إكمال الدين لا يعني تحديد عدد القربات

هذا منشور وقفت عليه في إحدى مجموعات الواتس أب، شاركه أحد أعضاء المجموعة..


--------

فكتبت تعليقًا عليه:

أما أن الإسلام قد كمل في العهد النبوي.. فهذا لا ريب فيه. وهو صريح آية المائدة:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]

وأما ادعاء الشيخ أن القربات إلى الله قد ختم أمرها وانتهى عددها.. فغير مسلّم..

وإلا فماذا نقول في جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أشار به سيدنا عمر على سيدنا أبي بكر، وأعاده سيدنا عثمان في خلافته. رضي الله عنهم أجمعين؟!

أم أن ذلك الجمع لم يكن قربة إلى الله من هؤلاء الخلفاء الراشدين الذين جمعوا القرآن في مصحف واحد، بعد أن لم يكن كذلك في العهد النبوي؟!!

ثم ماذا نقول في نقط المصحف الذي لم يحدث إلا بعد عصر الراشدين بسنين عدد، والذي لا يستغني عنه المسلمون عبر العصور، في تعلم القرآن تلاوة وتفسيرا، بل ولا في تعلم العربية كتابة وقراءة..

وقد مضت العقود الستة الأولى بعد الهجرة، ولا يعرف أحد تمييز الحروف المتماثلة في الرسم، كالجيم والحاء والخاء، والصاد والضاد، والعين والغين..

ولم تكن الحروف قد قسمت إلى مُعجَم ومُهمَل، حتى كان ذلك - في أشهر الأقوال - على يد أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ

وفي قول آخر أن كان ذلك بعده بسنين، على يد يحيى بن يعمَر، المتوفى سنة 129هـ

أم أن الشيخ الألباني رحمه الله، كان يرى أن نقط المصحف لم يكن قربة تضاف إلى عدد القربات التي كانت في العصر النبوي؟

أم تُراه كان يرى ذلك بدعة مذمومة؟

أم تُراه كان يَعُدها بدعة في أمر دنيوي لا ديني، مع أن موضوعها القرآن الكريم الذي هو الأصل الأول من أصول التشريع وأدلة الأحكام؟!

 

ثم ماذا نقول اليوم في بناء المدارس الشرعية، والمقارئ القرآنية، وتصنيف كتب العلم وطباعتها، وفي بناء المآذن على المساجد، وبناء تجاويف المحاريب في جُدُر قبلتها، وفي اتخاذ المكيفات ومكبرات الصوت وسقاية الماء فيها..؟ إلى غير ذلك، وهو كثير مما لم يكن شيء منه في العهد النبوي...

أم أن كل تلك الأعمال النافعة لا يُتصور في شيء منها القربة إلى الله؟!!

مع أننا لو ألغيناها اليوم بدعوى التبديع، لحرَمْنا الأمة من وجوه من الخير والنفع والتيسير، لا يعلمها إلا الله.

ثم ماذا عن الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه بسنده إلى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ)؟

هل كان ذلك في نظر الشيخ الألباني، خاصا بالعهد النبوي؟!!

ثم إن الشيخ الألباني أخبرنا - كما في المنشور - بأن العبادات التي يُتقرب بها إلى الله تعالى، قد انتهى عددها.. ولم يخبرنا عن آخر عدد انتهتْ إليه، ثم وقفتْ عنده!!

لا شك يا أخي، أن كل خير تقوله أو تفعله قربة، إذا خَلَصَت النية.

وذلك أن الله تعالى قال في آية الحج: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]

وذلك بعد أن أمر بالصلاة خاصة في صدر الآية، ثم تلاها بالأمر بعموم العبادات فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} ثم ختمها بالأمر بما هو أعم من كل ما سبق في الآية فقال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]

جاء في تفسيرها عند القرطبي، أن قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) .. المراد بها الصلاة المفروضة.. وأن قوله: (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) أي امتثلوا أمره. وقوله: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) ندب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع. اهـ

 

ولا يفوتنا أن سيدنا عمر قد احتجَّ على سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما، بفحوى آية الحج المتقدمة، عندما تردد الصديق رضي الله عنه في جمع القرآن في مصحف واحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله. فقال له عمر: [هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ] فانشرح الصديق رضي الله عنه لتلك الحجة، وشرع من فوره بالعمل بموجبها، بل قد احتج الصديق بنفس تلك الحجة العمرية، على زيد بن ثابت الأنصاري، رضي الله عنه، عندما كلفه الصديق بجمع القرآن في مصحف، فتردد لنفس السبب الذي تردد الصديق لأجله من قبل، وقال زيد: [كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لزيد بن ثابت، كما قال عمر لأبي بكر قبل قليل: [هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ]

وإليك نص هذا الخبر في إحدى روايات صحيح البخاري بسنده إلى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: "هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ." فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لَا يَتَكَلَّمُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ، مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ." فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ.. الحديث.

هذا الحديث الصحيح في سنده، الجليل في موضوعه، يعتبر نقطة تحول في هذه المسألة، تَحُلّ هذه المعضلة التي لا يزال يتوهمها كثيرون، ممن يفكرون على طريقة الشيخ الألباني في هذا المنشور.

وهي طريقة كانت وجيهة، قبل أن يشرح الله صدر أبي بكر لقول عمر: [هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ]

 

أما وقد شرح الله صدر أبي بكر لمقالة عمر، ثم باشر أبو بكر فعلا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم احتج على زيد بن ثابت بمقالة عمر: [هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ].. وقد أمرنا الحق سبحانه بفعل الخير في آية الحج فقال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.. فقد بطلت تلك الطريقة في التفكير، ولم يعد وجيها أن تقول في أمر جَدَّ، فيه خير ونفع، وليس فيه مخالفة لنص خاص، ولا لأصل عام: [كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟] أو تقول فيه: [لو كان خيرا لسبقنا إليه مَن هم خير منا من أهل القرون المفضلة]

 

فقد ثبت أنه قد جَدَّت وجوه من الخير والنفع، فعلها التابعون، ولم يفعلها من هم أفضل منهم من الصحابة رضوان الله عليهم، كنقط المصحف، وتقسيم المصحف إلى ثلاثين جزءا، والجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أرباع..

وجَدَّتْ وجوه من الخير في عهد الراشدين، لم يفعلها قبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كجمع القرآن في مصحف واحد، وجمع المسلمين في تراويح رمضان على إمام واحد، يصلي بهم التراويح عشرين ركعة، في خلافة عمر رضي الله عنه.

كما قد جَدَّتْ وجوه من الخير لم يفعلها الصحابة ولا التابعون.. وفَعَلَها مَن بعدهم، وذلك مثل دعاء ختم القرآن في تراويح رمضان.

جاء في المغني لابن قدامة: فَصْلٌ: فِي خَتْمِ الْقُرْآنِ: قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت: أَخْتِمُ الْقُرْآنَ، أَجْعَلُهُ فِي الْوِتْرِ، أَوْ فِي التَّرَاوِيحِ؟ قَالَ: اجْعَلْهُ فِي التَّرَاوِيحِ حَتَّى يَكُونَ لَنَا دُعَاءً بَيْنَ اثْنَيْنِ.

قُلْت: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: إذَا فَرَغْتَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ فَارْفَعْ يَدَيْكَ قَبْلَ أَنْ تَرْكَعَ، وَادْعُ بِنَا وَنَحْنُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَطِلْ الْقِيَامَ.

قُلْت: بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: بِمَا شِئْت.

قَالَ: فَفَعَلْت بِمَا أَمَرَنِي، وَهُوَ خَلْفِي يَدْعُو قَائِمًا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ.

وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ فِي خَتْمِ الْقُرْآنِ: إذَا فَرَغْت مِنْ قِرَاءَةِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فَارْفَعْ يَدَيْكَ فِي الدُّعَاءِ قَبْلَ الرُّكُوعِ.

قُلْت: إلَى أَيِّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِي هَذَا؟ قَالَ: رَأَيْت أَهْلَ مَكَّةَ يَفْعَلُونَهُ، وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَفْعَلُهُ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ. انتهى.

قلت: فانظر كيف أن الإمام أحمد رحمه الله، لم يستدل على دعاء الختم بآية تخصه من كتاب الله، ولا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حتى بأثر عن الصحابة رضي الله عنهم.

وإنما اكتفى بأنه خير وقربة، وأنه رأى أهل مكة يفعلونه، ومعهم سفيان بن عيينة. ولم يكن سفيان هذا صحابيا ولا تابعيا، فقد كانت حياته بين 107 و: 198 هـ

 

فأين إذن المبدأ الموهوم الذي يقول: [لو كان خيرا لسبقونا إليه] والذي جعله بعض الناس أصلا لا يجاوزونه.؟ وما هو بأصل ولا فرع.

فالإمام أحمد رحمه الله، كان في مسألة دعاء الختم، على مبدأ: "هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ." الذي أخذ به الصاحبان الأكرمان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، في مسألة جمع القرآن، بعد تردد الصديق رضي الله عنه فيها.

إذنْ فما بال هؤلاء الإخوة الذين يتبنون طريقة الشيخ الألباني في هذا المنشور، ما بالهم يقفون عند مقالة أبي بكر رضي الله عنه: (كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) ثم لا يجاوزونها كما جاوزها الصديق نفسه رضي الله عنه مستندا إلى مقالة عمر: [هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ] المستندة إلى آية الحج: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؟!!

 

وقل مثل ذلك في وجوه من الخير لم يفعلها أهل القرون المفضلة، كختم المجلس، أو ختم الدعاء بقراءة الفاتحة، فإنها أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ. كما ثبت في صحيح البخاري.

أو في ختم التلاوة بعبارة: [صدق الله العظيم]. فإنها ثناء على الله بما هو أهله.

أو في التكبير الجماعي في العيدين، أو التلبية الجماعية في الحج والعمرة، فإنه اجتماع على الخير وتعاون عليه.

أو في غير ذلك من وجوه الخير والإحسان، فإنَّ كل إحسان تبذله، قربةٌ إذا خَلَصَت النية..

وذلك أن الله تعالى قال في آية الإسراء: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ } [الإسراء: 7]

فهل لمفردات هذا الإحسان، أو ذلك الخير، عدٌّ أو إحصاء ينتهي بانتهاء العهد النبوي؟!

 

وهل يصح بعد ذلك قول الشيخ الألباني رحمه الله: "والعبادات التي يريد المسلم أن يتقرب بها إلى الله زلفى خُتم أمرها وانتهى عددها فلا يمكن أن يزاد عليها ولا حرف»‏؟!!

وأما عن الشبهات التي يتشبث هؤلاء الإخوة، ويرون أنها تعكِّر على ما قدمناه، والتي تتمثل في أحاديث صحيحة، يعارض بها بعضهم نهج الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فيما يجدُّ من القُربات في أمور فيها خير ونفع، وليست تصادم نصا خاصا ولا أصلا عامًّا، النهج الذي يتمثل في مقالتهما رضي الله عنهما: [هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ] .. ويأبون إلا ما قرره الشيخ الألباني رحمه الله في هذا المنشور..

مثل حديث الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ.

أو حديث مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مرفوعا: وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ.

فإن الراسخين في العلم لم يجدوا في ذلك تعارضا يوجب شبهة أصلا.

فأما حديث عائشة رضي الله عنها: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ). فإن الحديث على وجازته، فيه قيدٌ يحل الإشكال، بل يلغي الإشكال من أصله. وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "مَا لَيْسَ مِنْهُ"

فإن هذا القيد في كلام أفصح من نطق بالضاد، صلى الله عليه وسلم، ليس لغوا ولا حشوا، وإنما هو قيد مقصود المعنى.

فقد يُحْدِث المسلمون في الدين ما ليس منه، لمخالفته نصا خاصا أو أصلا عاما، كتبرج النساء، واختلاطهن بالرجال، وظهور الرجال بثياب تحسر عن الركبة، والتدخين، والمعازف... ونحو ذلك. فهذا إحداث في الدين مردود.

وأما الأمر الذي يحدثه المسلم من الخير والإحسان، مما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينه عنه، فهو من الدين، لأن قيد "مَا لَيْسَ مِنْهُ" قد أخرجه من المردود، فإنه منه، لدخوله تحت الدليل العام، من مثل قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]

وقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]

وأما حديث جابر: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) فقال عنه النووي في شرحه على صحيح مسلم: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة) هَذَا عَامّ مَخْصُوص، وَالْمُرَاد غَالِب الْبِدَع. قَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ كُلّ شَيْء عُمِلَ عَلَى غَيْر مِثَال سَابِق. قَالَ الْعُلَمَاء: الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام: وَاجِبَة، وَمَنْدُوبَة، وَمُحَرَّمَة، وَمَكْرُوهَة، وَمُبَاحَة. فَمِنْ الْوَاجِبَة: نَظْم أَدِلَّة الْمُتَكَلِّمِينَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمَلَاحِدَة وَالْمُبْتَدِعِينَ وَشِبْه ذَلِكَ. وَمِنْ الْمَنْدُوبَة: تَصْنِيف كُتُب الْعِلْم، وَبِنَاء الْمَدَارِس وَالرُّبُط، وَغَيْر ذَلِكَ. وَمِنْ الْمُبَاح: التَّبَسُّط فِي أَلْوَان الْأَطْعِمَة وَغَيْر ذَلِكَ. وَالْحَرَام وَالْمَكْرُوه ظَاهِرَانِ. وَقَدْ أَوْضَحْت الْمَسْأَلَة بِأَدِلَّتِهَا الْمَبْسُوطَة فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات، فَإِذَا عُرِفَ مَا ذَكَرْته، عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيث مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوص. وَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة، وَيُؤَيِّد مَا قُلْنَاهُ: قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي التَّرَاوِيح: نِعْمَتْ الْبِدْعَة. وَلَا يَمْنَع مِنْ كَوْن الْحَدِيث عَامًّا مَخْصُوصًا قَوْله: (كُلّ بِدْعَة) مُؤَكَّدًا بـ: (ِكُلِّ)، بَلْ يَدْخُلهُ التَّخْصِيص مَعَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُدَمِّر كُلّ شَيْء}. اهـ انظر شرح النووي على مسلم (6/ 154)

فحديث: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) من العام المخصوص عند النووي، وقد بين النووي رحمه الله، أنَّ النص الذي خصص هذا النص العام، هو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيّ مرفوعا: مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا .. الحديث

 

قال النووي عند شرحه: وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَخْصِيص قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلّ مُحْدَثَة بِدْعَة وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة" وَأَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمُحْدَثَات الْبَاطِلَة وَالْبِدَع الْمَذْمُومَة. اهـ انظر شرح النووي على مسلم (7/ 104)

 

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله، في فتح الباري، عند شرح (بَاب الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من (كِتَاب الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) من صحيح البخاري: والْمُحْدَثَات، بِفَتْحِ الدَّالّ: جَمْع مُحْدَثَة. وَالْمُرَاد بِهَا: مَا أُحْدِث وَلَيْسَ لَهُ أَصْل فِي الشَّرْع، وَيُسَمَّى فِي عُرْف الشَّرْع: بِدْعَة. وَمَا كَانَ لَهُ أَصْل يَدُلّ عَلَيْهِ الشَّرْع فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ. فَالْبِدْعَة فِي عُرْف الشَّرْع مَذْمُومَة، بِخِلَافِ اللُّغَة؛ فَإِنَّ كُلّ شَيْء أُحْدِث عَلَى غَيْر مِثَال يُسَمَّى: بِدْعَة. سَوَاء كَانَ مَحْمُودًا أَوْ مَذْمُومًا.... قَالَ الشَّافِعِيّ: الْبِدْعَة بِدْعَتَانِ؛ مَحْمُودَة وَمَذْمُومَة، فَمَا وَافَقَ السُّنَّة فَهُوَ مَحْمُود، وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ مَذْمُوم.... وَجَاءَ عَنْ الشَّافِعِيّ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبه قَالَ: الْمُحْدَثَات ضَرْبَانِ؛ مَا أُحْدِث يُخَالِف كِتَابًا أَوْ سُنَّة أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا، فَهَذِهِ بِدْعَة الضَّلَال، وَمَا أُحْدِث مِنْ الْخَيْر لَا يُخَالِف شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُحْدَثَة غَيْر مَذْمُومَة. اِنْتَهَى . وَقَسَّمَ بَعْض الْعُلَمَاء الْبِدْعَة إِلَى الْأَحْكَام الْخَمْسَة وَهُوَ وَاضِح. انظر فتح الباري لابن حجر- دار المعرفة (13/ 253)

 

قلت: فانظر قول الحافظ ابن حجر: وَالْمُرَاد بِالْمُحْدَثَة: [مَا أُحْدِث وَلَيْسَ لَهُ أَصْل فِي الشَّرْع، وَيُسَمَّى فِي عُرْف الشَّرْع: بِدْعَة. وَمَا كَانَ لَهُ أَصْل يَدُلّ عَلَيْهِ الشَّرْع فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ.]

وانظر قول الإمام الشافعي رحمه الله: [وَمَا أُحْدِث "مِنْ الْخَيْر" لَا يُخَالِف شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ...] فهي نفس حجة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين سوَّغا جمع القرآن الذي لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، بقولهما: [هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ].

والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين