إلا المُجاهرون

المحاور

الجهر هو الإعلان والصدع والنشر والظهور .. وهو عكس الكتم والإخفاء والإسرار.

ثمة جهر إيجابي مطلوب .. ومجاهرة سلبية قبيحة مذمومة .. فما المذموم من المجاهرة، وما المحمود من الجهر ..؟! كل ذلك يتطلب تتبعاً في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

أما الجهر الإيجابي فهو مطلوب في أمور ذُكرت في كتاب ربنا سبحانه، ومن ذلك:

الجهر في بذل المعروف كالصدقة وغيرها، بقصد تشجيع الآخرين، وحثهم عليها، قال تعالى: "وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا" ﴿٧٥ النحل﴾.

الجهر في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد دعا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في مكة سراً ثلاث سنوات، ثم أُمر بالصدع والجهر بالدعوة في قوله تعالى: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" (الحجر: 94)، وكذلك جهر نوح عليه السلام بدعوته أحياناً، قال تعالى: "ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا" ﴿٨ نوح﴾.

الجهر بالحق في مواجهة الباطل، وهذا من العزائم التي لا يقدر عليها الا الرجال الرجال، فالتصريح في وجه الطغاة المستبدين عزيمة، وإن كان يسعنا الأخذ بالرخصة تلميحاً في عرض وطلب حقوقنا، بل إن في الجهر بالسوء عند طلب الحقوق رخصة، قال تعالى:" لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ" (النساء: ١٤٨) .. ومن لطيف معاني وتطبيقات هذه الآية ما قاله مجاهد: "ضاف رجل رجلاً فلم يؤد إليه حق ضيافته، فلما خرج أخبر الناس، فقال: " ضفت فلاناً فلم يؤد إليَّ حق ضيافتي"، فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم، حين لم يؤد الآخر إليه حق ضيافته .. فماذا نقول فيمن أكل حقوقنا، واستبد بنا، وسهَّل مهمة الأعداء في بلادنا؟!!

أطلق النبي صلى الله عليه وسلم تعميماً خطيراً لأمته في مسألة الذنوب والخطايا وكيف يتعامل معها بعض من ابتلي بها، حين قال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه" رواه البخاري.

وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أثر تلك المجاهرة وخطورتها على المجتمعات حين قال:" يا مَعْشَرَ المهاجرينَ ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ : لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ ؛ حتى يُعْلِنُوا بها ؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا ،... " صحيح الجامع.

أما المجاهرة بالمعاصي والآثام فشواهدها وتطبيقاتها كثيرة، لا سيما في زمان ضعف فيه الدعاة واستكانوا، وتمدد فيه أهل الكفر والعهر واستطالوا .. ومن صور هذه المجاهرة وتطبيقاتها في زماننا هذا:

المجاهرة بالمعاصي السياسية:

ومن ذلك الإعلان بكل وقاحة عن تحييد شرع الله، والاحتكام إلى أنظمة وضعية لا دينية علمانية، والاحتفال بمعاهدات وتحالفات ومواثيق واتفاقيات لا تقيم للناس دنيا ولا تحفظ لهم دينا.

المجاهرة بالمعاصي الاقتصادية:

ومن ذلك إقامة البنوك والمؤسسات الربوية، واعتماد أنظمة الضمان القائم على الربا، وإلزام الناس بالضرائب والتشريعات الجائرة، واعتبار ذلك من القوانين التي تُعرِّض كل من يتجاوزها للخطر.

المجاهرة بالمعاصي الاجتماعية:

ومن ذلك إقامة أحفال للشواذ واللوطيين، والإعلان عن الأندية الليلية، والموافقة على اتفاقيات من شأنها هدم الأسرة، ودعم وتأييد كل ما من شأنه استقواء النساء على أزواجهن، وفتح المجال للمرأة كي تعمل بأي مهنة وتزاحم الرجال في كل ميدان، واعتبار السفور والتبرج حرية شخصية.

المجاهرة بالمعاصي الفكرية:

ومن ذلك العبث العلني والمفضوح بمناهجنا، ومنابرنا، وإذاعاتنا، وفضائياتنا، والسماح بنشر الغثاء من الأفكار عبر المقالات والمواقع والروايات المختلفة، وترخيص محلات بيع الخمور، والتساهل في ملاحقة مروجي المخدرات والمسكرات ومُذْهِبات العقول بأنواعها.

ومن المعاصي التي يجاهر بها أصحابها وهم يستهينون بخطورة تلك المجاهرة فيها؛ التدخين، والغيبة، ورفع صوت المسجل على الأغاني الماجنة، والاحفال التي تقام في الأحياء وما فيها من رقص وغناء، و الكلام البذيء، وما يعرض من صور وتماثيل عارية في محلات بيع الملابس وغير ذلك.

لقد أهلك الله تعالى أقواماً بالغوا في المجاهرة بالمعاصي، ولم يصغوا لنداءات الإصلاح، ومن ذلك؛ قارون الذي خرج مجاهراً منتفشاً فعوقب بالخسف، قال الله تعالى: "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ" (القصص:81)، وقوم لوط عليه السلام الذي جهروا بشذوذهم، فخسف الله بهم، قال تعالى: "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ" (هود: 82).

كرماء الوجوه وكبار النفوس إذا أخطأ أحدهم فإنه يستتر ويتوارى .. ويخاف أن يُفضح .. وما يلبث إلا وأن يتوب ويرجع .. فقد روى البيهقي والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" اجتنبوا هذه القاذورات، التي نهى الله عنها، فمن ألمَّ منها بشيء فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإنه من يبد له صفحة نقم عليه كتاب الله".

إن سعة علم الله تعالى بأحوال عباده الكاتمين لخطايا والمعلنين بها يزيد من حرصهم على الطاعات وترك المعاصي واجتناب الشبهات، قال تعالى:" سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ" (الرعد: 10).

أما منهج التعامل مع المجاهرين بالمعاصي فلا شك أنه يختلف عن منهج التعامل مع العصاة غير المجاهرين، لأن المجاهرين يرفعون لواء التحدي للخالق والخلق، فلا يصح الاستشهاد بما نسب لعمر رضي الله عنه بهتاناً وزوراً من أنه قال:" أميتوا الباطل بعدم ذكره أو بالسكوت عنه" لأن المجاهر فاجر جدير بنا أن ننصحه، فإن تاب تاب الله عليه، وإلا فالواجب فضحه وتعريته وتحذير الناس منه .. أما الستر فهو لمن عصى وتاب أو لمن أخطأ بلا إصرار أو لمن لا تؤثر معصيته في الآخرين.

إن قلة الحياء من المخلوق وانعدام الخوف من الخالق، تورث فجوراً وعهراً ومجاهرة بالمعاصي والكبائر والآثام، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

قال الإمام النووي رحمه الله: "من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن المُظهِر للمنكر يجب الإنكار عليه علانية، ولا تبقى له غيبة، ويجب أن يعاقَب علانية بما يردعه عن ذلك، وينبغي لأهل الخير أن يهجروه ميتًا إذا كان فيه ردع لأمثاله، فيتركون تشييع جنازته".

وقال عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه كان يقال: "إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة، ولكن إذا عُمل المنكر جهاراً استحقّوا العقوبة كلّهم".

وقال الطبري رحمه الله عند قوله تعالى:" وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"، "يقول تعالى ذكره: ولا تقربوا الظاهرَ من الأشياء المحرّمة عليكم، التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها، والباطنَ منها الذي تأتونه سرًّا في خفاء لا تجاهرون به، فإن كل ذلك حرام ".

وقال ابن عبد القوي:

وَهِجْرَانُ مَنْ أَبْدَى الْمَعَاصِيَ سُنَّةٌ

وَقَدْ قِيْلَ: إِنْ يَرْدَعْهُ أَوْجِبْ وَأَكِّدِ

وَقِيْلَ عَلَى الإِطْلاَقِ: مَا دَامَ مُعْلِنَا

وَلاَقِهِ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ مُرَبَّدِ

وختاماً

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حيي ستير، يحب الحياء والستر" رواه أبو داود وهو صحيح .. فلا يجوز للمسلم أن يفضح نفسه ولا أن يكشف ستر غيره .. وكل مجاهر بالمعاصي يشتهي أن تنتشر الفاحشة وأن تشيع في المجتمع، لأجل ذلك فإن المجاهرين يحكمون على أنفسهم بالعقاب الأليم .. قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" (النور: 19).

اللهم إنا نعوذ بك من الآثام والفواحش ما ظهر منها وما بطن

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين