إقامة الحُجة على غلط من أنكر صوم العشر من ذي الحِجة

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:

فقد طالعت لبعض من يذكر نفسه باتباع الأثر -وفقنا الله وإياه لذلك دون إسراف ولا غلو- مقالا ذهب فيه إلى إنكار صوم العشر من ذي الحجة متتابعة، إلا من صام منها ما له أصل في الآثار كصوم الاثنين والخميس ونحوه، وزعم أنه بدعة واجترأ على إطلاق الخطأ لكل من استحبه مهما بلغ من العلم بدعوى مخالفة الهدي النبوي، وتعلق بضعف الأحاديث الواردة في صومها.

قال: (ولا يجوز الاستدلال بعموم حديث العمل الصالح لترويج البدع، لأن العمل الصالح الذي قصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها حدده وقيده حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يعني التهليل والتكبير والتحميد وما يتبع ذلك من مظاهر البر والصلة والإحسان) هذا كلامه.

وتعلق بخبر عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التسع قط) وفي رواية (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صائما في تسعة ذي الحجة قط).!

والجواب أن في كلامه هذا بمنع صوم التسع من ذي الحجة تشديد وتعنُّت لا مسوِّغ له.. وهو مردود من وجوه، نعم لم يصح في صوم العشر حديث لكن حديث:" ما من أيام العمل فيها.." كاف في إفادة المطلوب لأن الـ في العمل لاستغراق الجنس فتفيد العموم، وتخصيصه بخبر ابن عمر لا يفيد القصر، وغايته أنه يفيد الكمال، لأنه من التخصيص بموافق العام وقد تقرر في الأصول أن التنصيص على بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص، وإنما يفيد مزيد اهتمام وتشريف وتأكيد أفضلية.

ولهذا ذكر الطحاوي أن وجه قول السيدة عائشة أنه كان يقلُّ الصوم فيها، لأنه يضعفه عن الأعمال الأخرى في العشر، بدليل أن ابن مسعود كان لا يصوم العشر ويقول: إنـها تضعفني عن ما هو أفضل من الصلاة.

ويؤكد هذا أن قول عائشة:" ما كان " لا يقتضي النفي المطلق، بل هو على لغة قومها يراد منه التقليل أي يقل صومها كقولها:" ما رأيته يبول قائما" مع ثبوت بوله قائما عليه الصلاة والسلام وقولها:" ما رأيته صام شعبان كله" مع ثبوت أنه صامه كاملا من قولها رضي الله عنها، ونحوه قولها:" ما زاد في رمضان على إحدى عشرة ركعة" ولهذا جرى العمل على خلافه عند عامة الأئمة. 

وأيضا فقد صحَّ عن عمر أنه كان يستحب قضاء ما فاته من رمضان في العشر من ذي الحجة لفضل العمل فيها وروي مرفوعا، وحكاه السرخسي عن عامة الصحابة والتابعين، وما عارضه من النهي عن قضاء رمضان فيها لا يصح والصواب أنه موقوف، وقد ذكر البخاري عن ابن المسيب أنه كره التطوع بصوم عشر ذي الحجة لمن عليه قضاء رمضان.

وأخرج البيهقي عن أبي هريرة أنه سئل إنَّ عليَّ قضاء رمضان وأريد أن اتطوع في العشر؟ فقال: (لا بل ابدأ بقضاء حق الله ثم تطوع بما شئت).

فتأمَّل كيف أطلق له التطوع بما شاء ولم يحصره في الذكر، وتأمَّل قرنه بين التطوع فيها وقضاء رمضان، وهو يدل على أن التطوع فيها يكون من جنس قضاء رمضان وهو الصوم بيقين. 

وهذا ظاهر في أن السلف كان معهوداً عندهم صوم عشر ذي الحجة والتعبد فيها بكافة ما شرع، وإلا ما قالت عائشة: ما رأيته صائما فيها، وهذا من مخالفات السيدة عائشة للصحابة، ونفيها رؤيته صائما لا يلزم منه عدم صومه إياها مطلقا كما هو ظاهر، كنفيها سماع الأموات في خبر القليب ونحو ذلك، وقد جمع ذلك الحافظ الزركشي في تأليف مفرد.

وأيضا فقد صح من عمل بعض السلف صوم كل العشر كما يأتي من غير نكير ومخالف، لأنه لا يوجد دليل في منعه، ولو سلم دلالة خبر عائشة فهو لنفي المداومة لا لنفي أصل صوم العشر، لأنه من سلب العموم، وقد تقرر في الأصول أن عمومه صلاحي بدلي كعموم المطلق فلا يفيد الشمول والنفي العام مثل قوله تعالى:{ لا تدركه الأبصار} أي لا تدركه كلها بل بعضها كما قرره ابن المنير، وقد ثبت صوم ابن سيرين العشر عند ابن أبي شيبة، وكذا عن مجاهد وعطاء، وأخرج عبد الرزاق عن الحسن أن صوم يوم من العشر يعدل شهرين، وهذا عمل السلف ولا مخالف لهم ولا منكر عليهم.

وأيضا ففي الحديث:" ولا الجهاد في سبيل الله" فجعل الجهاد من عمل ذي الحجة وإلا ما صحَّت المفاضلة، لأنه قال:" إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء" وهو ظاهر في أن من جاهد في العشر فلم يرجع من نفسه وماله بشيء فقد أدرك فضل العمل فيها، فيلتحق الصوم بـالجهاد بإلغاء الفارق من جهة. 

وبالاعتبار والشبه من جهة أخرى، لأن الصوم والصلاة قرنا بالجهاد في غير حديث كقوله عليه الصلاة والسلام: (هل تستطيع أن تصوم فلا تفطر أو تقوم فلا تفتر) ؟ قال: لا. فقال: (لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهد في سبيل الله) الحديث.. وهذا يدل على أن الصوم في عشر ذي الحجة والصلاة وغيرها من أبواب الخير كلها مشروعة كالجهاد لكن الذكر أفضل لأنه نص الشارع.

والمعتبر في نظر الشارع ومقصوده: أن العمل بحسب الطاقة، وكلٌّ ميسَّر لما خلق له، فمن الناس من يطيق الصوم، ومنهم من يحب الصلاة، ومنهم من يرغب في العلم، ومنهم الصدقة، كما كتب العمري الزاهد إلى مالك يرغبه في العبادة والزهد عن العلم والتدريس، فكتب له مالك وهو أفقه منه: إنَّ الله قسم الأعمال بين عباده كما قسم الأرزاق، ورب رجل فتح له في العلم ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، وآخر فتح له في الصلاة ولم يفتح له في العلم، وما أظن الذي أنت فيه بأفضل مما أنا فيه وكلانا على خير والسلام.

ومن هنا يظهر الجواب عن اختلاف العلماء في أفضل الأعمال، بسبب تعارض الأحاديث الواردة في التنصيص على فضلها، فورد في الصوم أنه لا عَدل له، وورد في الجهاد أنه لا يبلغ فضل المجاهد فيه صائم ولا قائم للدهر، وورد في الحج والعمرة انتفاء الذنوب بحيث يرجع كيوم ولدته أمه، وغير ذلك، فيحمل هذا على التنويع والتوزيع لا على التفضيل والتخيير، من وجهين: أحدهما: بحمل العمل على أنه أفضل في حق معين يطيقه ويلائمه لا على التفضيل المطلق، وثانيهما: بحمله على أنه أفضل في موسمه وهذا لا ينافي عمل غيره في ذلك الموسم، بل المطلوب عمل الكل بحسب الطاقة مع تكثير جنس العمل الذي اعتبره الشارع في موسمه، كالتكبير والذكر في العشر فإنه أفضل من سائر الأعمال فيها لكن لا ينافي هذا أنه يصومها ويقومها ويتصدق فيها ويجاهد ويطلب العلم ويأتي بعامة وجوه البر، بيد أن الذكر يكون هو عادته وديدنه الأكثر لملاءمته هذا الموسم.

وهذا مثل تلاوة القران فإنه أفضل بيقين من الذكر بالتسبيح والتكبير والتهليل، لكن الذكر بـها أفضل في موسمه الذي هو عشر ذي الحجة، كما أن تلاوة القران أفضل من الذكر بـها في موسمه الذي هو رمضان، ولا يمنع هذا من الذكر في رمضان ولا من التلاوة في العشر من ذي الحجة، لكن يغلب عمل الموسم بحيث يكون هو الأكثر فيه من غيره، وليس من مقصود الشارع حصر العبادة في موسمها بحيث لا يأتي بغيرها، فإن هذا ينافي مقصوده من المسارعة للخيرات واستباقها.

فجعل الشارع أبواب الخير كلها مرغوبا فيها وجعل الذكر ملاكها كلها، ولكنه قد ينص في بعض المواسم على عمل يكون هو أفضلها في ذلك الموسم دون أن يحصر العمل به فيها بحيث يمنع غيره فيها، فإن هذا مناف لمقصود الشارع الذي ندب الناس للخير والفضائل. 

ولهذا ثبت في مستخرج أبي عوانة عن ابن عمرو أنه ذكر الأعمال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما من أيام العمل فيها وذكر) الحديث وقد حَّسنه الحافظ ابن حجر في (أماليه) فذكر الأعمال بحضرته عليه الصلاة والسلام مع تعقيبه إياها بالعموم الدال عليها في قوله (من من أيام..) ظاهر في شموله التطوع بكل وجوه البر والخير في العشر، وإلا كان من تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وقد صحَّ عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن يتجرد الناس في عشر ذي الحجة ويتشبهوا بالحاج ولا ريب أن الحاج يطوف ويذكر ويصلي وينسك ويعمل كل وجوه الخير، فكذلك من يتشبَّه به ممن لم يحج فإنه يعمل ذلك في العشر كما صحَّ أنه يستحب له الإمساك من شعره وظفره وهذا عمل، فإن قال المانع بمنع الصوم، لزمه منع هذه الأعمال في العشر، واللازم فاسد فكذا الملزوم.

وأيضا فحديث عائشة:" ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائما في العشر" هو مجرد فعل وقد تقرر في الأصول: أن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب ولا المنع، فظهر أن تمسك المانع بخبر عائشة لا دليل له فيه على مطلوبه وهو تعنت وتحجير لما وسَّع الله.

وأيضا فقد روي الحديث بلفظ:" ما من أيام التعبد فيها" ولفظ التعبد آكد في اقتضاء عموم العبادات من إطلاق العمل لأنه ألصق بالمدلول الشرعي، فيفيد أن كل عبادة مشروعة بأصل الشارع جاز بل استُحب التقرب بها في عشر ذي الحجة.

فإذا انضمَّ إلى ما تقدم ما روي من الحديث الضعيف في صوم العشر كحديث الترمذي وابن ماجه بلفظ:" ما من أيام أحب إلى الله التعبد فيها من هذه العشر يعدل صيام كل يوم منها صيام سنة "، مع حديث هنيدة الضعيف عند أبي داود، تأكد استحباب صومها من جهة أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال عند جمهور العلماء ولا سيما إذا تأيَّد بدلائل وقرائن خارجية من عمل السلف والاعتبار والقياس والعموم كما تقدم. 

ويقوِّي هذا أن عامة المصنفين في الحديث والأثر من أهل العلم يبوبون على حديث العمل في العشر باستحباب العمل الصالح فيطلقونه ولا يقيِّدونه بالذكر كما زعم المانع الذي لا نعلم له من السلف قائلا تقدمه إلى ذلك فيتبعه هو، وقد قال الإمام أحمد للميموني: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها امام.

ومنهم من يبوب بالصوم كابن حبان فإنه بوب على حديث عائشة بإباحة ترك صوم العشر، وقد نصَّ عامة الفقهاء من أهل المذاهب على استحباب صوم العشر، فحديث عائشة هذا فضلا عن كونه لا يدل على النفي المطلق، فهو أيضا متروك الظاهر لم يجر عليه عمل المسلمين، بل العمل المتوارث في كافة الأمصار والأعصار على خلافه، وقد تقرر أن العام الذي لم يجر العمل به لا يجوز العمل به كما قد بيناه في كتاب "تفصيل المجمل " وبالله التوفيق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين