إلى مَن لا يعمل.. ويعزُّ عليه أن نعمل

يريدُ الملوكُ مَدَى جَعفَرٍ … ولا يَصنعونَ كما يَصنعُ

أخذ عليَّ بعض الصِّحاب – وبعض من يزعم أنه من الصِّحاب – أني انشغلت عن تخصُّصي الدقيق بالعربية وفقهها وعلومها، وتحقيق مخطوطاتها، بشيءٍ من عرضِ جمالها وبيانها، وتتبُّعِ طرائفها ولطائفها! وكأني – بزعمهم - استبدلتُ الذي هو أدنى بالذي هو خير!

وفي الإجابة أقول: إني قضيت شطرًا من عمري أعمل في مركزٍ مرموق للبحوث والدراسات العلمية، فاشتغلت في قضايا اللغة وفقهها، والمعجمات بأنواعها، والإحصاء اللغوي، وتنافر الحروف، والصوتيات، والنظام الصوتي العربي، وتحليل أصوات العربية، ونظام المفهومية، واللسانيات الحاسوبية، ومعالجة العربية بالحاسوب، وتعليم العربية بالحاسوب، والنظام الصرفي العربي، وعلم التعمية واستخراج المعمى... وغير ذلك من بحوثٍ دقيقة وقضايا تخصصيةٍ، لا يكاد يهتمُّ بها إلا خاصَّة الخاصةِ ممن يعنيهم أمرُ مثلِ هذه البحوث، ولا يكاد يسمع عنها أحدٌ بَلْه أن ينتفعَ بها أو يشمَّ ريحها!

ذلك لأنه ضُرِبَ بينَنا وبينَ نشرِ هذه البحوث بسُورٍ ليس له باب! ظاهره فِيهِ الرَّحْمَةُ وَباطنه مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، ولا يُسمح لأحدٍ أن يظهرَه.. أو ينقُـبَـه!

حتى البحث الذي نلتُ به درجة الماجستر لم يُسمح لي بنشره، وما نشرته إلا منذ أعوامٍ قليلة بعنوان: (المعجم العربي: دراسة لتنافر الحروف في جذور العربية).

بل إن أحد كبار الإعلاميين – وهو الدكتور رياض نعسان آغا - حاول جاهدًا أن يستضيفنا في لقاء تلفازي حول عملنا في علم التعمية، فما اسطاع أن يحقق مبتغاه، ولجأ فيما أذكر إلى استضافة مَن لا علمَ له بالتعمية، ليتحدَّث عن كتابنا (علم التعمية واستخراج المعمَّى عند العرب) الذي أخرجناه في سفرين عظيمين (عامي 1987 و1997) حظيا فيما بعد بعناية مدينة الملك عبد العزيز ومركز الملك فيصل في المملكة العربية السعودية ليترجما إلى الإنجليزية في ستة أجزاء، وليحتفى بالمؤلفين ويُكرَّما أجلَّ تكريمٍ في الرياض عام(2002).

ما علينا...

ثم منَّ الله عليَّ بالخروج من القُمقم، والانعتاق من رِبقة القيد والتقييد، والتخصص والتخصيص.. والدوام الطويل من الثامنة صباحًا إلى الخامسة مساءً، إن لم يمتدَّ إلى العاشرة أحيانًا.. لأنطلق إلى عالمٍ أرحب، وأنزل من برج التخصُّص الضيق إلى دنيا الناس الواسعة، ورأيتُني أواجهُ الناس في الإذاعة، والتلفاز، والقنوات الفضائية، والمجلات، والجرائد، وسائر وسائل الإعلام، وأدوات التواصل الاجتماعي، والمحاضرات والندوات والدورات... فبمَ أحدِّثهم؟!

أفأحدثهم باللسانيات والصوتيات والحاسوبيات.. وما إلى ذلك؟ وهم - على حدِّ تعبير الأستاذ يوسف الصيداوي رحمه الله قد كفروا باللغة.

فبمَ أئتلف قلوبهم؟ وكيف أحبِّب العربية إليهم؟ وأدخلها إلى قلوبهم فضلا عن آذانهم وبقيةِ حواسِّهم؟ بل كيف أُعلي ذكرَها، وأنشر عطرَها، وأرفع رايتها، وأؤدي شيئًا من حقوقها؟.

لقد وجدتُني ألزمَ مقولةَ سيدنا علي رضي الله عنه حين قال: "حَدِّثُوا النّاسَ بِما يَعْرِفُونَ أتُرِيدُونَ أنْ يُكَذَّبَ الله ورَسُولُهُ؟".

نعم لقد حدَّثْتُ الناس بما يعرفون، وبما يتذوقون، وبما يقرِّب إليهم العربية وفنونها، لا بما ينفِّرُهم منها، ويزيدهم بعدًا عنها.

رأيتُني أتخيَّر لهم من الشعر أعذبَه، ومن الأدب أطربَه، ومن النوادر والطرف أحلاها وأنداها، ومن الحكم والأمثال أسيَرَها وأبقاها، ومن الآيات والأحاديث أبلغَها وأزكاها.

لقد نذرتُ نفسي لهذه اللغة الشريفة، أسعى جاهدًا أن أنقل عشقي لها، وكَلَفي بها، إلى الناس كافَّة، سالكًا في سبيل ذلك كلَّ سبيلٍ ممكن، فهل عليَّ يا لَلنَّاس من حَرج؟!

أهيمُ بحبِّ مَــنْ أهوَى وإني لأرجو الخلق طُــرًّا أن يَــهيمُوا

وذلك لأني والله أحبُّها، وأباهي بحبِّها، وأحبُّ من يحبُّها..

على أني - والإنصاف شريعة - لم أنسَ ولم أهملْ علومها، وما يحتاج إليه بعض المتخصصين والراغبين في فنونها، فأقمت دوراتٍ في النحو والصرف والبلاغة والعروض، ودورات للإعلاميين والقانونيين والخطباء والأئمة والمؤذنين وطلاب المعرفة اللغوية أنى كان تخصصهم. وأقرأتُ فيما أقرأت الآجرُّومية، وشرح قطر الندى، وشرح شذور الذهب، وشرح كتاب دروس البلاغة, وشرح كتاب حسن الصياغة في فنون الصياغة، والبيان والتبيُّن، والصرف الصغير، وبداية الصرفي (شرح متن البناء)، وشيئًا من الخصائص لابن جني، والاقتراح في أصول النحو للسيوطي...

وسجلتُ مئات الحلقات في برامجَ تلفازية، وأخرى إذاعية، وثالثة في وسائل التواصل الاجتماعي من وثاب ويوتيوب وواجوه (فيس) وتلجرام ومغراد (تويتر)... على الشابكة، تناولتْ أفانين من علوم العربية، وملامحَ من بيانها وجمالها، ومسائل في إعراب القرآن، ولمحات من بلاغته وبيانه وإعجازه..

هذا فضلًا عن عشراتٍ - أربَت على المِئين - من المقالات والبحوث العلمية المحكَّمة، التي تناولت موضوعاتٍ شتّى، وقد نشرت البحوث في مجلات علمية محكمة، ونشرت المقالات في مجلات ثقافية وأدبية وعلمية، وجرائد متنوعة، وفي مواقع الشابكة, ووسائل الإعلام المختلفة.

وألَّفتُ ونشرتُ أكثر من عشرين كتابًا - منذ حللتُ أرض الكويت الطيِّبة عام 1999م - تناولت فنونًا من أفانين العربية وعلومها وآدابها - فضلا عما شاركت فيه من الكتب الجامعية، والمواد المساندة، والمناهج الأكاديمية – أذكر منها:

1. المفاخرات والمناظرات.

2. كيف تغدو فصيحاً عفَّ اللسان.

3. ذات القوافي لابن الدريهم- تحقيق -

4. مهارات الاتصال في اللغة العربية (1 - 2).

5. تحت راية العربية.

6. من أفانين الأدب.

7. العربية.. وطرائق اكتسابها.

8. ملامح من بيان العربية وجمالها.

9. روائع وبدائع.

10. مختارات من ديوان عمر أبو ريشة.

11. من رجالات دمشق.

12. نحو اجتناب اللحن في الخطابة.

13. تباريح في حب العربية.

هذا إلى تحقيقي بعض المخطوطات مثل: "قصيدة ابن الدريهم في حل رموز المكاتبات". و"عمدة النِّحرير في الإدغام الكبير" للمالقي. و"كشف الـمُـــغَـــمَّــى عن أصول الـمُـــعَــمَّــى" للمرتضى الزبيدي.

وقد تمَّ اختياري خبيرًا لتجويد اللغة العربية والنهوض بها في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو). وعضوًا في المجلس العلمي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية. حيث رأست فريق العمل الكويتي للمعالجة المعجمية في المرحلة الأولى من المعجم، وأعمل الآن على اعتماد الموادِّ المنجزة في المرحلة الثانية من المعجم.

كما انتُدبتُ للعمل في كلية الدراسات العليا بجامعة الكويت، وأنجزت مشروع امتحان تحديد المستوى في اللغة العربية في ثلاثة مستويات (شبيه التوفل في الإنجليزية). فضلًا عن تدريسي العربية وعلوها في جامعة الكويت، ثم في الجامعة العربية المفتوحة، وجامعة الخليج، وكلية القانون الكويتية العالمية.

ولا والله لستُ أمنُّ على العربية بما صنعت، بل لله المنة والفضل، وللعربية الشكر والبر، فقد علمَتْني من جهل، وشهرتْني من نُكْر، وأغنَـتْـني من فَقْر، وآوتني في سِتْر...

فماذا بعد؟

ينتابني شعورٌ أني لم أُؤَد جزءًا من حق العربية عليَّ، بل أشعر أني مقصر معها ومع محبِّـيها، والراغبين في التضلُّع من علومها وفنونها، فأسأل الله العلي الحكيم أن يُلهمني الصواب والسداد، وأن يزيدني حبًّا لها، وخدمةً لعلومها وفنونها، ورفعًا لرايتها.

وأبتهل إليه سبحانه أن يجعل ذلك كله زُلفى إليه، وشفاعةً تشفع لي تقصيري في جانبه، وأن يغفر لي ما خالط ذلك من أمر الدنيا، فقلَّما يخلو عمل من شهواتِ هذي الحياة الفانية، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به، سبحانه إليه المصير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين