن على المسلمين في القرن الواحد والعشرين ، وحتى تدرك الحكومات الإسلامية حقيقة صداقة هذه الدول الصليبية المستعمرة التي لا تعرف في المسلمين إلَّاً ولا ذمة ، ولا ترعى لهم عهداً ولا حرمة ، ولا يقف أمام أطماعهم دين أو خلق أو قانون.

عرضت قناة الجزيرة أثناء اللقاء مقاطع فيديو تظهر الأهوال والفظائع التي يتعرض لها مسلمو أفريقيا الوسطى ، و التي لا يمكن أن توصَف، لأنها خارج دائرة التصور الإنساني، بل حتى عن التخيل الشيطاني ، وقد اضطر مقدم البرنامج الأستاذ أحمد منصور أن يعتذر للمشاهدين من كبار السن والأطفال وممن يشكون من أمراض القلب وذبحات الصدر، وطلب إليهم أن لا يروا هذه المقاطع ، وكانت بحق مقاطع فظيعة ومفزعة تحكي الحقد والوحشية والبربرية... من هذه المقاطع مقطع لمسلم على قيد الحياة ممددٍ على الأرض، موثقٍ بالأغلال ، ورجل صليبي يمسك حجراً كبيراً ، يرميها بقوة ووحشية على رأس المسلم فيهشم الجمجمة ، ويموت المسلم من فوره رحمه الله تعالى ، ومسلم آخر على قيد الحياة أيضاً ممدد على الأرض موثق بالأغلال ، وسيارتان يقودهما مهووسان صليبيان تسيران باتجاهين متعاكسين، وكل سيارة قد شدت لها رجِل المسلم، وتكون النتيجة المبكية أن يُمزق المسلم نصفين ، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرحم الشهداء من إخوتنا في أفريقيا الوسطى وفي سوريا الذبيحة، وأن ينتقم عاجلاً غير آجل من الوحوش المتجبرين النصارى والنصيريين وغيرهم من أعداء الله والإسلام والإنسانية...

والمشكلة أن المسلمين دائماً وابداً هم الضحية ، وهم المظلومون المضطهدون والمعتدَى عليهم، وثم يُتهمون ظلماً وعدواناً بالإرهاب، ترددها الحكومات الغربية والعربية.

والمشكلة الثانية أن المسلمين هم دائماً وأبداً أيتام على موائد اللئام ، لا يسمع أنَّاتهم أحد، ولا يتحرك لنجدتهم  أحد ، ولا يسعى لنصرتهم أحد ، بل حتى الإعلام المحلي والعالمي يتجاهل أخبارهم، ولا يحكي مجازرهم ومظالمهم ، ولولا أن الأمين العام للأمم المتحدة صرح أن عدد المهجرين من أفريقيا الوسطى إلى الدول المجاورة بلغ مليوناً ، ولولا أن قناة الجزيرة أجرت هذه المقابلة اليتيمة، ما كنا لنقدِّر حجم مأساة المسلمين في أفريقيا الوسطى.

أما الأزهر الشريف وأما منظمة التعاون الإسلامي وأما المؤسسات العربية والإسلامية الأخرى وكذا الحكومات ، فتصمت صمت أهل القبور ..

ويبقى للقارئ الكريم أن يقارن بين الحَدَثين والصورتين : صورة الراهبات الـ 16 وقد اختُطِفن لثلاثة أشهر فقط، وهن معززات مكرَّمات، تُسلط عليهن الأضواء ، وتُنقَل أخبارهن ، ثم يتحرك الإعلام الحاقد في الشرق والغرب ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور ، ويتباكى عليهن ، وتُفبرك الأخبار الكاذبة لاستدرار العاطفة عليهن ، بينما مليون مسلم في أفريقيا الوسطى يُشردون خارج وطنهم وبلادهم ، ويذوقون صنوف الهوان والعذاب ، ومن قبلهم تسعة ملايين من السوريين هُجِّروا وشُرِّدوا ،  وفقدوا البيت والمأوى والمعيل والدواء والطعام إلى درجة الموت جوعاً ، ومع كل هذه الأهوال لا تتحرك ضمائر أهل السنة في العالم ولا المسلمين بعامة ولا حكوماتهم ، فضلاً عن أن تتحرك الجهات الأخرى، حتى أولئك الذين يُسمَّون أنفسهم بأصدقاء سوريا !!! لا نسمع منهم إلا لغواً وتصريحات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.

اللهم إليك نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس ، أنت رب المستضعفين وأنت ربنا، إلى من تكلنا؟ إلى عدو بعيد يتجهمنا أم إلى قريب ملكتَه أمرنا؟! اللهم إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي ، غير أن عافيتك أوسع لنا...

خادم رابطة العلماء السوريين

محمد فاروق البطل

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين